الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أول الفقد أول الوجع

صفوت فوزى

2016 / 12 / 24
الادب والفن


تفاجئني جلستها والشمس تغزل خيوطها الواهنة الرحيمة في صحن الدار. تفترش حصيرًا تآكلت أطرافه ونحل نسيجه الخشن. ملتحفة بجلبابها كالح السواد، وغطاء رأسها الأسود تنسدل من خلفه ضفيرتا شعرها على الظهر. فاردة ساقيها يقبع بينهما حجر الرحى ثقيلًا شديد الوطأة، تضع بين شقيه حبات الذرة تجرشها لفراخها الصغيرة التي أطلقتها لشمس الصباح تلقط الحَبَّ وبقايا المأكولات ولا تكف عن الصوصوة. تدير الحجر بوقعه المكتوم، وتسكب "عديدها" بلوعةٍ وشجنٍ يفطران القلب. يسري هسيسه في الدار ويتقطَّر الأسى من ملامح وجهها النحيل. عيناها العسليتان القبطيتان ينطفئ بريقُهما وتظل تحدق ساهمة شاردة، فيما يأتيني هديلُ الحمام في أخنانه شفيفًا أسيانًا. أسألها فتجيب: أصل افتكرت أبويا اللي مات– جدك-. تعتصرني داخل صدرها، تمسد شعري بيدين تفيضان حنانًا، تطيل النظر في عيني وتهمس– دامعة– أني أشبهه. أغادر حضنها الدافئ لأسألها: يعنى إيه مات؟
تنساب الدموع، تغسل الوجه الممرور، ولا أسمع ردًّا سوى نهنهة خافتة لا تبين.
أمضي، وفي داخلي يعشش حزن شفيف، وأسئلة مراوغة ليست لها إجابات.
● ● ●
هي الكلمة ذاتها، أواجهها حائرًا مرتعبًا. تنطلق الصرخة الأولى من بيت الجار الطيب. ارتجفت أطراف الحارة، فزعت حمامات الدار وطارت مبتعدة، خوف غامض أمسك بي. يهرول الجميع صوب المنزل. امرأته تهيل التراب على رأسها وهم ينتزعونه من بين ذراعيها. تصرخ ملتاعة تنادي على أمي أن "نجيب" مات. تطفو الكلمة على سطح الذاكرة كسوطٍ يسقط على روحي، يجلدني. بيوت الحارة يغمرها العويل، وفي السماء من فوق كانت غيمة مارة، كبيرة وسوداء. ألقت ظلًّا ثقيلًا ومضت ببطء. سكتت الكلاب عن النباح، والدجاج السارح في الحارات كفَّ عن النقنقة. لا نسمة هواء تحرِّك أغصان النخيل. رجالٌ يروحون ويجيئون متجهمي الوجوه. أسند بعضُهم ظهره للحائط وانخرط في بكاء حارق. نساء يتدافعن ويهرولن صارخات لاطمات الخدود، وأخريات في حلقات نادبة يرسلن عديدًا ملتاعًا، ولا أحد يفهمني معنى الكلمة الغامضة: "عم نجيب مات".
● ● ●
في غدوه ورواحه كان يمرُّ بنا ونحن نلهو ونلعب. قامته منبسطة ووجهه ممتلئ يتوسطه شاربٌ كث مبروم مرفوع طرفاه لأعلى. يطل علينا بعينين سوداوين متسعتين تنطقان بالشدةِ والحنوِّ في آن. يخب في جلبابه الواسع الكمين النظيف دائمًا. لم يُرزَق بنسلٍ فاعتبر أولاد الحارة كلهم أبناءه، ونحن بادلناه المودَّة، لكننا لم نكن نكفُّ عن معابثته. عشرات المرات خبطته الكرة، وأثارت أقدامنا الصغيرة ذرات الغبار في وجهه. كسرت الكرة زجاج نافذته. أتسلل بخفة لالتقاط الكرة من مدخل بيته متحاشيًا نظراته النافذة الآمرة الودودة كي لا أسقط في شباكها. أتجنب النظر إلى شاربه المرفوع وأعدو مسرعًا لا أجرؤ على النظر خلفي.
لم يكن يكفُّ عن زجرنا لننتهي من اللعب، وما كنا لننتهي، ولا نتوقف عن مشاكسته برعونة نتحصن بعدها بأمهاتنا. أتذكر أيامه الأخيرة حين كان يعبر الحارة وقد وهن جسده المنتهك بأمراض الشيخوخة. بدا وجهه أكثر تغضنًا لكن نظرته الودودة المنذرة لم تنطفئ قط.
رفع الجسد الناحل فوق كنبة عارية، وتقاطر الأهل والجيران. تقدم بعضهم. إنهم رجال الهمة وأصحاب الواجب ممن تراهم يتقدمون الناس في الأحزان والمسرات. يشمون المناسبة قبل وقوعها. يحضرون في الوقت المناسب تمامًا وأحيانًا قبله بقليل. لا يمنعهم أحد عن تأدية ما نذروا أنفسهم له. جهزوا الكفن، كولونيا اللافندر، والقطن. جيء بالمغسِّل وأرسلوا إلى المدفن من يهيِّئ العينَ لاستقبال الوافد الجديد.
صُفَّت الكراسي وأُضِيفت إليها كنبات البيت أمام الدار. التمَّ الأهل والجيران بانتظار انتهاء طقوس الغسل ليصحبوا الجار الطيب إلى الكنيسة ثم إلى جنازةٍ تليق به.
حشود المعزِّين تملأ الشارع. الجالسون على المقاهي والعابرون في الطريق وقفوا رافعين سباباتهم. العربات توقفت تفسح الطريق للجنازة المهيبة. سحابة من غبار تصافح الوجوه المتعرقة تحت لهيب الشمس. في المقدمة أسير حاملًا صليبًا خشبيًّا. من خلفي صفٌّ من الشمامسة بملابسهم البيضاء المنقوشة بالصلبان. تتعالى التراتيلُ والألحانُ القبطيةُ الجنائزيةُ في مهابةٍ وجلالٍ. تنسربُ في مغاورِ الروح. ينخرط البعضُ في نشيج مكتوم، والجثمانُ محمولٌ على أكتاف الرجال في الطريق إلى مدينة الموتى. يغمرهم الوجدُ، يتضرعون إلى الله أن يحسن خاتمتهم، وأنا أشعر بوطأة الفقد، ويغمرني إحساس قاتل بالذنب وبشفقةٍ عارمةٍ. أطارد شيئًا شفافا يبدو كالطيف مرةً، عاصفًا مرةً، ومراوغًا متسللًا مرات. شيء غامض سحري لا يسلم نفسه تمامًا، فيتركني متسكعًا على شواطئ المجهول.
بعد فترةٍ قصيرةٍ، أدركت على نحو صادم أنني لن أرى "عم نجيب" مرةً ثانيةً. لكنني، حين يغلبني الحنين- ناظرا إلى نافذنه المفتوحة، مكسور زجاجها لم يَزَل– تعلمت أن استدعيه من الذاكرة. أبتسم له، وأعتذر عمَّا فعلت.
----------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا