الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دورات التاريخ ..القبلية في العراق العثماني

صادق الطائي

2016 / 12 / 26
مواضيع وابحاث سياسية



القبيلة بناء اجتماعي قبل حداثي ،هكذا يعرفه المختصون في العلوم الاجتماعية ، قد يمتد ويتداخل مع بنى حديثة مثل الاحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني ،وقد ينكفيء على نفسه ويتراجع تأثيره تبعا لمختلف العوامل المؤثرة في الحراك الاجتماعي، والعراق من الدول التي تعايشت مع دورات تاريخية للظاهرة القبلية فيها حراكا اتسم بالنموا تارة والتراجع تارة اخرى بناءا على ظروف البلد الاقتصادية – الاجتماعية ، وما تعكسه من معطيات على الواقع السياسي.
ففي تاريخ العراق الحديث ،عندما كان جزءا من الامبراطورية العثمانية وتحديدا في القرن التاسع عشر، كان حراك الظاهرة القبلية جليا واضحا، تناوب بين الهبوط الحاد في منتصف القرن والتنامي المفرط في بدايات القرن العشرين مع بداية الحكم الوطني. فقد كان سكان العراق موزعين الى اغلبية ريفية تفوق الـ 50 % ،يعيشون في الارياف الممتدة على اغلب مساحة العراق ويحيون تحت ظل نظام قبلي يوفر لهم بنية اجتماعية اساسية للحياة ،وحوالي 30% من البدو الذين يعيشون وفق نمط القبائل المرتحلة التي تعتاش على رعي الابل بشكل اساس ومناطق سكناهم هي الصحراء الغربية المرتبطة بشبه جزيرة العرب من الجنوب وبادية الشام من الغرب ، وقد كانت هذه الصحاري المنبع الاساس لكثير من الهجرات القبلية عبر التاريخ الى منطقة حوضي دجلة والفرات،اما النسبة المتبقية من السكان فكانوا يمثلون الاقلية الحضرية التي تتكدس في مراكز المدن القليلة المتناثرة في العراق مثل البصرة وبغداد والموصل وبعض المدن الكبيرة الاخرى، وكانت القبلية هي النظام الاجتماعي المسير للحياة في الصحراء و الريف في العراق ،بينما كان هنالك نوع من عصبية المحلة او الاحياء المدينية والمهن والطرق الصوفية في مدن العراق ضمن مجتمع قبل حداثي يوجب على الفرد الانتماء لبنية اجتماعية توفر له الامن والاحتياجات الحياتية الاخرى .
الهزة الكبرى للنظام القبلي ابتدأت منتصف القرن التاسع عشر ،حيث ان البنية التقليدية للقبيلة تتمثل بقرابة الدم التي تجمع الافراد مع بعض ،وتفرز مشايخ القبيلة من بينهم على اسس مواصفات قيمية يتبناها المجتمع مثل الكرم والشجاعة والنخوة والحصافة وقوة الرأي ،وان الحياة الاقتصادية للقبيلة قائمة على الملكية العامة للارض التي تمثل (ديرة) القبيلة التي يجب الدفاع عنها سواء كانت مراعي للقبيلة البدوية او اراض زراعية للقبيلة الريفية ، لكن دخول الشركات الاوربية وبشكل خاص شركة الهند الشرقية البريطانية على خط الاقتصاد المحلي العراقي احدثت فيه انقلابا بنيويا ،فتحول من اقتصاد كفاف يسعى لكفاية افراد القبيلة الى اقتصاد ريعي ذو مقابل مادي يقوم على شراء السلع الزراعية وتصديرها الى العالم وبذلك ارتبط الاقتصاد المحلي بالاقتصاد العالمي .
مع محاولة الدولة العثمانية اللحاق بركب الحداثة وتنظيم امور الادارة الحكومية على اسس حديثة ، تم اصدار قانون الاراضي سنة 1858 ، واتبعته بقانون تنظيم ملكية الارض الذي عرف بـ (قانون الطابو) سنة 1859 الذي وضع اسس ثابتة لعمليات التصرف بالارض،الا ان هذا القانون لم يدخل حيز التطبيق الفعلي والواسع في العراق الا بعد مرور عشر سنوات ،فعندما اصبح مدحت باشا والياً على بغداد سنة 1869 سعى بقوة لتطبيق قانون تمليك الاراضي الزراعية ،سعيا منه لتثبيت القبائل في اراضي محددة وترغيب القبائل المترحلة بالاستقرار ،وبالتالي يستطيع فرض الضرائب وجباية الاموال لاستخدامها في مشاريعه العمرانية التي يسعى لانشائها ،كما ان القبائل المستقرة ستكون مصدرا جيدا للمجندين عبر قانون التجنيد الالزامي للجيش الذي طبقه في العراق .
وقد غير نظام ملكية الارض بنية القبيلة التقليدية ،اذ سجلت الاراضي الاميرية التي كانت تمثل ملكية مشاعية بين افراد القبيلة بأسم شيوخ القبائل مما حولهم في مناطق واسعة من جنوب العراق الى اقطاعييين يستغلون ابناء قبائلهم الذين تحولوا الى اقنان زراعيين في الارض ، كذلك ارتبطت مصالح الشيوخ القبلين مع الاقتصاد العالمي الذي يستورد منتجاتهم فاصبحوا كمبرادور محلي في نظام الاقتصاد العالمي ، بينما بقيت القبائل البدوية في غرب وشمال غرب العراق على قوتها وتماسكها نتيجة غياب التأثيرات الانفة الذكر.
