الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عدالة السكارى ..!

ميشيل زهرة

2016 / 12 / 12
الادب والفن



مؤلم أن يرحل آخر الأصدقاء الأنقياء.!!

( هذا ما أرسله لي صديقي على الفيس ، عبودي ، ابن خالتي ، كي أنشره على صفحتي بعد انقطاع النت ما يربو عن اسبوعين ..طالبا مني الاعتذار عن غيابه للصديقات ، و الأصدقاء ، بالنيابة عن شركة الاتصالات الفاشلة ، في المنطقة التي يقطن فيها ..و قد طلب مني أن أضع عنوانا لنصّه بعد تعديله . و أنا بدوري ، أقدم لكم أحرّ ، التحيات ، و المحبة جميعا . )

ستشعر ، إن حدث لك ذلك ، إن كائنا في داخلك قد مات ..! و إنك خسرت ما يدفع لبقائك . إذا كنت من النوع المُكتفي ، و القنوع . و خاصة إذا لم يكن لديك قدرة التلاؤم مع الهدم ، و البناء الجديد . حتى في العلاقات الاجتماعية . فما بالك ، و قد أدمنت صداقة الراحل صاحب الروح المرحة التي تنطوي على قهر ، و ضغط ، أهلك الجسد ، و الروح معا ..هو ذلك الشخص الذي أدمن السياسة ، و معارضة السلطة ، و لم يفلح في تقويم المعوجّ ، حين تساقط الرفاق واحدا تلو الآخر ..فأدمن الخمرة ، مع صديقه المتبقي من جيله بعد الحرب القذرة في سوريا.
كل ما يأسف عليه ، مُزن الصافي ، خلفه ، بعد رحيله عن هذا العالم المليء بالشرور ، و الدماء ، و الحرب ، حسب قناعته .. صديق حميم ، كان يقاسمه جلساته الخمرية على الشرفة المطلة على الشارع الرئيسي في البلدة . و ابنه الأقرب إليه .. و الذي يعقد عليه آمالا خيّرة ، تجعل روحه مطمئنة ، هانئة في دخول الظلمة الأبدية ، اللذيذة ، بعد ما نهش نور الحياة فؤاده ، و أودى به إلى النهايات المحتومة . فلا الماء متوفر ، و لا الكهرباء ، و لا الهاتف ، و لا شبكة النت التي كانت ملاذه الوحيد في التواصل مع هذا العالم . لذلك على غفلة ، صعقته الحياة بشظية قنبلة .. و أقفلت قلبه إلى الأبد .
كانا يجلسان دائما على شرفة بيت المرحوم المطلة على الشارع ، و يتحدثان ، و يشربان العرق ، و يدخنان النارجيلة بشراهة ، ويعيدان الذكريات التي تعطي الروح شحنة متابعة الحياة . يضحكان بصوت مسموع لكل المارة في الشارع الرئيسي للمدينة الصغيرة التي يقطنان بها ، و المقسومة إلى خندقين متصارعين . عندئذ يعقدان جلسات المحاكمة لجميع الذكور العابرين ، بعد أن يطيح الخمر بكل الحواجز ، إلا جدران النسيان التي تزداد ارتفاعا ، بين حاضر مؤلم ، وماض كان رحماً لهذا الحاضر الذي يعضّ الشعوب السورية حدّ الموت . لقد تناولت محكمتهما رجالات المؤسسات جميعهم في المدينة . فلم تفلت منهم مؤسسة واحدة ، إلا و قد خضعت للمحكمة الخمرية ، على الشرفة السكرى .
كانت أصوات الرصاص تعلو فوق كل الأصوات ..و الموت يخيم فوق المدينة كقدر همجيّ أحمق . و الدماء تلون الشفق السوري الممتد على طول الشاطيء الدامي للمتوسط . القذيفة التي سقطت قرب الشرفة السكرى .. و تشظّت ، كما تشظّى المجتمع السوري ، مزقت قلب الراحل مزن . و أطفأت ضحكته ، و بريق عينيه إلى الأبد..! و جرحت صديقه ، و ابنه .
في يوم الوفاة ، جاء صديقه الحميم مخمورا ، تفوح من أنفاسه رائحة العرق ، إلى صالة التعزية بالراحل . و بعد أن أدى الواجب التقليدي ، من كلمات مجاملة تُقال بهذه المناسبات .. و استوى في جلسته ، و شرب القهوة المرّة ، حتى انفجرت في داخله عاطفة مركبة ، و معقدة جدا .كأنها وصلت حدّها الأعظمي ، فانقلبت إلى ضدّها . تحولت إلى صوت أشبه ببكاء ، كما خيل للمُعزّين . فأشفقوا على الرجل . معتبرين أنه من أكثر المقربين إليه ، و أكثرهم حزنا . و من حقه أن يُعبّر عن آلامه ، و لوعة الفراق . و عندما اتضح أن الصديق الحميم ، للمرحوم ، و الذي يناديه أولاد صديقه الراحل : يا عمي .. و زوجته : يا أخي .! كان يضحك ضحكا فاضحا ، ليس من أدبيات صالات التعزية . أو الخيام المرفوعة بهكذا مناسبات . فصار محطّ أنظار الجميع ، و خاصة أولاد المرحوم ، و من يخصّه ، و الحاضرون الذين بدأت تغضّنات الغضب ، في وجوههم ، تنبيء برفض حضور الرجل الذي لم يحترم روح صديقه ، و مناسبة رحيله . ما عدا ابن الراحل الذي يفهم عمق علاقة الصديق بابيه . لأنه رفيق الشرفة غالبا . و كثيرا ما كان مُزن يُعبّر لصديقه عن مدى صلته بابنه الصغير قائلا : إن هذا الولد يا صديقي .. أشعر أنه أبي ، و أنا ابنه ..! يستوعبني هذا الولد ..و أشعر أنه أكثر نقاء مني ..و أكثر ذكاء ، و قدرة على التفسير ..إن مت يوما يا صديقي ..اعلم أنه سيكون وليا على عهدي . لذلك ..صادقه ..كن له نديما ، وندا .
كان الموقف مُحرجا لعبودي ، بعد انكشاف قهقهته ، لا بد أن في الأمر لغز ..لم يتضح إذا لم يقل الصديق شيئا يخرجه من ورطته أمام الحضور الذين أوشك بعضهم أن يرمي به خارجا ، لو لم يقف بكل شجاعة ، و حزن ، مختلط بابتسامة منكسرة مازالت على محياه ، و كأن صورة الراحل أمام ناظريه قائلا ، موجها الخطاب للجميع :
( يا سادة ..إن من مظاهر قلة الأدب أن يضحك المرء في مناسبة كهذه ، و أنا لم أفقد عقلي ، كي أفعلها ، و أنا ، كما تعلمون ، كنت صديقا ، و أخا للمرحوم ..و الجميع شاهدَ جلساتنا ، على الشرفة ، و ضحكاتنا المجلجلة ، التي ما كنا نبوح بسببها ، لو سئلنا عنه ..وحدنا من كان يعرف السبب ..و لا تستغربوا ، أني لو حكيت لكم عن ( المحكمة ) التي كنا نقيمها لرجال المدينة بكل مؤسساتها ، الذين يمرون ، راجلين ، أو في سياراتهم ، من أمامنا ، و أنتم منهم ، ومن المفترض انكم أمواتا .. ونحن نحتسي الخمرة ، و ندخن النارجيلة ، لانفجرتم ضحكاً مجلجلاً أيضاً ..و لغفرتم لي ضحكتي هذه ..هذا ، عدا عن أن المرحوم ، ترك في رقبتي وصية ، ألا أحزن عليه ..و ألا أبكيه ..