الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اعراس فاطمة المرنيسي، موريتانياً وفلسطينياً

خالد الحروب

2016 / 12 / 5
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي



الصباح الاول في الرباط، محتفين بروح الراحلة الكبيرة فاطمة المرنيسي، ترد صباحي بالخير عليها ب: "صباح فلسطين"! اخجل، ابتسم ثم احضنها. سعدية نحيلة الجسد، عينان يشع منهما سؤال كبير وغضب مُتفلت من خلف عدستي نظارتها الواسعة. ينسدل على كتفيها شعر فضي ستيني السنوات يريد أن يكون اشعثاً، يلمع بأشياء وقصص كثيرة. جنوبية، فيها وهج خليط الصحراء والامازيغ لا يعترف بعقود السنين التي اندرجت في عداد عمرها. وقت الغداء وما بين استراحات ندوات المؤتمر تحدثني عن نضالات شبيبة اليسار في المغرب في سبعينات القرن الماضي، وتأثرهم بنايف حواتمة والجبهة الديموقراطية. ذاكرة سعدية لا تسعفها بالأسماء لكن يسعفها الوصف: كان معنا في دراسة الفلسفة ثلاثة فلسطينيين، واحد فتحاوي ممتلىء الجسد وباسم الوجه في معظم الاحيان، وإثنان يساريان من الجبهة الديموقراطية. احدهما إمتاز بجسد رياضي وغموض كبير، وكان كثير الغياب. كانت تدور حوله اقاويل تزيد من اعجابنا به. يغيب ليقاتل، كان الجميع يهمس. كان هناك فلسطينيون اخرون مع الجبهة الشعبية، وكانت اسماء كبيرة تتردد في فضائنا الطلابي الطافح بالأمل الثوري: ابو عمار، جورج حبش، نايف حواتمة. كنا نحن المغاربة لا نحس بأننا اقل فلسطينية من اي رفيق من رفاقنا الفلسطينين. كان زمنا جميلا ينحنى لجماله الجمال. قصص سعدية بديعة فتواعدنا على لقاء مطول لتقص علي حكايا فلسطين الستينات والسبعينات في المغرب. كانت تختم قصصها بأسى ثقيل: انتهى الزمن الفلسطيني في المغرب!
في المساء جاءت وتجولنا في شوارع في قلب الرباط، حي حسان وبيتريه وقريبا من متحف الفن المعاصر، تحدثني بذكريات تنز بالمرارة: "كنا مجموعات كثيرة وثائرة في اوائل العشرينات من اعمارنا، نفور بالأمل". رفعت نظري ذات استدارة طريق فرأيت موريتانيين وموريتانيات تحفهم ضحكات عالية ينزلون من سيارتين، الرجال بدراعاتهم الزرقاء والبيضاء الزاهية، والنساء بملحفاتهم الملونة بكل ألوان الفرح. سعدية فرحت بهم ايضا وانتعشت الصحراء في داخلها. انا تذكرت زمني الفلسطيني القصير (وغير الثوري) في موريتانيا. كالمنوم اللإرادي الحقتني قدماي شبه راكض بصحراء الموريتانيين وضحكاتهم التي ترجلت من سيارتين وامتدت وسط الرباط. تبعتني سعدية. "اش طاري .. وانتو قايسين منين"، اسأل متشاوفاً بما تبقى من لهجتي الموريتانية الحسانية. فرحوا بنا وانداحت التحايا والسلامات كأنما نزلنا سعدية وانا من سيارة ثالثة بدراعة وملحفة. اكتشفنا ان هناك حفلا طلابيا بعيد استقلال موريتانيا السادس والخمسين في البناية المجاورة، وأن هذه الواحات النازلة من السيارات تباعاً والمزركشة بألوان الكون تتجه إلى قاعة الإحتفال. انضممت للحفل من دون استئذان، طارت روحي طويلاً، ونقص عمري خمسا وعشرين سنة دفعة واحدة. قلت لسيدي ولد محمد، مضيفي المباغت، انني ذات زمن تسعيني دندنت وراء فيروز وهي تغني للقدس على شاطىء نواكشوط، وانني كنت خالد ولد الحروب. كنت اترك بيتي كل صباح واذهب إلى الشاطىء لأحضن طلوع الشمس على المحيط، واركض على الرمل بجنون. اعود لأبدأ نهاري كأله بحري فيه طاقة الكون. لا احد يعرف سري: اصلي ركعتي الصبح على وجه الماء والشمس تفرد شعرها سجادتي. احتفى المحتفون بما ذكرت وبي. عاد الزمن الفلسطيني مشتعلا على طول حافة الأطلسي من الرباط وما فوقها إلى نواكشوط وما تحتها. كل عام وانتم موريتانيين اكثر يا أبناء الكبرياء. وددت لو اعانق كل هؤلاء الالف الحاضرين والحاضرات.
في أزمنة ماضية كان عشاق فلسطين من كل العالم يعملون من اجل فلسطين ذاتها، لهذا كانت ازمنة مشتعلة. الطريق إلى فلسطين وفلسطين هما شيء واحد. في أزمنة راهنة وبائسة صار كثير من العمل لفلسطين هدفه السماء والحور العين وليس فلسطين ذاتها. الطرق للسماء والحور العين كثيرة وليست فلسطين الطريق الوحيد، ولم يعد مهما ان تظل طريقها حاضرة. هذا يفسر ولو جزئيا، برود النار الفلسطينية في كثير من بلدان العرب والمسلمين في زمن التأسلم وإدعاءاته، مقارنة بإشتعالها في أزمنة اليسار والروح الثورية.
