الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بكل حرارة وألم أودعك، والدي العزيز وداعاً

اسماعيل داود

2017 / 1 / 7
سيرة ذاتية


رحل طيب الذكر ونقي القلب والدي ألعزيز محمد داود في ألأمس الجمعة (6-1-2017)، بعد حياة حافلة طوى فيها عشرة عقود، أمضاها جميعا في البلاد التي لم يعرف غيرها: العراق.
قصة حياته عبارة عن مشوار طويل من الكفاح خصصه كله من اجل أولأده وعائلته. بنزوحه مع والده من مكان ولادته قرب شاطئ التاجي شمال بغداد إلى قلب المدينة ، خطا مع والده خطوة هامة باتجاه الحياة المدنية. إلى أحضان بغداد المدينة مبتعداً عن أجواء العشيرة و ما يحيط بها من قسوة وعدم استقرار وعنف! أراد لنفسه ولأولاده من بعد، أن يولدوا ويتربوا بأحضان المدينة ودفئ شمسها. قاطع حياة العشيرة بالرغم من تعلقه بالأرض الزراعية والمياه والخضرة التي احبها.
أحبّ دجلة، النهر الذي مثل مصدر الحياة له ولمكان ولادته، فانحدر معه باتجاه بغداد وسكن بجانبه. بعد وفاة جدي “والده” ازداد الحمل عليه وازداد معه أصراه على أن يكمل المشوار! بالرغم من انه تعلم القراءة والكتابة لكنه لم يكمل دراسته ، وآخذ بإعالة أخيه المريض وأخواته وأمه بشكل مبكر. ترك المدرسة، لكنه احتفظ ببعض من كتبه وكأنها كنز. هذا ما كنت اشعر به ، وأنا أراقب اصفرار أوراق بعض هذه الكتب (كنز أبى) مع مرور الزمن.
سكن جانب الكرخ وتزوج وعاش حياته مكافحاً عصامياً. حرص على أن يكمل أولأده، البنات قبل ألأولاد ، دراستهم وتعليمهم. رفض فكرة الزواج المبكر لبناته وترك لهم الخيار الحر في تقرير مستقبلهم.
كان مؤمنا على طريقته، لم يجبر أولأده على التدين ولم يسمع لدعوى التطرف، أو المبالغة في التدين بالرغم من تعدد الحملات آلإيمانية ومن ازدياد مظاهر التدين من حوله! لم يكن يشرب الخمر و لم يطقه أبدا و لكنه كان مدخن شره. كان يأخذنا لزيارة المراقد الدينية أو لوفاء النذور مع والدتي. مرة في “العباس” وأخرى لدى “الشيخ عبد القادر”. لم يعرف عمره الطائفية ، لم اذكر انه كلمني يوما عن مذهب فلديه كما كان يقول “الدين والرب واحد” .عشق الاستماع لأصوات التجويد العراقية للقران الكريم والذي حفظه في صغره ولم يرد يوما أن يتاجر به!

كان يروي لي قصص كانت تبدو لي بسيطة، ومع مرور الزمن كان معنى رواياته يزداد عمقا واثر في ذهني. فمرة روى لي مزحه عن شخص قرر المسير للحج ليغير شي من نظرة الناس له. كان الناس يتعاملون مع هذا الشخص بتعال نتيجة لتصرفاته السيئة معهم ويطلقون عليه لقب "زغيرون" مشيرين لقصر قامته، بدلًا من اسمه. ولكي يتخلص هذا الشخص من هذا اللقب المزعج قرر الذهاب للحج، عسى أن يلقبه الناس من بعد حجه بلقب “الحاج”. لكن وعند عودته من الحج ، بداء الناس بمناداته بحجي زغيرون!
كم كان يعشق الخضرة والزرع والشجر والماء. عشق حمله معه إلى المدينة ، فكان بيته ألأول في حي الخضراء مزرعة وكانت حديقته بستان، كان يحب النبات المثمر. كان خبيرا يكفي أن يمسك بكفيه العارية التراب ليحوله إلى زرع وشجر. يعرف زرع التين والرمان والنخل والحمضيات ، تستهويه عملية قلب التربة وبعث الحياة فيها مرة بعد أخرى.

كان حاد المزاج وصعب حينما يغضب، لكن غضبه لا يتغلغل داخله، فسرعان ما يعود لطبيعته الهادئة والمتأملة.
كان يحب أن يشعل النار ويدخل الموقد معه إلى المنزل بعد أن يتحول الحطب جمراً أحمر. يقول بان الدفء الحقيقي لا يمكن أن نجده خارج المنزل!
لم اكن افهم سر موقفه السياسي باعتبار ثورة تموز من عام 1958 بانقلاب اسود وبداية لضياع العراق ومستقبله، كنت ارد :ولكن بابا هذه الثورة من اجل الفقراء، ثم أن نظام الملكية كان كله فساد، كان يجيبني (( وليدي بعدك صغير انته، هذولة الي اجوي وكطعوا الملك وعائلته، شيكدرون يسوون غير الاستمرار بالتكطيع و العراك بيناتهم! ))
لم يكن ملكياً لكنه كان يرى وبفطرته أن العسكر والأحزاب الذين وصلوا للحكم، بطبيعتهم غير ناضجين ويميلون للعنف، وكيف له أن يثق بهم و هم الذين نقلوا الخطر إلى قلب المدينة التي التجاء إليها ليحظى بالأمان!
عمله في السكك الحديد أضاف له الكثير من الحكمة والصبر ، وبعد النظر المعجون بالفطرة السليمة. لم نكن نحن أولأده نفهم لماذا هو قلق حول مفردات الحياة اليومية من طعام وشراب، لماذا ينظر بحذر إلى كيس الطحين لو رآه قارب على أن ينتهي ولماذا يدقق كيس السكر في كل مرة للاطمئنان على أن كميته تكفي لشهرين أو اكثر. لم نكن نفهم لماذا لم يرغب أبدا بان يترفع في عمله، تروي والدتي بانه كان يتهرب من أي ترفيع بشكل أو باخر.
كم من الحكمة كان يمتلكه هذا الرجل ! كان يعلم أن المسؤولية تزداد مع المنصب ، ولا ضمان لشروط السلامة والأمان والنظام ،فمن مستعد لتحمل هذا ألعبء والمغامرة بدون ضمانات!
في ثمانينات القرن المنصرم وخلال الحرب العراقية ألإيرانية التي دام سعيرها ثمان سنوات، كان يقول لنا، كلما مرت شحنة أسلحة في المحطة حيث كان يعمل "نحس كلنه بأن حبل المشنقة التف على رقابنا " لحين خروج الشحنة ووصولها إلى غايتها النهائية. كان يتحدث وكان الحرب لن تتوقف يوماً.
ويوم بعد يوم استمرت الحروب، وفهمنا ماذا يعني وجود كيس طحين وآخر للسكر وعلبة كبيره من الدهن، في منزل أسره كبيرة كأسرتنا.

