الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-شهران متتابعان قبل التماس-

سعيدي المولودي

2016 / 12 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


في هذا الزمن المغربي العكر نكتشف أن المشهد السياسي يهبط لقارعة الحضيض ،ضاجا بسيل من المفارقات والمتناقضات ذات طوابع غريبة لا تعبر إلا عن مظاهر كساد فكري وسياسي واختلالات على مستوى الممارسة، تؤشر بشكل صارخ إلى هيمنة اللانظام واللاجدوى على كثير من الرؤى والمواقف والبرامج التي توجه نواميس اللعبة السياسية ، ومن هنا يتأكد يوما عن يوم أن الخطابات السياسية السائدة يمينا ويسارا وما بينهما هي خطابات ليس لها في الجوهر إلا غايات تضليلية تنزع إلى إخفاء وطمس واقع المجتمع المغربي ومعضلاته،والوقوف أمام بروز ثقافة جديدة تهدف للتغيير أو بناء استراتيجية نضالية لتجاوز الواقع القائم، ولذلك لن نستغرب طقس الإجماع المدهش الذي يؤاخي بين كل الأحزاب السياسية ويجعل مقاصدها في النهاية تصب في نشوة الدخول في الحكومة والمشاركة فيها، والتهافت على المواقع والمناصب والامتيازات التي يوفرها التواجد فيها، وعدم الاكتراث تماما بمطامح التغيير الاجتماعي والتعبير عن تطلعات المجتمع واختياراته.
الآن بعد مرور ما يزيد عن شهرين متتابعين من الانتظارية، ظلت فيها البلاد في حالة استنفار تتقاذفها أمواج المساومات والمضاربات والمناورات الحزبية، يقف تشكيل الحكومة في مهب احتمالات لا يحكمها أي منطق غير عدد الحقائب والمناصب، الجانب المركزي في العملية برمتها، الأمر الذي حول الأحزاب إلى جيوش مقاتلة من أجل النصيب الأوفر، وما عدا ذلك قد لا يعنيها. لهذا تم الدَّوْسُ على كل آليات الممارسة الديمقراطية وخلقت الأحزاب في كل الاتجاهات عوالم محظورات ومحرمات يتعذر تفسيرها أو تأويلها، وهو ما يشكل انتكاسة فعلية للديموقراطية ، حيث يحاول كل حزب أن يجعل "الذكاء السياسي" أسير مواقفه وتصوراته. فالحزب المرتب في الصف الأول وضع نفسه فوق التاريخ وخارج المعايير الديموقراطية والسياسية والاجتماعية، وعانق الوهم على أن الموقع يشفع له في صناعة وفعل وتبرير أي شيء، لذلك استند في اختياراته على مبدأين أولهما أن معيار التعامل او التشاور مع الأحزاب أو الأطراف الأخرى هو تنازل منه وتواضع ومؤشر على رحابة صدره السياسي،لأن استحقاقات 07 أكتوبر الماضي تؤهله وحده لتحمل النتائج و الأخطار الناجمة عنها. والثاني أن الترتيب الذي حصل عليه يخوله بمعنى من المعاني تشتيت و"تبديد" ما لم نقل "إبادة" المعنى الحقيقي للفعل السياسي والممارسة الديموقراطية.وهو بذلك يجسد قصورا وعجزا في إدراك ثوابت ومتغيرات المشهد السياسي، مما تولد عنه منطق الغلو وتحريك آليات تدمير الأحزاب الأخرى ومحاصرتها، ومصادرة المواقف السياسية المخالفة، وهذه في النهاية رؤية واختيار مشبع بمظاهر نقص في احترام الآخرين واحتمال أو اختبار آرائهم، وينهض الموقع الترتيبي في هذه الحال وكأنه ضمان لهيمنة مطلقة واستبداد سائب، وهو ما يعكس مقومات تصور ميكانيكي هجين لمجمل العلاقات الاجتماعية والسياسية ويمثل انتهاكا لمقتضيات السلوك السياسي الذي تفرضه الممارسة الديموقراطية.
