الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهارب المُضاعَف

علي دريوسي

2016 / 12 / 4
الادب والفن


في بلد يحترف صناعة المعدات الثقيلة لا أحد لديه الوقت أو الرغبة كي يهتم بشعر الهاربين الخفيف!
باستثناء المجانين طبعاً.
ستدركون يوماً أنّ كلمة شاعر في ألمانيا مثيرة للسخرية.
تتكلمون عن أدب هروب وأدب "مدري شو" وكأنكم أدباء، وكأنكم تعيشون في القرن التاسع عشر!
اِبحث عن عمل أيها الهارب تقتات منه ثم تكلم عمّا تشاء.
*****

الهارب المُضاعَف

كتبَ لي أحد المعارف الحافظيّين رسالة يرجوني فيها أن أهتم بشابٍ سوري ينوي السفر إلى ألمانيا لغرض الدراسة بعد أن فقد كل أمل له في الوصول إليها. سنقول أنّ اِسم الحافظيّ الذي اِتَّصَلَ بحضرتنا هو ضرير، وضرير هذا سبق أنْ أساءَ لي أكثر من مرة، لم أنسَ يوماً إساءاته لكنني دستُ عليها كما أدوس على أعقاب السجائر، كما داس الشاعر مظفر النوَّاب على إساءات الناس، فكرتُ بيني وبين نفسي وقرّرتُ أنْ أساعد الشاب الذي يلعب دور الطَموح، من جهة لأنّه سوري في ظروف حربٍ قاسية، ومن جهة أخرى وددتُ أنْ أُلقِّن السيد ضرير درساً صغيراً وإضافياً في الأخلاق، وكما يفعل الرجال رغبتُ في الوقت نفسه أن أحفظ له ماء وجهه أمام الشخص الذي أوصى به، ما فعله ضرير معي هو قصة أخرى لعلني أحكيها لكم ذات يوم.

بعد ساعة من وصول رسالة الرجاء بالمساعدة، رنّ جرس هاتفي، كان الرقم غريباً يبدأ بالنداء اللبناني، استقبلت المكالمة، جاءني صوت الراغب بالخلاص، عرّف عن نفسه باسم مَدَّاح، تابع حديثه بلغةٍ عربية فصحى وبصوتٍ خطابي، هكذا حرفياً:

"أيها السيد البرفسور، كم أنت عظيم، سمعتُ عنك الكثير في سوريا وعن رحابة صدرك وكرم أخلاقك، سمعت عن مساعدتك لأخوتك السوريين، أنت تعرف أنّنا نعيش ظروف الحرب، لقد هربتُ إلى لبنان مؤقتاً لأنّهم يطلبونني منذ سنوات، بعد أن أنهيت دراسة الهندسة وحصلت على شهادة الماجستير، للخدمة الإلزامية للدفاع عن الوطن، وأيّ وطن هذا... أعيش الآن في لبنان ظروفاً سيئة على كافة الصعد، أحلم منذ سنين بالسفر إلى ألمانيا لمتابعة دراستي، لقد أرسلت إلى أكثر من مئة برفسور في المعاهد والجامعات الألمانية دون أن أتلّقى رداً ايجابياً، جميعهم رفضوا مساعدتي وإعطائي قبولاً للإشراف على دراستي العليا، لقد تقّدمتُ بطلبٍ إلى إحدى المؤسسات الألمانية للحصول على منحةٍ دراسية لكنهم اشترطوا عليّ قبل أن يفكروا بالأمر موافقة أحد الأساتذة الألمان على الإشراف ومساعدتي في صياغة ملخص البحث، أيها الأستاذ الكريم، دعني أقبل يديك ورأسك الجميل راجياً منك بل متوسّلاً إليك تقديم المساعدة لي والموافقة على إرسال قبول جامعي للدراسات العليا، أعدكَ أني سأكون عند حسن ظنك وفي قمة الاجتهاد والإخلاص، أبصمُ لك منذ الآن على استعدادي لقبول انتقاداتك وأفكارك واقتراحاتك..."

