الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل كان (مؤيد نعمة) معالجاً نفسياً؟

فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)

2006 / 1 / 4
الادب والفن


ثمة حكمة سيكولوجية يتبناها محترفو العلاج النفسي، تقول: ((الحقيقة تشفي النفوس، فإذا ما أردتَ من الناس أن يتطهروا – ولو جزئياً – من همومهم وصراعاتهم، فاجعلهم "يستبصرون" بحقائق ذواتهم والعالم)). وقد تبنى (مؤيد نعمة) هذه الحكمة إلى أقصاها في ميدان فنه العاقل/ الساخر من عصاب العنف وبارانويا الاستبداد، والمتضامن بمرح معتم مع النبل البشري المحكوم بالمطاردة والتضييق والخنق!
(مؤيد نعمة) لم يرسم إلا لوحة كاريكاتيرية واحدة، قدمها بصيغ متنوعة جداً، ومبتكرة جداً، عبر عقود عسيرة من التجربة الشخصية والفلسفية والفنية والسياسية، لأنه ببساطة لم يقدر أن يخونها ويرسم غيرها. ولنقرأ ما بين سطور هذه اللوحة/الرسالة، وهي تخاطب من يتمعن فيها: ((يا صديقي المتلقي..انظرْ معي إلى العالم، إنه مكان رديء جداً ومتناقض جداً. فالقبح يعشعش وسط احتمالات الجمال، والكذب يغطي مساحات الكلام، والظلم ينام قرير العين يحلم بمكاسب جديدة، والسادية تمارس ساديتها بضمير مرتاح، حتى البيئة مكتظة بالدم والبارود والجيف والآثام! ومع ذلك، حدقْ معي بعمق، فسترى أنه عالم قابل للتغيير، غير عصي أو ممتـنع عن الإصلاح، يحتاج إلى خطوتك الأولى، إلى انتفاضتك الأولى!)).
هذه اللوحة الوحيدة والدائمة التي أدمن رسمها (مؤيد نعمة)، أصبحت لها وظيفة اجتماعية يومية في نفوس آلاف المنتظرين لها، إذ أمست تحقق شفاءاً نفسياً خاطفاً لمن يتأملها (ومهما تكررت مرات تأمله لها)، عبر أربعة ميكانزمات لاشعورية تمارس تأثيراً علاجياً آنياً مدهشاً لأعراض اليأس والكرب لديه، ولعلها امتدت في أعماقنا لتمنحنا صلابة تكيفية بعيدة المدى:
(1) التوحد
يهتف العقل الباطن المتأزم بأعلى صمته: ((هذه اللوحة تقول ما أريد قوله أنا. هي عقلي الناطق ووجداني الساكت. إنها تتوحد بي! إذن، لستُ مخصياً إلى هذا الحد. لستُ غائباً أو مغيباً إلى هذا الحد. أنا موجود!)).
(2) تقاسم الإحساس بالذنب
يهمس العقل الباطن (الآثم) لنفسه: ((حسناً، هذه اللوحة تثبت بأنني لست الوحيد الذي يعرف الخطايا ولا يكافحها. هناك إذن من أتقاسم معه إحساسي بالذنب تجاه سلبيتي ولا فاعليتي. هذا يجعل معاناتي أقل!)).
(3) التكوين العكسي
يعبس العقل الباطن أول الأمر أمام اللوحة، وتغرورق عيناه بالدموع، لكنه يهمس لصاحبه (العقل الظاهر): ((إضحكْ، أو ابتسم على الأقل، واترك البكاء لي. أنا مسؤول عن تجرع سموم حزنك وخيباتك كلها، أما أنت فمسؤول عن التخفيف عني قليلاً، بأن تبدو متماسكاً ومرحاً..وضاحكاً!)).
(4)التطهر بتقزيم الشر
يندفع العقل الباطن المُستـَـلب لتفريغ أشد انفعالاته الحبيسة أسى وعمقاً وجدية، عبر مشاهدة أسبابها مجسمة ومشخصنة في لوحة أمامه، تعري نفسها، وتسخر من آثامها وحمقها، فيهلل مستبشراً: ((أيها الشر، ها أنت الآن خلف قضباني، مُنتـَهكٌ، مُـنتـَـقصٌ منك. نعم، أعترفُ بسلطانك على حياتي، لكنني الآن أفضحك، أقزّمك، أثأر منك، وأسترد حقي ولو بخطوط تسطـّر حقيقتك على الورق!)).
لقد خطا (مؤيد نعمة) بوعيه الجمالي التنويري أبعدَ من وعي اللحظة التاريخية المظلمة التي طوقته، إذ رغم غيابه الفيزيقي المبكر عن هواء العراق، إلا أنه أفلح بالالتحاق الأبدي بذاكرة الثقافة العراقية، بوصفه مروجاً أميناً لأيديولوجية (ليس أمامك أيها الإنسان المعذب إلا أن ترسم الشر والحمق، ثم تضحك منهما حتى تتسيدهما).
إن رحيله العبثي جدد فينا سؤالاً فلسفياً مريراً، كثيراً ما شاكسنا في أغلب مراحل حياتنا الشخصية والفكرية بمواجهة لغز الوجود: كيف يمكن لمؤيد نعمة (أو لأي مبدع للجمال والحقيقة) أن يخضع لمبدأ الانطفاء البيولوجي، كأي كائن عضوي آخر في هذا الكون؟ كما جدد لدينا مفارقة أن العظماء لا يُقـرّ بعظمتهم إلا بعد رحيلهم، ذلك إن الادراك البشري ما يزال (يحتاج) الى الموت بوصفه لحظة قدسية صادمة، تجعله يستدرك غفلته عن التمحيص بحقائق حياتية، كانت ساطعة وبمتناول تفكيره قبل تلك اللحظة.
سنفتقد كثيراً جلسات علاجك الكاريكاتيري اليومي معنا يا (فنان الشعب)، لكننا تعلمنا منك الدرس: ((إذا أردتَ أن لا تنحني أيها الإنسان المقهور، فلا تهدرْ طاقتك بحركات فائضة، بل كثـفْ بؤس العالم في لوحة صغيرة أو في فكرة مركزة، وستجد أنك الأقوى لأنك الأعرف!)).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة