الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابن الأرض: أو حين تتمثّل القيم رَجُلا مهنته عامل

ميمون أمسبريذ

2016 / 12 / 14
الادب والفن


تمهيد
اليوم سأجْتَرِحُ كبيرةً. بَلْ سأجترح كبيرةَ الكبائر: سأكتب مَرْثِيّةَ رجلٍ من الشعب (ولست ممن يقدسون الشعوب: فإن للشعوب ضلالاتها...). أو لِأَقُلْ: سأكتب مرثية إنسان من "العامة" – بالمعايير الاجتماعية: إنسان لا هُوَ بِكاتب ولا "شاعر" ولا عالم ولا موظف سام ولا إطار...
سأكتب مرثية إنسان إنسانوي (دون الفلسفة الانسانوية): انسان استطاع، في عمره القصير وبدون مفاهيم نظرية ولا خطاب، أن يُحَيِّنَ كثيرا من مضامين الإنسانوية مترجِما اياها الى أفعال ومواقف وأحوال تَسْمو بالإنسان – حين يريد – من منزلة البشرية الى مقام الإنسانية.
لكن قبل ذلك أُحبُّ أن أطمئن القارئ المُحتمل : إنه ليس مِنْ نِيَّتي أن أنصب هنا خيمة للعزاء أَنُثُّ فيها مَواجِعي وأبكي فيها عزيزا تَخَطَّفَه الموتُ منا على حين غِرّة؛ فإنّ مَحلَّ ذلك الوُجْدانُ لا صفحاتُ الجرائد. ثم مَنْ مِنَ القراء لَمْ يُرْزَأْ في عزيز؟! أفَنَجْعلُ الصحف مراثيَ ومآتم؟!
وإنما قصدي ومُبتغايَ أن أحْتفِيَ بِقِيَمٍ تَمَثَّلَتْ رَجُلاً. وفي سبيل ذلك سأقمع – ما استطعت – تباريح الفؤاد المَكْروب، وأكبتُ – جهْدي - نيران الحرقة على أخ ما كان أحْوَجَهُ الى الحياة وما كان أحْوَجَ الحياة إليه!
الفاجعة
مَرَّ على رحيلك أسبوع – أسبوع قتَلنا ألما وغضبا وحسرة على فقدانك بالطريقة العنيفة والمفاجئة تلك – ولَمّا أعقِلْ، ولمّا أفهمْ كيف ينعقد عليك ذلك الاجماع! إجماع على الحب المطلق لشخصك من كل فئات مجتمعنا المَحَلِّي: لا فرق بين مَيْسوريه ومُعدَميه، ولا بين أمِّيّيه ومُتعلِّميه، ولا بين نسائه ورجاله، ولا بين كباره وصغاره، ولا بين متخاصميه ومُتوادِّيه... هرعوا الى مأتمك زُرافاتٍ ووِحْدانا من بلدان الشتات ومن كل فَجٍّ عميق من فجاج هذه الأرض التي أحببتَ حتى الموت. كانت قلوبهم شتّى فاجتمعت على حبك: جمعتَ حيّا وجمعت ميتا. حتى لم يكن يُدرى مَنْ يعزي مَنْ، ومَنْ أهْلُ الميت ومَنِ "الأغراب". وغَدَا المعَزّون يعزي بعضُهم بعضا في مأتم جماعي كلُّ الناس فيه أهل!
المهنة: عامل
كان ذلك وكان غيرُه مما ظل يعْتَمِل في صدور الكثيرين مِمَّن أقعدهم المرضُ أو حال بينهم وبينك حائل فلم يحضروا مأتمك – وأنت الانسان الذي ينطبق عليه، اجتماعيا، نعتُ "الانسان البسيط": بين يدي الآن عقد وفاتك – المهنة: عامل.
فكيف لمجتمع حسبناه قد فقد قِيَمَه الأصيلة الى غير رِجْعَةٍ وغدَا مجتمعا ماديا، تَراتُبِيا، تقوم فيه العلاقات على أسُس نفعية – كيف لهذا المجتمع الغارق، ظاهرا، في الآنيِّ والفوري والمادي والنفعي والاستهلاكي أن يُعلِّق كل أشغاله وانشغالاته، ويتجردَ من أدرانه الأرضية وأرجاسه، وينخرطَ في طقس رثاء جماعي للذات؟ لاشك أن جزءً من الجواب يكمن في أنك كنت تجسد وعيه الشَّقِيَّ، هو الذي تنكّر الى حد بعيد للقيم النبيلة التي ظلَلْتَ متمسكا بها طيلة حياتك حتى التطرف: قيم السماحة (ولا أقول "التسامح") والإنْهِمام بالغير والإيثار وحب الأرض حبا وَثَنِيّا.