لقد أبانت استحقاقات 07 اكتوبر 2016 أن السياسة ببلادنا مكبلة ولا تخضع لقواعد نظامية أصيلة وراسخة، بقدر ما تمثل "إطارا غامضا" لتجسيد "أشياء مجهولة" تتجلى على السطح في شكل صراع مصالح ومطامع ومطامح تنطوي على إرادة محو الآخرين ومصادرة حرياتهم، وبذلك تتزيأ في أسوأ شكل لها. وقد برهن الفاعلون السياسيون في هذا الباب عن معالم أزمة ثقافية وسياسية واجتماعية وأخلاقية،إذ عجزوا عن تقدير تداعيات الوضع وانعكاساته المباشرة وغير المباشرة على السيرورة التاريخية لبلادنا، وألقوا بما يوصف عادة بالمسلسل الديموقراطي في منحدرات لا يمكن التكهن بنهاياتها، وهو ما يرفع من حجم الإحباطات التي نواجهها على غير صعيد. وفشل الحزب الأول في الترتيب في تشكيله الحكومة بعد استغراقه هذه المدة الطويلة يطرح بقوة قضية "الشك" في تموقعه وترتيبه، وهو شك يمكن تعميمه على التجربة والعملية كلها، الشك في قدرته على التكيف مع مقتضيات ونتائج الاستحقاقات، وإمكانات توفير شروط ناجعة لتشكيل الحكومة وخلق شبكة متلاحمة من الحلول الممكنة لمعالجة الصعوبات ومواجهة التحديات، والخطاب التبريري لتسويق هذا الفشل لا يعدو أن يكون أساليب ملتوية لا تقوم على جهاز مفاهيمي سياسي واضح، في غياب تام للشفافية والوضوح والعقلانية في تصريف أو إعلان المواقف، والحديث عن المعيقات أو الانكسارات التي يواجهها الحزب المرشح لتشكيل الحكومة، لا تعود عمليا إلى الخلافات النظرية والإستراتيجية للأحزاب بل تتحكم فيها أهواء ومواقف اعتباطية أقرب إلى حافة اللامسؤولية السياسية.
ومهما كانت المبررات فإن الخارطة التي أفرزتها استحقاقات 07 أكتوبر لا تستوجب هذا المدى البعيد من الفراغ ومن الانتظار، والمماطلة والتسويف، وتتوفر بنيتها الهيكلية والعميقة على سلسلة احتمالات تحالفات متعددة،غير أن إرادة تحريرها من شروطها السياسية والاجتماعية جعل أمر استثمار إمكاناتها يتم بمعزل عن سياقها التاريخي، وهو ما أفقدها جاذبيتها و ربما مصداقيتها. وإذا كان الحزب المرشح لتشكيل الحكومة اصطدم مع هذا الواقع وما زال يتمسك بأحقيته وبمشروعية اختياره متماديا في البحث عن صيغة أو تشكيلة ما قادرة على الانسجام والوفاء لاختياراته الأيديولوجية، دون أن يفلح لحد الساعة في تحقيق أي تقدم، فإن ذلك يعكس حدة التناقضات التي تتحكم في تمثلات كل الأطراف لعملية التشكيل وموجباتها. ويستبعد الكثيرون الخروج من منظومة هذه الأزمة المصطنعة بالاستناد إلى أن رئيس الحكومة المعين هو وحده القادر على التفكير في تشكيل الحكومة، بمقتضى الصلاحيات التي تمنحها له سلطة التعيين، وأن تعيينه "يغلق التاريخ" و"يغلق التفكير" في أي تعيين آخر. ويبدو أن هذا التوجه يتأسس على قراءة وتأويل خاص للفصل 47 من الدستور، وخاصة الفقرة الأولى منه والتي تنص على ما يلي:"يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب وعلى أساس نتائجها" والفقرة قد تبدو للوهلة الأولى واضحة الدلالة ، غير أن التمعن في أبعادها قد يثبت العكس، إذ من الممكن القول إنها لا تعتمد ألفاظا دقيقة المعنى أو الدلالة، خاصة ما يتعلق باللفظة المحورية