الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في -الساهرات أصبحن خارج البيت- ل زهيرة زقطان

خالد درويش

2016 / 12 / 12
الادب والفن


قراءة في "الساهرات أصبحن خارج البيت" لـ زهيرة زقطان

"الساهرات أصبحن خارج البيت"* كتابٌ موّجهٌ لقارئٍ ذكيٍّ، يعرفُ الكثير.
كتابٌ لقارئٍ يُتقنُ التنقلَ برشاقةٍ بين الألفيات؛ يسمعُ رنينَ الصنوج على أبواب المعابد البعيدة وهو يودّعُ شهيداً محمولاً على النعشِ في الطريقِ إلى مقبرةِ الشهداء في واحدةٍ من الحروبِ الجديدةِ على البلاد.
لقارئ يستطيعُ المشيَ في أسواقِ أوغاريتْ بحثاً عن خواتمَ وقلائدَ خرجتْ طازجةً من بيتِ النارْ، ويعرفُ كيف يركضُ في طريق الملاجئ من قصفِ طائراتِ الأعداءْ على بيروت المحاصرة.
في هذه المجموعة ذات العنوان الخلّاب "الساهراتُ أصبحنَ خارجَ البيت" تحمل زهيرة وقائع حياتنا المألوفة وتحلقُ بها في آفاق لم نألفها في ما نعرفه من تجارب الكتابة والابداع في ثقافتنا الوطنية.
تداخلُ الأزمنة هو ما يميّزُ عوالمَ زهيرة، كما في مطرّزاتها اللافتة باستخدام الرموز، والمعارف الأكاديمية عن الفلسطيني الأول، كذلك في أشعارِها المبثوثةِ في هذه المجموعة.
هنا نعثرُ، بلا عناء، على مرجعيات ثقافية في ميدان الميثولوجيا تعززها تفاصيلُ تجربةٍ عايشتْها الشاعرة، ووظفَتْها بشكل بارعٍ وهادفْ من خلالِ المزاوجة بين ما كانَ هناكْ، في الماضي السحيقْ وما يكونُ هنا والآن.
تقولُ زهيرة في قصيدةِ "تُهتُ في زحمةِ القادمين من البحر":
"في سوقِ اوغاريتْ،
في زحمةِ القادمينَ إلى السوقِ من البحر
أضعتُ أمي،
ثم أضعتُ قلائدي وأساوري
ثم أضعتُ كفَّ الباب
ثم تُهتُ في الطريقِ إلى البيت،
ما الذي تبقى لابنةٍ أضاعتْ أمَّها،
ثم طريقَها إلى سوقِ النحاس؟"
باختزال يتطلع إلى التكثيف (وهو سمةُ الشعرِ الحيّ) لا تقفُ زهيرة عندَ الحدثِ الطارئ، إلا لتجعلَ منه رمزاً له طابع الديمومة.
ففي قصائدِ حصارِ بيروتْ والحربِ الضاريةِ على المحاصرين تعرضُ الشاعرة صورَ الأحبةِ على الجدار وقلائدَ النرجسِ عند سرير الحبّ الذي نالتْ منه قذائفُ الأعداء، وتشيرُ إلى الأرملة التي تنظفُ مقاعدَ المقهى من دخانِ القصفِ، وهي تُعيدُ المفارشَ الطائرة إلى الموائد.
وفي مراثي خروجِ المحاصرين على مَتنِ سفنِ الاغريق تُشعرُنا بحرمانِ المقاتلِ من تذوقِ فاكهةَ الصيف، ومن وقائعِ فاجعة صبرا وشاتيلا تنتقي موتَ الحصانِ الأبيض كمداً وغمّاً على موت صاحبه.
لغةُ المجموعة، على تباينِ موضوعاتها، بسيطة كماء الينابيع، خفيفة مثلَ سلامٍ عابر بينَ غريبين في عربة القطار، ولكنها تُنشئ أجواءَ غاية في الحميمية والدفء، تلامسُ القلبَ قبلَ أنْ تصلَ الذهنَ البارد. إنها لغةٌ تشبه كلامَ الآلهة المرسَلَ إلى الناس محمولاً على نداءِ الرسلِ وبشاراتِ النبيين.
هنا، في أجواءِ المجموعة الكثيرُ من الحروب، وما من كراهية، ضجيج العنف يعتري كلَّ شيء، والكلام يجاورُ البوحَ والسكينة.
هنا الدم والعويل، ولكن الأملَ شاخصٌ كسحابةٍ ماطرةٍ في الطريقِ إلى الصحراء.
هنا امرأة ثكلى بوحيدها الجميل... ولكن موتَهُ الطويل الثقيل على الروح لا يعدو كونه إغفاءةَ تعبٍ قصيرة.
من أينَ أتتْ زهيرة بهذه الشحنةِ العالية من القدرة على مواجهة الكارثة!
لنصغي إلى هذه الحالةِ الوجدانيةِ الكثيفة في مقطعٍ من قصيدة "هو لي.. وأنا للغياب":
"عادَ من نوبةِ الحراسةِ منْ أحبّ
نائماً ومتعباً في عربةِ الجنود
مستغرقاً في النوم،
وحتى لا أوقظَ نومَه
خلعتُ أساوري؛ كيّلا ترِنُّ أجراسُها
قلتُ للنساجات:
لا أوقظهُ حتى يشاء.
فقلنَ:
أنتِ عاشقةٌ خائبة
تمارسُ خرافَتَها؛
هو ليس نائم،
هو ميّت.".
البطلُ الثاني في الحكاية، ذلك المجهول الذي يختفي عادةً وراءَ شخصيةِ البطلِ الأولِ الساطعة، يتقدم في قصائدِ "الساهرات اصبحن خارج البيت" بكلِّ الزخَمِ والانفعالات المكنونةِ في شخصيتِه. فجلجامش، بطلُ الملحمةِ التي تحملُ اسمَهُ تائهٌ بالأسئلة، في حين يبدو البطلُ الثاني (أنكيدو) في دورِ الذي يرى ويسمع ويعرف..
تقول القصيدة:
"جلجامش
الذي لم يرَ كلَّ شيء
والذي لم يعرفْ،
تائهٌ بالأسئلة:
أنكيدو، يا صديقي الذي أحببتْ:
هل رأيتَ الذي تُرِك جسدُه غيرُ مدفونٍ في البريّة؟
رأيتُه. كان هناك، لا أم ولا أب يُسندانِ رأسَه
وروحُه طائرةٌ لا يعتني بها أحد.
وهل سمعتَ صوتَ الذي لم يُدفنْ جسدُه في البريّة؟
سمعتُه.
كان وحيداً وجائعاً، وكان يبكي".
ومن فضاءات هذه المجموعة ارتأيتُ أن نقرأ معا المقطعَ الأخير من قصيدةِ "بغداد":
"على خشبةِ المسرح
صعدَ المتفرجون لأداء العرض
مثلوا قصصَ حبٍّ خاسرة
لنصٍّ بلا خلود
عن عشبةٍ ميّتة"
هنا، في هذ النصِّ الفقيرِ بمفرداتِه، الغنيِّ بدلالاتِه ومعانيه، لا تقول زهيرة أكثر من عبارة يحيا الموت، والمجد للخسارات!.
إنها فلسفة عميقة نواجه تجلياتَها في حياتِنا اليومية البسيطة تعبّر عنها الشاعرة ببضع كلمات.
لنقرأ، أيضا:
"على الطرفِ الأخيرِ من اليابسة
تفردُ مملكةُ يَم الصامتة
حِجرَها لهزائمِ النساء
وفي حِجرِها المُعتِمِ
تنامُ نساءٌ يُشبِهنَني،
وتصمِتُ على ركبتِها أغاني أخواتي.".
في ختام هذه المجموعة، تغادرُ زهيرة سفوحَ الحقائقِ الكبرى المتصلةِ بكينونةِ الفلسطينيِّ الأول وكيانات المنافي، وتأخذنا بيدٍ حانيةٍ متعبة إلى منعرجات روحها. حيث الحديثُ الهادئ مع الأمِّ عن شجرةٍ لا تتساقطُ أوراقُها في الشتاء عند قبرِ الأبِ في الرصيفة، ورحلةُ الأمِّ وأخواتِها الثلاث إلى مرابع الصبا في قريةِ زكريا بحمولةِ المنفى الطويل، وسيرةُ الأمِّ التي تبدأ بشرفةِ عربةِ القطار ذات الستائرِ القديمة، وتنتهي عند الخزانةِ البيضاء المكشوفةِ للأولاد، وعلبةِ الصورِ والرسائلِ التي فرغتْ من الحلوى.
---------------
* "الساهرات أصبحن خارج البيت" مجموعة شعرية جديدة للشاعرة الفلسطينية زهيرة زقطان، صدرت حديثا عن "الدار الأهلية" في عمان.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ندوة الرواية والفنون: روايات واسيني الأعرج أنموذجا- الجلسة ا


.. ندوة الرواية والفنون: روايات واسيني الأعرج أنموذجا- الجلسة ا




.. دوة الرواية والفنون: روايات واسيني الأعرج أنموذجا- الجلسة ال


.. أرملة جورج سيدهم تتبرع بقميصه في مسرحية المتزوجون بمزاد خيري




.. ندوة الرواية والفنون: روايات واسيني الأعرج أنموذجا- الجلسة