ربما شعرت الجماعة، على نحو غامض عبّرتْ عنه في طقس المأتم الجماعي ذاك، بأنك كنت تمثل بشكل ما ضميرها الحي الذي لم تفلح إرغاماتُ الحياة وضغوطُها، ومطامحُ الأنفس وأطماعُها في إقباره، وظلَّ حيا يصارع من أجل البقاء من خلال الأنفس الخيِّرة التي كنتَ منها...
الأُسوة والمثال
أفلا نجعل من الرُّزء الذي حلَّ بنا بفقدانك سببا للإيمان بإمكان بناء مجتمع تسوده قيم الحب والخير والجمال (الروحي)؟ بلى! فقد دلَّ الحدث-الرُّزْءُ على أن في الأنفس بذورا كامنة قابلة للاستنبات. وما يصدُقُ على مجتمع محلي لابد أن يصدق على المجتمع المُوَسَّع. آية ذلك أنه حضر إلى مأتمك – كما أسلفتُ – أناس من مختلف الفئات الاجتماعية والمرجعيات الفكرية والمذهبية والحساسيات العشائرية والسياسية، وما إلى ذلك مما يفرق بين الناس في سائر المجتمعات...
وما ذلك إلا لأنك كنتَ – في حياتك - منفتحا على الجميع: تأخذ بالمشترك وتسكت عما سِواه. يتساوى عندك المتدينُ المظهرُ لتدينه والمؤمنُ المتكتِّمُ واللاّأدريُّ الذي لا يقْطَعُ بشيء والمُرجِئُ والمتفلسفُ والمتصوفُ... لا تقصي منهم أحدا من التواصل والتضامن غير المشروط، مقتنعا – وأنت المتدينُ فِطْرِيّا حتى النخاع – بأنه ليس لك أن تحكم على أحد فيما يتصل بالمعتقَد. ولم يكن هذا منك عن دراسة درستَها (لم تلِج المدرسة أبدا: أهذا ما يفسر ذاك؟!) أو تأثرٍ بفلسفة ليبرالية ما، وإنما هو ثمرة تنشِئة اجتماعية كانت قائمة على ثقافة الايمان بإمكان التعايش الإيجابي بين حَمَلَةِ عقائد وأفكار وأنماط حياة متخالفة ليس لأحد الوصاية فيها على أحد (إلى أن كانت المدرسة "العصرية" وكان "الإعلام"-الدعاية وكانت الصحون المقعرة ثم اليوتوب...).
لم تكن أنانيا ولا طائفيا ولا قوميا...
كنت انسانا وحسب. أما الأرض فإن أديمَك من أديمها؛ تأتيها من مَهْجَرِك في العام الواحد مِرارا: تُحيي مَواتَها، وتتولّى بالحَدَب شجيراتِها، وتُقيمُ ما تهدَّم مما خلّفه السلَفُ فيها... إلى أن قُتِلتَ في بعض شعابها، وقديما قيل: "ومن الحب ما قتل". فضمَّتك الى صدرها أُمّأ رؤوما لابن بارّ كان يُمَنّي النفسَ بالإقامة فيها فأقام حتى الاندغام.
والآن، وقد عنّفتُ نفسي كي "أُمَوْضِعَك" وأُعَقْلِنَك لأستخرج من حياتك ومماتك علامات يهتدي بها الأحياء، دعني أعتذر اليك - أنت الذي لم تفعل إلاَّ ما كنتَ، ولم يَجُلْ بخاطرك أبدا أن تكون أُسْوَةً لأحد.
العهد
فَعَهْداً ووَعْداً أيها الأصيل أني لن أتركك حتى تَضُمّني التربةُ التي ضَمَّتْك: سأبعثك حيا في كلمات اللغة التي لم تسكن غيرها والتي– مثلك – لم تلوثْها الايديولوجياتُ والخطابات : لغة الأرض والحياة. سَأُسْكِنُكَها كما أسكنتُ أبَوَيْكَ من قبل، مع الطيبين الذين عَمَروا تلك البقعة من العالم ومضوا الى حيث مضيتَ خِفافاً إلاَّ من آلامهم وآمالهم، ومِن عِشقٍ للحياة كبير.
3 – 9 ديسمبر 2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي