الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القبلية في العراق الامريكي

صادق الطائي

2016 / 12 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


القبلية في العراق الامريكي
صادق الطائي
اصبح مصطلح (العراق الامريكي) معرفا بأعتباره يشير الى (العراق) بعد اسقاط نظام صدام حسين على يد قوات التحالف الذي قادته الولايات المتحدة الامريكية في 9 ابريل/نيسان 2003 ،واظن ان من صك هذا الاصطلاح هو الكاتب العراقي حسن العلوي الذي اصدر كتابا بهذا الاسم ، وقد كانت للقبلية تجليات واضحة في هذا العراق منذ الايام الاولى للتغيير، تلمس وجودها صحفيو تلفزيونات العالم من المجاميع البشرية التي كانت تطوف ساحة الاندلس القريبة من فندقي عشتار شيراتون وفلسطين مريديان وسط بغداد،اذ تحول المكان الى محجة لكل من يريد ان يعبر عن هويته ووجوده في عراق ما بعد صدام ،لان مركز تواجد الاعلاميين الذين يغطون حرب العراق كان في هذين الفندقين ،حيث شهدت ساحة الفردوس القريبة تظاهرات عشائرية تحمل راياتها في (عراضات ) وفق النمط القديم المصحوب باهازيج المعركة قبل اكثر من مئة عام.
المراقبون عزوا الحراك الاجتماعي الواسع لبنى ماقبل الحداثة في (العراق الجديد) ممثلا بالقبيلة والدين والمذهب نتيجة تفريغ نظام صدام للعراق من مؤسسات مجتمع مدني فاعلة ،فلم تكن هنالك احزاب موالاة او معارضة ،اذ ابتلع الحزب الحاكم الحياة السياسية وسيطر على النقابات والاتحادات والجمعيات حتى تحول البلد الى فراغ هائل من اي نشاط مجتمعي حقيقي باستثناء بعض الانشطة الثقافية المنزوية في هامش حراك حياة البلد،وهي في الغالب نشاطات افراد قد يجتمعون على خوف من اي لحظة مداهمة.
ولم يكن هذا الحال مفاجئا او جديدا كل الجدة ،فقد بني على تراكمات بعضها يعود الى ثلاثينات القرن العشرين ،واعني ارتباط التواجد القبلي الكثيف في العاصمة نتيجة الهجرة الكبيرة من الريف الى المدن ،هربا من سوء الاوضاع الاقتصادية والخدمية في ارياف العراق التي كانت تعاني من سطوة الاقطاع ،وبحثا عن فرص حياة ورفاه في العاصمة التي بدأت تعد بالكثير مع استقرار النظام الملكي الجديد حينها ، لكن هذه الهجرات خلقت ازمة مجتمعية حادة ،عندما تكدس المهاجرون الجدد في احياء او احزمة فقر تحيط بالمدينة ، ولم تفلح معها خطط الحكومة المتواضعة في العهد الملكي او حتى الثورية التي نفذتها الحكومات الجمهورية اللاحقة في وضع حلول حقيقية لها ،حيث نقلت احياء الصفيح المحيطة ببغداد الى ضاحيتين شرق وغرب بغداد هما مدينة الثورة في الجزء الشرقي من بغداد ومدينة الشعلة غرب بغداد ،ومع الكثير من الاشارات التي تنسب بناء هاتين الضاحيتين الى الجنرال عبد الكريم قاسم ،الا ان البحث المدقق يرجع الامر الى مشاريع مجلس الاعمار قبل تموز 1958 ،عندما تعاقدت الحكومة الملكية مع المعماري ومخطط المدن اليوناتي دوكسيادس لانشاء المدن او الضواحي الجديدة لمعالجة مشكلة المهاجرين الريفيين الى بغداد.
مع تشكل مجلس الحكم العراقي في ظل الادارة المدنية الامريكية المؤقتة ،تم استقطاب عدد من رموز القبلية في العراق الجديد وضمهم للنخبة السياسية باعتبارهم فاعلين سياسيين ،مثل الشيخ غازي مشعل عجيل الياور، المتحدر من عائلة الياور ،الشيوخ التاريخيين لقبيلة شمر وهي اكبر قبائل العراق ،وبالرغم من ان الرجل متحدر من اصول قبلية الا انه مهندس بترول اكمل دراسته العليا في جامعة جورج واشنطن في الولايات المتحدة ويحمل جنسيتها ، ثم اصبح بعد ذلك اول رئيس للجمهورية ، وهذا ما قد يؤشر الى ان هنالك قبلية هجينة وجديدة ستسود العراق ترتبط بخيوط واهنة مع مفهوم القبلية التقليدي .
كما ضم مجلس الحكم الشيخ كريم ماهود المحمداوي ،المتحدر من قبائل آلبو محمد في جنوب العراق ،وهو تجمع قبلي من اكبر التجمعات في مناطق الاهوار ، وبالرغم من ان الرجل كان معارضا لنظام صدام حسين ، وانشأ تنظيم حزب الله العراقي وكان يتخذ من الاهوار منطلقا لنشاطه المسلح حتى عرف بـ (أمير الاهوار) في عقد التسعينات ،الا ان التدقيق الاجتماعي سيظهر لنا ان كريم المحمداوي ليس من القيادات القبلية التقليدية المعروفة في قبيلته ،انما هو رمز قبلي جديد ،في التركيبة الجديدة .
هكذا دار الامر وتأسست انواع التجمعات والمؤسسات والحركات ،ذات الطبيعة القبلية بعد اسقاط النظام ، وظهرت على الساحة وهي تحاول تسويق نفسها للامريكان في عموم العراق والبريطانيين في جنوب العراق الذي كانوا يديرونه ، على انها حركات وتجمعات فاعلة ويمكن الاعتماد عليها في ادارة شؤون مجتمعاتها المحلية ،والمدقق في الامر سيجد ان الكثير من هذه التجمعات الجديدة لم تكن سوى هياكل فارغة تبحث عن الدعم المالي والنفوذ والسطوة ،كما تجدر الاشارة الى نقطة مهمة هي تأثير الانتشار الواسع للسلاح في الشارع العراقي على تقوية النزعة القبلية ،حيث تم تسليح العديد من التشكيلات شبه العسكرية قبيل سقوط نظام صدام حسين مثل جيش القدس وفدائيو صدام ،وحتى بعض القبائل ،باعتبار هذه التشكيلات ستمثل نوعا من المقاومة الشعبية في حالة الحرب ،كما ان ترك مخازن اسلحة الجيش العراقي عرضة للنهب امام الناس عند دخول قوات الاحتلال ساهم في ازدياد انتشار السلاح في الشارع .
مع الفراغ الامني والسياسي والقضائي في السنتين الاولى من عمر الاحتلال ،تضخم الوجود القبلي الذي دفع بالمواطن العادي للاحتماء بانتمائاته القديمة ليستطيع العيش في ظل غياب مؤسسات الدولة ،كما ان التخادم الذي حصل بين حركات سياسية وميليشيات وفصائل متقاتلة من جهة والقبائل من جهة اخرى منح البنية القبلية الهجينة والجديدة قوة ووجود غير مسبوق ،فبات المتنقل في شوارع العاصمة او المدن الكبيرة يقرأ يافطات علقت على مبان كثيرة وقد كتب عليها (ممنوع بيع وايجار العقار .. مطلوب عشائريا) في تحد صارخ لوجود الدولة وكينونتها القانونية ،اذ تعني هذه اليافطات ان باستطاعة المتخاصمين اللجوء الى قبائلهم في حال وجود نزاع ،وبدورها القبائل ستحل النزاع بالطرق القديمة المعتمدة على القوة المحضة عبر اللجوء الى انواع الاسلحة الخفيفية والمتوسطة في نزاعاتها ،ومن ثم يتم اللجوء الى الصلح العشائري القائم على الديات والتعويض المالي المعروف بـ (الفصل العشائري) .
لقد شهدت محافظات الجنوب، التي اعتبرت مستقرة سياسيا نسبيا مقارنة بمحافظات غرب العراق التي شهدت العديد من المعارك ، الكثير من المعارك الساخنة بين القبائل المتناحرة التي تقف قوات الامن والجيش عاجزة امامها ولا تستطيع لها حلا ،كما انتشرت في وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي الاشارة الى عودة نمط قديم من الديات القبلية انقرض من المجتمع ،وهو تقديم النساء كتعويض لعائلة المقتول وهو المعروف قبليا بـ (الفصلية) حيث تعامل النساء كمتاع يتم التعامل معها مثل الاموال والحيوانات التي يتم تقديمها كتعويض لعائلة القتيل ،وبرغم التشكيك الكبير في هذا الامر ،الا انه يمثل مؤشرا خطيرا على تراجع قيم الحداثة في المجتمع العراقي ، كما اضيف الى ذلك ، احياء قيم قبلية منقرضة اخرى مثل الثأر والنهوة العشائرية - التحكم بزواج الفتاة من قبل ابن عمها ومنعها من الزواج بأخر- كل تلك القيم باتت تمثل مؤشرات واضحة على تنامي الظاهرة القبلية في العراق الامريكي.
وكان الانعكاس الاكثر اثارة للسخرية في عراق اليوم هو انعكاس الواقع القبلي الجديد المشار اليه سابقا على الحياة السياسية وصراعاتها ،وعلى سبيل المثال، يتم حل نزاع بين عضوي برلمان نتيجة خلاف في برنامج تلفزيوني عن طريق (الفصل العشائري) ، او عندما حصلت ازمة البرلمان العراقي وقام عدد من النواب بعزل رئيس البرلمان ،فكان رد الفعل متمثلا باصدار تصريح اتهمت فيه قبيلة الجبور، نوابا بـ"استهداف" رئيس مجلس النواب سليم الجبوري بعد عقدهم جلسة برلمانية صوتوا فيها على إقالته، مهددة بأنها تدرس إصدار "موقف حاسم" من هؤلاء النواب ،المفارقة ان هذا التهديد يصدر من (الأمانة العامة لمجلس قبيلة الجبور) ، حيث اصبح لقبائل العراق الامريكي امانة عامة وكأن القبائل قد ارتدت لبوس الحداثة وتشبهت بالاحزاب والمؤسسات التي لها امانة عامة تصدر بيانات يرد فيها مثلا ؛( قبائل الجبور بكل مشايخها ورموزها الكريمة ومن خلفها الملايين في عموم العراق تدرس اصدار موقف حاسم من هؤلاء النواب لتتخذ بعده اجراءات عشائرية وتاريخية ستكتب في سفر هذه القبيلة الخالدة لتطلع عليها اجيالنا القادمة).
هل سنشهد تنامي الظاهرة القبلية مع التراجع المستمر في دور الدولة ؟ ام ان القادم من الايام سيحمل معه تغيرات حقيقية على مستوى التغيرات السياسية التي ستحد من نفوذ القبلية ؟ لا احد يستطيع البت في الامر المتقلب في عراق اليوم.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موريتانيا: ماذا وراء زيارة وزيريْ الدفاع والداخلية إلى الحدو


.. إسرائيل وحسابات ما بعد موافقة حماس على مقترح الهدنة في غزة




.. دبابة السلحفاة الروسية العملاقة تواجه المسيرات الأوكرانية |


.. عالم مغربي يكشف عن اختراع جديد لتغيير مستقبل العرب والبشرية




.. الفرحة تعم قطاع غزة بعد موافقة حماس على وقف الحرب