الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما يتحول الأديب إلى مؤرخ

فدوى درويش

2016 / 12 / 22
الادب والفن


عندما يتحول الأديب إلى مؤرخ


"لقد رسم بيكاسو صورتك كما أنت الآن. رسم لأحدهم خمسة سيقان وللآخر ثلاثة رؤوس لكنه محروم من الرئات. مثلاً أنت لك صوت ولكن ليس لك فم وأنا لي رأس محروم من الجسد.. "
الأدب الخالد كما الفن الخالد، هو الذي يلتقط لحظات حية من المعاناة البشرية ويتوغل في آلام الفرد الإنسان في عالم يتقدم ويتطور على جثة إنسانية الإنسان. دول عظمى تبني صروح حضاراتها الآلية على أنقاض الإنسانية وتستمر في حروبها العبثية محولة الأفراد إلى وقود رخيص في محرقة التقسيمات والتصنيفات المختلقة.
إن رواية الكاتب الروماني قسطنطين جورجيو "الساعة الخامسة والعشرون" الحائزة على جائزة نوبل، هي من الروايات التي لا تنتهي منها بمجرد الانتهاء من قراءتها. إذ تبقى الكثير من تفاصيلها عالقة في الذاكرة لأنك على مدى خمسمئة صفحة تعايش شخوصها وأحداثها بكل جوارحك، تنتقل معهم بين المعتقلات والحدود والدول تختبر معهم أشكال العذاب والمعاناة تحت طغيان الجيوش ويمكنك أن تفاضل بين وحشية تلك الجيوش في حرب انتهكت الجميع وعلى مختلف انتماءاتهم. فتبدأ دون وعي منك بإسقاط أحداث بعيدة عنك زمانياً ومكانياً على الحاضر الذي تمر به منطقتنا الشرق أوسطية من فوضى واستبداد وحروب. حيث يسرد جورجيو واقع معسكرات الاعتقال أثناء الحرب العالمية الثانية متنقلاً بين رومانيا وألمانيا وهنغاريا وبولونيا، الأماكن التي كانت مسرحاً لتراجيديا حرب كونية والتي وتناوبت فيها الجيوش الروسية والنازية وجيوش الحلفاء لتشترك جميعاً في ممارسة الوحشية والدمار حيث حلّوا. يقول تريان الشخصية التي ربما تجسد الكاتب جوجيو نفسه و تمثله في رؤية وتحليل ما يجري والتنبؤ بما سيجري:" إن الفئة هي الخدعة الأكثر وحشية والاشد فظاعة من كل ما اقتحم يوماً عقل الإنسان من آراء. إذ لا ينبغي أن ننسى ان عدونا شخص وليس فئة"
"الساعة الخامسة والعشرون" رواية تختصر احتضار العالم كقيم ومبادئ إنسانية، تروي كيف تحول العالم إلى مصنع كبير تعمل آلاته بسرعة العصر وتحول البشر إلى بروليتاريا تدير تلك الآلات. أن الرواية تنعي موت القيم البشرية من عدالة ورحمة في عالم يخلق قوانين خاوية وكاذبة لتقسيم البشر إلى فئات وأقوام و ايديولوجيات تخدم النزعة الدموية اللاإنسانية لدى القوى المتحكمة بمصائر الأفراد الذين لا أهمية لآلامهم وحيواتهم في مسيرة الجنون نحو الفناء إلى الساعة الخامسة والعشرون الساعة التي تكون فيها كل محاولة للإنقاذ عديمة الجدوى..
لا أعرف فيما لو جاءت قرائتي للرواية قبل ست سنوات من الآن هل كنت سأنحاز إليها بهذا الشكل. قبل ست سنوات لم أكن أعرف الحروب سوى من شاشات التلفزة ومن بين دفات الكتب. اليوم وأنا أعايش المأساة في بلدي رأيت عن قرب كيف يمكن أن تكون مذنباً متهماً لمجرد أنك تنتمي إلى أي فئة بعينها، لمجرد أنك من بقعة جغرافية بعينها. وكيف يمكن أن تعاقب أو تقتل دون ارتكابك ذنب أوجناية .. أستطعت أن أتلمس تماماً معاناة موريتز وتريان فقط لأنها الحرب ولابد من أن يوجد من يدفع الثمن، لابد من وجود وقود لمحرقة الانتصار ات!
شاءت الصدف أن تكون قرائتي متواقتة مع ترحيل أهالي حلب الشرقية. وأنا أتابع سير قوافل النساء والأطفال والشيوخ الذي رهنتهم جهة ومن ثم بدأ التفاوض على قتلهم أو تهجيرهم.. القوافل تسير دون أن يكون لها ذنب سوى أنها تنتمي إلى تلك البقعة من جغرافيا حلب.. القوافل تُهجّر تحت رحمة القناص الذي في ايّة لحظة يمكن أن يخرق الهدنة ويدير فوهة قناصته إلى رتل القرابين البشرية فيسقط طفل او رجل أو أمرأة، لا يهم من يكون فقط سوف تعلن حينها الأمم المتحدة عن خرق راح ضحيته عشرة أو عشرون قتيلاً! نعم في الحروب يتحول البشر إلى أرقام .