بل قال لي بالحرف الواحد : إذا مت قبلك ..اجلس على الشرفة ذاتها ..و اشرب الخمرة مع ابني الصغير ، و دَخّن النارجيلة ، و استمر ، أنت وابني ، في محكمتنا التي أقمناها ..! هذا ما قاله لي أخي ، و صديقي الراحل الذي اقتطع شيئا من روحي برحيله ..لكن ما أضحكني يا سادة ، الآن .. أنكم محكومون في محكمتنا ، التي كنّا ، أنا و هو ، قضاتها ..! و قد أعدمناكم جميعا ..نعم جميعا لأنكم مذنبون بتهمم ما ..كنا نُحضّر لكم التهم حسب سلوك كل منكم ، و عمله ..فكل من استغل وظيفته ، أو ارتشى ، حتى ليرة واحدة ، أو فعل ما يتنافى مع الأخلاق الوطنية ..كنا نحاكمه ، و نشنقه .! كل من هو موجود في هذه التعزية هو بحكم المشنوق ، أو المرمي بالرصاص ..و أنتم تعرفون روح المرحوم المرحة ، و خياله الخصب ..فواحد نشنقه من خصيتيه ..فهل تخيلتم أنفسكم في هذا الوضع.؟؟؟..و آخر من رقبته . فهل شاهدتم مشنوقا و قد التوى فمه ، و مطّ لسانه ، و طال عنقه ههههههه..؟؟ حتى شنقنا في محكمتنا جميع ذكور هذه المدينة ، ما عدا الأطفال الذين تخيلنا : إنهم سيصنعون المستقبل .
لكن المضحك ، المبكي ، أننا شنقنا الجميع ، و لم يبق في المدينة إلاّنا ..ففكرنا على خلفية الخمرة التي تمكنت من انفلات الوعي : من سيشنق الآخر ..أنا أم هو ههههههه..؟؟ لأننا لو بقينا على قيد الحياة كلانا ، لاختلفنا على السلطة ..هههه .! و تخيلنا إن النساء ، اللواتي بقين ، يملأن المدينة ..و لم يبق من مخصب إلا واحد منّا نحن الإثنان ههههه ..! ألم يحتج العالم لنشء جديد أكثر نقاء ، و صفاء ..؟؟ يومذاك ..أذكر أننا اختلفنا بيننا ..و تخيل كل منا : إن صاحبه سيشنقه ..و سيطرت على كلينا عواطف مريرة ، غير مفهومة ..و دبّ الخلاف بيننا ، و تغيرت عواطفنا ، بسبب امتلاك العالم ، لمدّة أسبوع . و لم نلتق خلاله على الشرفة ..لو لم يطرق بابي صديقي ، السلام لروحه ، و يقول لي ضاحكا ضحكته الصاخبة ، بعينيه الطيبتين ، و وجنتيه الورديتين :
حتى لو أبقيتني يا صديقي ، دون أن تشنقني ، لن أزاحمك على شيء .. و لن يطلع من أمري ، مع النساء ، شيئا ..ستُعيد لوحدك إنتاج المدينة ، و المدنية أيضا..! فأنا أتنازل لك عن السلطة ، وعن كل الأرامل ..ههههههههههه..و لك الأمر سيدي ..! فقط ، لا تنسى ، اليوم عصرا ، أن تجلب معك لترا من العرق البلدي ..و الباقي ساتكفل به أنا ..و سوف نشرب كالعادة .. وندخن النارجيلة ..و نضحك بكل ما نستطيع من فرح . و سنشنق من نريد من السفلة ، و خونة الشعوب ، و نُرمّل النساء ..و الحياة ستفعل فعلها ..!!! فهل عرفتم يا سادة ، ما الذي أضحكني ..؟؟؟
عندئذ خرج الحضور عن المألوف . كان كل منهم يداري ضحكته ، و هو يتحسس عنقه ، المشنوقة افتراضيا ، في محكمة الشرفة الخمريّة ، التي رحل أحد قضاتها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