في توجية الدلالة التي يجسدها الفعل" تصدَّر" والذي يتوقف عليه ويتعلق به فعل التعيين، وقد انساق الجميع إلى أن " تصدَّر" تعني الحزب المرتب في الصف الأول ، أي الحزب الذي حصل على العدد الأكبر من المقاعد، غير أن دلالة الفعل الحقيقية لا تقود إلى هذا المدلول بهذه الدقة، أي بمعنى : (تصدَّر = الحزب الأول، أو رقم 1) بصيغة آلية وميكانيكية، فالفعل " تصدر" تتحرك أبعاده الدلالية بوجه عام بين معنيين: الأول: الجلوس في الصدر(تصدر : جلس في صدر المجلس) والتقدم ( تصدر: تقدم قومه) والمعنييان رهينان بالتواجد داخل مجال هو "الصدر" وباعتبار الصدر ذا حمولة مكانية فإنه يتسع بالضرورة لاستيعاب احتمالات شتى لصيغ مختلفة للجلوس أو التقدم ووضعيات متباينة للجالسين أو المتقدمين. وهو ما يعني أن "الجلوس" أو "التقدم" عمليا أو افتراضيا قد تتقاسمه أطراف متعددة تتوفر فيها شروط محددة. وفي حالتنا فإن "التصدر" قد لا يعني حزبا واحدا فقط على سبيل الحتمية، بل قد يشمل أحزابا أخرى تتموقع أو تجلس في الصدر وفق الشروط المنشودة، وهكذا يمكن مثلا القول إن الأحزاب التي تحتل المراتب الثلاثة( أو الأربعة) الأولى هي التي تصدرت انتخابات 07 أكتوبر، وليس الحزب المرتب في الصف الأول وحده.لأن المؤشر الدلالي للفعل "تصدر" لا يحتمل إحالة مباشرة إلى العدد أو الرقم الترتيبي، فهو أصلا لا يتضمن دلالة رقمية. ومن هنا يمكن إدراك خلفيات لماذا لم تعتمد الفقرة هذه الصيغة مثلا " يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد في انتخابات أعضاء مجلس النواب..." أو أي صيغة أخرى مشابهة تضبط مجال الدلالة بشكل واضح ودقيق.
و على هذا المستوى نستطيع القول إن تضييق الخناق على المجال الدلالي للفعل " تصدر" وشحنه بدلالات فرعية ليست من صلبه، يشوش على السياق العام للفقرة الأولى من الفصل 47 من الدستور،(ويقودنا هذا إلى تأكيد ملاحظات سبق أن سجلناها بخصوص كثير من "الألفاظ" أو "المفاهيم" الغير الدقيقة التي وظفت في نص دستور 2011، ولا تمتلك أية مناعة في مواجهة التأويل المتعدد والمشتت،) ومن ثمة فإن الزعم بأن تعيين رئيس الحكومة ينبغي أن يكون مقتصرا على الحزب رقم 01 في الترتيب، دون سواه من الأحزاب الأخرى التي تحتل الصدارة، هو تأويل ينبني على قراءة سياسية معينة لها غاياتها وأهدافها المحددة، وهي في تقديرنا قراءة محاطة بكثير من التمثلات المناقضة لنص الدستور.
وفي كل حال لقد أدى رئيس الحكومة المعين "كفارة" صيام شهرين متتابعين قبل أن يتماس مع تشكيلته الحكومية، ويبدو أنه حوَّل مهمة التشكيل إلى مهنة قارة وحرفة تسمح بالانفلات و الخلاص من أعباء المسؤولية ووجد فيها ظلال سعادته الخاصة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيطاليا: تعاون استراتيجي إقليمي مع تونس وليبيا والجزائر في م


.. رئاسيات موريتانيا: لماذا رشّح حزب تواصل رئيسه؟




.. تونس: وقفة تضامن مع الصحفيين شذى الحاج مبارك ومحمد بوغلاب


.. تونس: علامَ يحتجَ المحامون؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بعد لقاء محمد بن سلمان وبلينكن.. مسؤول أمريكي: نقترب من التو