كان عراقيا بمعنى الكلمة، وله الوطن يعني ألأرض والمياه والخضرة، وقبل كل ذلك ألأمان. لم اسمعه يوما يتغنى بعشيرة أو مذهب أو دين أو قومية. كان يشيد لي بعراقيين من أديان أخرى فيذكر اليهودي الذي ائتمنه على رهن عقاره ولم يخنه أبدا. فهذا العراقي من الديانة اليهودية كان قد باع منزلا لوالدي وكان على والدي أن يسدد له اكثر من قسط. وفي يوم تفاجئ والدي بان هذا الشخص يفتش عنه ويسال عن محل سكنه ليكمل له اجراءات حجة البيت و التحويل لوالدي، حتى قبل سداد ألأقساط آلأخيرة. الرجل كان قلقاً على حق والدي في البيت، وقرر أن يسجل له ويكمل كل شئ قبل أن يغادر العراق مرغماً في موجة تهجير اليهود العراقيين.
كان يحدثني أيضاً عن أمانة ومهنية أبناء العراق من اتباع الديانة المسيحية والصابئة، في العمل والتعامل التجاري وكيف كانوا حريصين على النظافة!
لم يقبل بان يكون حزبيا طيلة عمره، لم يكن يعلق كثيراً عن السياسة و يختصر ، بالقول ((بعد انقلاب 1957، العراق مبقه بيه أمان)) ولمن يسأل عن سر هذا الموقف الحازم وماهي خلفياته ، انصحه أن يقرا للكاتب العراقي خالد القشطيني، فهو (القشطيني) من أعانني على أن افهم موقف والدي!

لم يكن ليسمح بان يكون أي من أولأده الأربعة في جيش أو في شرطة أو جهاز أمن، في زمان كان امتيازات العسكري ورجل ألأمن والضابط تزداد يوم بعد يوم. كان الشباب من حولنا نحن أولأده، يتسابقون على المناصب الأمنية، طمعاً بما تحمله من منافع (سيارات ، منازل، قطع ارض ، بيوت)، وبما تعطيهم من سلطة. أما والدي فكان يقول لنا فلتذهب عطاياهم وأراضيهم إلى جهنم، المهم أن تكملوا دراستكم وان تعيشوا حياتكم بأمان.

لم تراوده أبدا رغبة بالعودة للعشيرة ، حتى بعد أن أقبلت الدنيا من حوله من جديد على العشيرة ومن ثم على المذهب، سار والدي بخطى “المدنية” غير عابئاً صلداً. وامس غادر الدنيا بصمت الى وادي السلام، عصامياً فرحاً بوطنه الذي تركه في المنزل وفي الحديقة.
والدي العزيز اعذرني لأني لم اكن بقربك في هذه الجمعة ألحزينة، لك كل الحب والسلام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية
عبد الرضا حمد جاسم ( 2017 / 1 / 7 - 14:51 )
له الذكر الطيب و لكم الصبر
قال و عَمِلَ كما استشف من تأبينك هذا او مناجاته...انه عمَلَ و قالَ بما كان يعرف و يدرك ..يظهر انه كان حريص قلق على المستقبل و هو يحمل اثقالكم التي زادت من قلقه و حيرته و خوفه عليكم
تحية له ...و الذكر الطيب لأبائنا
لكم و للعائلة الكريمة الصبر


2 - الرحمه والذكر الطيب للعراقي البغدادي الطيب اسماعي
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2017 / 1 / 8 - 06:56 )
نموذج جميل وطيب للعراقي البغدادي صاحب العائله الكادح المرحوم اسماعيل داود الذي عاش ومات في هذ المئة سنة الاخيره المليئة باشد الاهوال في عراقنا المعاصر له الرحمه والذكر الطيب

اخر الافلام

.. سيارة تقتحم حشدًا من محتجين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة أمري


.. -قد تكون فيتنام بايدن-.. سيناتور أمريكي يعلق على احتجاجات جا




.. الولايات المتحدة.. التحركات الطلابية | #الظهيرة


.. قصف مدفعي إسرائيلي على منطقة جبل بلاط عند أطراف بلدة رامية ج




.. مصدر مصري: القاهرة تصل لصيغة توافقية حول الكثير من نقاط الخل