لقد كانت علاقة القبائل على امتداد العهد العثماني في العراق مشوبة بالتوتر وعدم الثقة، وتحكمها علاقة القوة ، فالقبائل تنظر الى الدولة العثمانية ورجالها في العراق على انهم يريدون الاستحواذ على الضرائب وسوق الرجال الى التجنيد الاجباري ،وبذلك ومع اي فرصة متاحة نجد القبيلة تقف متنمرة بوجه الحكومة عبر شن الغارات ونهب الممتلكات التي تستطيع ان تنهبها من الاموال العامة ، او من اموال سكان المدن،وبذلك تكون العلاقة بين الدولة والقبيلة متأرجحة بشكل بندولي تحكمه موازين القوة بين الطرفين ، فمتى ما ضعفت قوة الدولة استقوت عليها القبائل وهاجمت المدن وتمدد نفوذها ، والعكس عندما تقوى الدولة فانها تجرد الحملات على القبائل وتخضعها بعنف وقسوة مفرطة مصحوبة بالتنكيل الاعمى بكل افراد القبيلة المتمردة وليس مقاتليها فقط ،كما ان الولاة العثمانيين كثيرا ما لعبوا على موضوع التنافس والاقتتال بين القبائل لاضعافها وابعاد أذاها عن المدن ومراكز الحكم العثماني، عبر التحالف مع بعض الشيوخ ضد خصومهم ، او الاستعانة ببعض القبائل في الحملات العسكرية كقوى مساندة للجيش مقابل ما تحصل عليه من غنائم من القبائل التي ستغزوها ، لكن تشكل تحالفات قبلية كبيرة مثل تحالف المنتفك في الناصرية وتحالف البو محمد وبني لام في جنوب العراق ،او تحالف القبائل الذي يقوده آل بابان في كردستان او آل الجليلي في الموصل ، او تحالف قبائل شمر في الجزيرة في شمال العراق ،حول هذه التحالفات القبلية الى شبه امارات مستقلة ذاتيا ،ترعاها الدولة العثمانية او تتعايش مع نفوذها لانها اقل ضررا من انفلات القبائل المتحركة التي يصعب السيطرة عليها.
كما اصبح التنافس في نهاية القرن التاسع عشر على الملكية سببا في تفتيت الكثير القبائل الكبيرة ،حيث انشطرت القبيلة الى قبائل عبر تسنم الشيوخ الصغار من رؤوساء الافخاذ والبطون القبيلة ، وانشاء قبائل جديدة متنافسة ومتصارعة مع بعضها ، ويشير تقرير الاستخبارات البريطانية في نهاية الحرب العالمية الاولى الى وجود ( 118) قبيلة محيطة بمدينة بغداد فقط ،ورأى عدد من الدارسين ان القبيلة والسلوك القبلي كانت متجها نحو الضمور والاضمحلال نهاية العهد العثماني نتيجة التغيرات الاقتصادية ،لكن وبحسب حنا بطاطو الذي يشير في كتابه عن الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق ،الى ان الانكليز سعوا لتعزيز وبعث القبلية لاستخدامها في السيطرة على بلد كبير بحجم العراق وبقوات قليلة ومنهكة بعد الحرب العالمية ،وتم ذلك عبر تقوية ودعم نفوذ الشيوخ القبليين بالمال والسلاح والدعم المعنوي مما اعاد سطوة القبلية مرة اخرى وارتباطها هذه المرة بقوى الاحتلال البريطاني .
لقد شهدت قوات الاحتلال البريطاني تمردا قبيا عنيفا في العراق هو ما عرف بـ (ثورة العشرين ) حيث تمردت قبائل حوض الفرات نتيجة الاضرار الاقتصادية التي لحقت بشيوخ القبائل المزارعة او البدوية بعد محاولة الانكليز فرض القانون ومنع اغارة القبائل على بعضها البعض، وتحديد نفوذ القبائل ،بينما لم تشارك قبائل حوض دجلة او القبائل الكردية بهذا التمرد نتيجة ارتباط مصالح الشيوخ القبلين مع معطيات الشركات البريطانية و ناقلاتها النهرية التي تجوب نهر دجلة وانعكاس ذلك على ازدهار ونمو ثروة شيوخ هذه القبائل في جنوب ووسط العراق ،بينما كانت القبائل الكردية منضوية تحت قيادة الشيخ محمود الحفيد البرزنجي في كردستان العراق ، حيث كان يعد العدة للاستقلال وبناء مملكته كدولة قومية في كردستان العراق ،وكان عام 1920 فترة تفاوض بين الحفيد والانكليز الذين سمحوا له ببناء ادارة ذات حكم ذاتي في كردستان عام 1921 .
ومع اقامة الحكم الملكي في العراق ومجيء فيصل بن الحسين ملكا على العراق ،اصبح السعي لبناء هوية وطنية عابرة للهويات الفرعية الشغل الشاغل لمؤسس الدولة الحديثة ،وكانت احدى العقبات الرئيسة التي اصطدم بها هي المشكلة القبلية وما افرزته من صراعات... لتستمر دوائر التاريخ واطوار التغيير التي مرت ومازالت تمر بها ظاهرة القبلية في العراق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المجلس الحربي الإسرائيلي يوافق على الاستمرار نحو عملية رفح


.. هل سيقبل نتنياهو وقف إطلاق النار




.. مكتب نتنياهو: مجلس الحرب قرر بالإجماع استمرار عملية رفح بهدف


.. حماس توافق على الاتفاق.. المقترح يتضمن وقفا لإطلاق النار خلا




.. خليل الحية: الوسطاء قالوا إن الرئيس الأمريكي يلتزم التزاما و