على كل حال، ليس مُدهشا أن يحل بي كل هذا السحر في يومين وليلتين وتطلع لي فجأة شمس نواكشوط في ليل الرباط، ويحضنني محيطها تحت رذاذ تلك الأمسية التي تجولت فيها مع سعدية. ليس مُدهشا ان يحدث ذلك ونحن جميعاً في حضرة روح فاطمة المرنيسي، محتفين بقيامة كرسي الدراسات بإسمها في جامعة محمد الخامس، حبا وتقديرا ووفاءً. هنا جاء كثيرون من كل بحار العالم ليرتشفوا بعضا من روح المرنيسي المنثورة في هواء المدينة بعد مضي عام على غيابها. نلتف حول غيابها الحاضر: زوار وقادمون كثر من قارات عدة، ودول كثيرة، ومدن متباعدة، وجامعات عرفت قاعات صفوفها فاطمة وافكارها. قادمون من بواد وارياف واحياء مهمشة قضت فيها فاطمة اوقاتا مديدة، وناسها صاروا يعرفون اللالا فاطمة طويلا ومديداً ايضا. من الزاكورة في جنوب شرق البلاد وحي كريمة في سلا إلى ابعد صحارى اطالس المغرب المنسية. ارتفعت كل القبعات تقديراً للمبادرة ومن ورائها والرجلان الذان اشتغلا عليها طويلاً إلى ان توسد الكرسي هضبة الأطلسي: إدريس كسيكس مدير معهد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والادارية هنا، والمختار الهراس استاذ علم الإجتماع بكلية الآداب، اسمان لامعان في سماء الرباط وسماء فاطمة. واحد من جوانب إبداع فاطمة المرنيسي انها انتقلت من نصوص النظريات إلى شوارع الاحياء الشعبية، إلى النساء الأميات، إلى اولاد الشوارع، إلى الفتيات البسيطات ينسجن السجاد وراء الأنوال البسيطة، ومن هناك صارت تكتب وتنشط اجتماعياً. لم تتأبد في أسر النظريات، تحررت منها وذهب في الإتجاه المعاكس، إلى الناس الذين تظل حركتهم تنتج افكاراً ونظريات جديدة لا تنتهي وتبطل نظريات قديمة. إن عدد البعض نظريات وافكار المرنيسي، فإن البعض الأكثر معرفة بفاطمة يضيفون إلى ذلك "ناس المرنيسي" ايضا: يضيفون محمد بنور الذي بسطت فاطمة يدها له وانتشلت منه فنانا تشكيلياً صار ذائع الصيت، وكريم سائقها المخلص الذي صار معروفا لدى كل اصدقائها العالميين قبل المحليين، واحمدو الترزي، والعربي، والنساء اللواتي يصنعن احذية البلاستيك ويبعنها على ارصفة حي كريمة الشعبي وقوائم لا تنتهي من الناس العاديين الذين خلدتهم فاطمة في حياتها ونصوصها.
بعد اول لقاء لي معها منذ ازيد من ثلاث عشرة عاماً طوينا الأوراق واخذتني في زيارة سحرية إلى القلب العتيق والجميل للرباط "سويقة القناصلة". قالت، الذي لم يزر «حي الوداية» على الهضبة المطلة على الأطلسي، لا يعرف الرباط ولم يزرها. الذي لم تمتلئ رئتاه من هوائها الثمل برائحة بحر الأسرار وأريج السحر المبثوث في أزقتها، لم يزر المغرب. الذي لم يشرب أتاي «الوداية» يخسر وعد العودة إليها، ولا يخضر قلبه ولا سنوات حياته القادمة.
كنا قد هبطنا من «الوداية» للتو بعد أن أدينا طقوس التعميد بأتايه الأخضر في المقهى الشهير المطل على الماء الممدود حتى الشمس. يستظل الناس بعتق بيوتها الأندلسية المذاق والأفنية، تتجاور وتتعلق على سفوح المنحدر الصخري الواقع عليه الحي، تهزأ بالأزمان والجدران المتهالكة وكل قوانين الحياة. الأزقة الضيقة تبدأ من حيث لا بداية، وتنتهي إلى حيث لا نهاية، لكنها تدور بالزائرين دوران صوفي يهيم بنشيد توحد ملغز. نخرج من البوابة الكبيرة وننظر إلى المدينة الحديثة لكأننا نخرج من عالم السحر إلى الرتابة، فنريد ان نعود. لروحك يا فاطمة السلام تدور في الكون بلا توقف، ولها العرفان على كل هذا السحر في هذين اليومين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية


.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس




.. إيران تحذر إسرائيل من استهداف المنشآت النووية وتؤكد أنها ستر


.. المنشآتُ النووية الإيرانية التي تعتبرها إسرائيل تهديدا وُجود




.. كأنه زلزال.. دمار كبير خلفه الاحتلال بعد انسحابه من مخيم الن