على هذا المنوال بدأ السيد مدَّاح مخاطبتي مرة أو مرتين على الأقل كل أسبوع، كنتُ أشعر بقدراته النفاقية وبأنّه طالما تعوّد على الصعود على الأكتاف قبل عام 2011 للهتاف باسم الأب والأبن.

قلت في نفسي، يالله هو إبن البلد، سأعطيه فرصة نظيفة للصعود على أكتافي أنا لعلّه يقطف تفاحة علمٍ صغيرة، أرسل لي أوراقه، درستها له بعناية، ساعدته في صياغة ملخص بحثه، ترجمتُ له بعض الأوراق، منحته قبولاً لدراسة الدكتوراه، تواصلت مع المؤسسة القيّمة على المنح الدراسية، تعهدتُ لهم باستعدادي للإشراف العلمي على السيد مدّاح.

اِنشغلتُ به لعدة أسابيع، كنتُ أضيّع من وقتي الثمين ووقت راحتي في نهاية العطلة الأسبوعية أكثر من ست ساعات إلى أنْ تمّتْ الموافقة على منحه منحة دراسية لمدة أربع سنوات قابلة للتمديد، تتضمن راتباً شهرياً بقيمة 1200 يورو ومصاريف التأمين الصحي ودورة اللغة وتكاليف السفر بالطائرة، وتتضمن أيضاً تعويضات الزوجة والأولاد في حال كان الشخص متزوجاً.

وصل الأخ مدّاح إلى ألمانيا، استقبلته باِحترامٍ، ساعدته في الحصول على سكنٍ يليق به، عرّفته على الوسط المحيط الذي أعملُ ضمنه، اقترحتُ عليه أفكاراً إضافية للعمل العلمي المشترك، عرّفته على أكثر من أستاذ ألماني في حال اِحتياجه للأسئلة الاختصاصية في مجال خارج مجال اِهتمامي العلمي، كنتٌ أعرفٍ أنّه لم يكن ليفهم ما يحدث حوله وكنت ألحظُ شروده واِزدواجيته إلى أنْ جاءَ اليوم الذي تكلمتُ معه عن أحاسيسي بصراحةٍ فما كان منه إلّا أنْ اعتّرف لي أنّه يقوم بمراسلة جامعات أخرى للدراسة لديهم حيث أنّه كما أقول دائماً: وضع الغريب أحلى من وضع القريب مع قلب أحرف كلمة وضع!

في الحقيقة أغضبتني انتهازيته لكنها لم تفاجئني، احتقرته في سري، ندمتُ على اللحظة التي مددتُ فيها يد المساعدة له، قلتُ له: أنت خائن!

وَدَّعته وتمنيتُ له إقامة جميلة في الجَنَّة الألمانية وكذلك الكثير من الفرح بمنحته التي لم يكن ليحلم بها لولا حذائي... اِتصلتْ بي المؤسسة المانحة بحكم كوني مشرفه العلمي، وسألتني عن مدى موافقتي على أنْ يقوم الولد مدّاح بتغيير الجامعة، بالمعنى القانوني كان لي الحق بحرمانه من رغبته بالتغيير، لكنني لم أفعل، لأنّ سلوك الرجل الحقيقي أرقى من سلوك كل المدّاحين الصغار...
في الحقيقة الذنب ذنبي فأنا لم أتعلم من تجاربي السابقة.
*****








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكينج وكاظم الساهر وتامر حسني نجوم حفلات مهرجان العلمين فى


.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت يتحدث عن كلمات أغنية ع




.. عوام في بحر الكلام - الشاعرة كوثر مصطفى تتحدث عن أعمالها مع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 8 يوليو 2024




.. الفنانة نادين الراسي توبخ أما تعنف طفلها وتضربه