في حكاية سردية طويلة وتفصيلية وبأسلوب سهل يروي الكاتب مصائر عدة أشخاص من بيئات اجتماعية مختلفة، موريتز المزارع البسيط في قرية صغيرة في رومانيا، الذي كان يحلم ببيت ومزرعة صغيرة تجمعه بحبيبته سوزانا فيتحول حلمه إلى كابوس يقضيه متنقلاً بين معسكرات الاعتقال بين عدة دول وبعدة اتهامات فمرة يتهم أنه يهودي، ومرة لأنه ألماني ومرة لانه ينتمي إلى دولة عدوّة! تريان الكاتب والمثقف والدبلوماسي ابن كاهن القرية الذي يشرع في كتابة رواية بعنوان الساعة الخامسة والعشرون ليدق أجراس الأنذار عن غزو الآلة والبيروقراطية العالم واستعبادها للإنسان .والذي ينتحر في المعتقل احتجاجاً على احتجازه دون تهمة تذكر. ستكمل زوجته اليهودية نورا بعد خروجها من المعتقل الروسي لتعيش في أحد معسكرات الأمريكيين، كتابة الرواية معتمدة على ذاكرتها فيما روى لها زوجها عن فكرة الرواية سابقاً. كاهن البلدة الأرثوذكسي الرجل الطيب الذي رُميَ بالرصاص بحكم محكمة الشعب في قريته إثر دخول الجيش الروسي بتهمة الصلاة لأجل أبناء البلدة من الثوار وانتهى به المآل ليموت في المعتقل بتهمة النازية.
شخصيات كثيرة وأماكن عديدة وتفاصيل مؤلمة رُصدت بعين من عاش في قلب المحرقة وكان أحد ضحاياها إنه قسطنطين جورجيو الذي تتقاطع الكثير من أحداث روايته مع سيرته الشخصية فهو ابن كاهن عمل في وزارة الشؤون الخارجية في رومانيا كسكرتير سفير وتعرض للاعتقال واخيراً رفض العيش تحت بطش الحكم الشيوعي في بلاده رومانيا لذلك لجأ إلى فرنسا حيث توفي ودفن في مقبرة العظماء في باريس.
إنها ملحمة تعيد كتابة تراجيديا المأساة البشرية في منتصف القرن العشرين. ترصد مصير البشرية المهدد بالتحول إلى مجتمع عبيد أعمى ينحسر فيه دور العقل والعاطفة أم غريزة تحويل المجتمعات إلى مداجن بشرية. يبدو أن التاريخ البشري يعيد نفسه بشكل سافر. تاريخ الحروب والطغيان يُكرر عبر العصور بنفس الألم . فقط تتغير الوسائل لتتطور وتصبح بتقنيات تزيد من حجم الدمار. فلا غرابة أن نقرأ واقعنا اليوم نحن في القرن الواحد والعشرين بقلم كاتب عاش قبل أكثر من نصف قرن. ليس غريباً أن نتماهى مع أحداث تشبه إلى حد كبير ما يجري اليوم. فالدول العظمى مازالت تكرر حروبها في صراعها للسيطرة على العالم تحت عناوين وشعارات جديدة كالحرية والديمقراطية وحماية الأقليات.. والدول في عالمنا الثالث المنهك بالجهل والفقر يعيد إحياء صراعاته التاريخية وحروبه الطائفية، يجتّر طغاته الأقزام تجارب من قبلهم من طغاة العالم فيخلفون ويلات أعظم على بلدانهم.
يشرح لنا الكاتب عن ،الوقت الضائع، في مقاربة مع توقيت موت الأرانب ليوضح فكرته عن الساعة الخامسة والعشرون
"في الغواصات الحديثة جهاز لمعرفة الوقت المحدد لتجديد الهواء الفاسد، بينما كان البحارة في الماضي يأخذون معهم في الغواصة أرانب بيضاء، فإذا فسد الهواء وقلت نسبة الأكسجين ماتت الأرانب. وبهذه الطريقة يعرف البحارة أن الوقت الباقي لهم لا يزيد على خمس ساعات فإما أن يصعدوا إلى السطح لتجديد الهواء وإما أن يلقوا مصيرهم المحتوم في الأعماق. وفي حال البقاء كان على أولئك البحارة أن يقتل بعضهم بعضاً بالرصاص تجنباً للاختناق".
نعم بدأت الأرانب تموت.. يحتاج العالم إلى من ينقذ ما تبقى من الإنسانية. الرواية برمزية عنوانها الذي يشير إلى الإنحدار الأخلاقي للقيم والنهاية التي أختارها الكاتب بموت أبطاله، سوى موريتز الذي وضُع أما خيارين ولاشك أن الاختيار تلك اللحظة لم يكن إلا بين بدائل متعددة من الهزيمة، كما يقول ميلان كونديرا. يختار هزيمة التطوع في الجيش الأمريكي هو زوجته وأطفاله حتى وأن لم يكن يحقق الشروط من ناحية السن، إلا أنه يفضل التطوع في الجيش على المعتقل. يطلب منه أن يبتسم للكميرا التي تلتقط له صورة بعد تردد واستغراب يبتسم رغماً عنه. تحمل النهاية صورة سوداوية لرؤية الكاتب عن مستقبل العالم لكنها الأكثر واقعية في توثيق خفايا الحرب العالمية الثانية وتعتبر مع رائعة جورج أويل 1984 من أصدق ما كتب عن تلك الفترة التاريخية.
الأدب هو ذاكرة العالم الأكثر صدقاً في تدوين التاريخ الإنساني.

فدوى درويـش








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو


.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق




.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس


.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم




.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب