الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعية بحلقات (1)

محمود الخطيب

2017 / 1 / 9
الادب والفن


1
سبق حرب العام 1982 بشهرين ايحاءات باندلاعها، وتحضيرات .ميدانية على جانبي الحدود لدى الطرفين المتوقع أن يخوضا غمارها.
رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، رفائيل إيتان، قال في صحيفة "معاريف" (1982/4/7) إن الوضع الذي استمرّ نحو 15 عاماً في لبنان سيتغيّر بعد نيسان (ابريل)، و"من المحتمل أن ينشأ عهد جديد."
سلفه في رئاسة أركان الجيش، مردخاي غور، قال في الصحيفة ذاتها (1982/4/18) إن وزير الدفاع الاسرائيلي، إريئيل شارون، يرغب في إقامة "دولة مسيحية" في لبنان، وذلك في ايحاء الى ضرورة القضاء على قوات الثورة الفلسطينية.
وفي السياق، أيضاً، أعلن وزير الخارجية الأميركي الأسبق، ألكسندر هيغ، في خطاب ألقاه في مؤتمر مجلس العلاقات الدولية الأميركي، الذي عقد في شيكاغو بتاريخ 1982/5/20، عن أنه "حان الوقت لدعم سيادة لبنان على أراضيه."
على الأرض، عزّز الجيش الإسرائيلي تواجده قبالة حدود لبنان الجنوبية، إذ حشد قوّات ضخمة مدعّمة بالوحدات الصاروخية، والمدفعية الثقيلة، والدبابات، والعربات المجنزرة، وناقلات الجند، وأرسل بوارجه وزوارقه الحربية لتجوب البحر أمام الشاطئ اللبناني من بيروت الغربية الى ما بعد مدينة صور. وراح طيرانه الحربي .يحلّق في أجوائنا نهاراً دون انقطاع.
ومن جانبنا، كنّا نرى قوافل التعزيزات القتالية تسلك طريق الأوزاعي باتجاه الجنوب لدعم المقاتلين في شتّى المواقع. وفي إطار استعدادنا، أصدر القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية، ياسر عرفات (أبو عمّار)، قراراً يقضي بتعيين العقيد آنذاك الحاج اسماعيل قائداً للقوات المشتركة في الجنوب ليتولّى إدارة المعركة في حال نشبت الحرب.
كان القرار صادماً لعديدين من المطّلعين على بواطن الأمور في حركة "فتح"، ومن بينهم أنا، وذلك ليس إنقاصاً من قدْر الحاج اسماعيل، وإنما ،لمنحه فوق ما يستحق على حساب مَن يستحق. فهو، حسب معرفتنا، ضابط في فئة الضباط العاديين الذين لم يحققوا انجازات ميدانية متميّزة خلال مسيرة الثورة لكي يُحَمَّل مسؤولية بهذه الضخامة، خصوصاً في ظل إيحاءات وتوقعات بأن المعركة المقبلة لن تكون على غرار ما سبقها من حروب. وعلى ذلك، فالمهمّة تستدعي، إذاً، قائداً مشهوداً له في ميادين القتال لكي يرفع وجوده في المعركة معنويات المقاتلين، ويشحذ هممهم، ويوطّد ثقتهم بأنفسهم. وهذا الضابط موجود في الخدمة، وله هالة البطل في الوجدان الفلسطيني منذ .سنوات، وهو العقيد سعيد مراغة (أبو موسى).
للعقيد "أبو موسي" سجلّ عسكري مشرّف، خالٍ من الإخفاقات وحافل بالإنتصارات. إنه ضابط لامع، مقدام، أبيّ النفس. هو الذي هزم القوات السورية التي تقدمت بخيلاء لاقتحام مدينة صيدا في العام 1976. فقد دمّر دباباتها وعرباتها المجنزرة، فتطايرت شظاياها الى الشرفات العالية.
وعلى أثر الهزيمة، جُنّ النظام السوري ونصب له كميناً لقتله فأُصيب في ظهره. ومع أنه نجا من المت بأعجوبة، غير أنه ظلّ يظلع بعكاز طوال حياته. وهو الذي هزم الميليشيات المسيحية، بقيادة سمير جعجع، في الشوف وطاردها حتى مدينة عاليه وما بعدها. ورداً على مجزرة تل الزعتر، هو الذي حاصر بلدة الدامور الساحلية التي كان سكانها المسيحيون يقيمون الحواجز على طريق صيدا، ويضايقون الركاب العابرين، ويقطعون طريق الإمداد الى الجنوب، فاقتحمها وأخلاها من سكانها الذين فرّوا الى جونية من طريق البحر، وأسكن في .منازلها الناجين من المجزرة.
وفي يقيني أن قرار تعيين الحاج اسماعيل هو خطوة في غير الإتجاه الصحيح، والدافع اليها نرجسيّة القائد العام ليس غير، وقُصِدَ من ورائها تهميش "أبو موسى" والتقليل من أهميّة دوره. والسبب في ذلك هو أن حبل الودّ مقطوع بين الرجلين، والعلاقة فيما بينهما ليست على ما يرام، لأن هذا الضابط "مشاكس"، ليس كغيره من الضباط الذين "يبصمون على بياض" ويطأطئون الرأس لكل ما .يؤمرون به.
وكان يحزّ في نفوسنا أن نتعايش مع هذه النرجسية التي طغت على حنكة، وحكمة، القائد، فنرى في الرجل نفسه ازدواجية متناقضة .تنعدم فيها الأصالة، فيما بين عرفات - الشخص وعرفات - القائد. كنت أتقبل الأمر الواقع على مضض. لقد انتظرنا أمداً طويلاً، ولسنا كلّما شئنا، نستطيع أن نقوم بثورة ونستبدل واحدة بأخرى، فأبرّر لنفسي بأنه"أفضل الموجود"، وبأنه المبادر الى انتشالنا من .حضيض اللجوء والمهانة وجور الأنظمة وأعاد الى الفلسطيني كرامته.
وفي ما يخصّني شخصياً حاذرت، وحرصت دائما على أن أُبقي عنقي .طليقة خارج أي قبضة، وذلك بتوفير مخارج سالكة، لي ولعائلتي، فإنْ "طفحَ كَيْلي" وعجزت قدرتي عن التحمُّل، أدرتُ لهم ظهري، وقلت: "وداعاً يا أهلي! فلسطين التي في الحلم ليست وحدها الدنيا. فهي تسكن في وجداني ما حييت وحيثما أكون، عفيفة، مبجّلة، نقيّة من دَنَسِ أرذالنا؛ وسلاحي في الحياة ذراعي وكفاءتي، وليس البندقية."
كنّا، كلّنا، في "فتح" نحب عرفات - الشخص. فهو رجل متواضع، ليس في وجهه تلك العجرفة المتوّجة بالنظارة السوداء التي نراها عادة على وجوه القادة. بابه مفتوح. وإذا جالسته يتحدّث اليك بدون تكلّف وبإلفة جعلك غير متهيّب، فتقترب منه أكثر، وهذا هو سرّ .شعبيته.
ولكن لسنا كلنا معجبين بأداء عرفات - القائد. ففيما عدا شجاعته في ميدان المعركة التي لا يحوم حولها شك، فهو، بباقي المعايير، "أحسن نوع عاطل"، والنرجسية هي عنوانه: هو أولاً، وقبل أي شيء آخر! هو البندقية ونحن الذخيرة التي "تلعلع" باسمه! هو رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس حركة "فتح"، ورئيس اللجنة المركزية، ورئيس المجلس المركزي، ورئيس المجلس الثوري. وهو، بموجب القوانين المعمول بها، رئيس جميع المؤسسات على اختلاف أدائها. وعلى سبيل .المثال، هو رئيس الإعلام الموحّد، ورئيس مركز الأبحاث، وهلمّ جرّا وبلغ به الجشع السلطوي حدّ أن عيّن نفسه مسبقاً رئيساً لدولة فلسطين التي لم تنوجد بعد، ورحل دونها، ولا تزال حبراً على ورق. وبترؤسه كلّ شيْ، أصبح كل شيء في قبضته، الأمر الذي يقرن جشعه بعدم ثقته بمن حوله من أبناء شعبه. كانت الميزانيات تصرف للمؤسسات لآجال قصيرة، شهراً بشهر .وبموجب شيكات ممهورة بتوقيعه لا غير.
كان، في مناسبات، يتباهى بأنه لا يملك، شخصيّاً، حساباً باسمه في أي مصرف. كنا نصدقه، لأن ما قاله صحيح. وفي سريرتنا نضحك: ولكنه فتح حسابات مصرفية بأسماء أشخاص على شاكلة خالد سلام (محمد رشيد) وغيره وأودع فيها الملايين، وسجل استثمارات ل"فتح" ومنظمة التحرير في افريقيا وفي غيرها من البلدان بأسماء أشخاص أيضاً. ونضيف: ثمّ ما حاجته الى حساب مصرفي باسمه، طالما أن جميع أموال "فتح" ومنظمة التحرير المودعة في المصارف لا يصرف منها دولار واحد الاّ بتوقيعه!
وكان يفضّل الأنذال على الرجال، فيجذبهم اليه بفتات عطائه، أو بغض الطرف عمّا تقترفه أياديهم الطويلة من سرقات، أو بالمصادقة على صرف فواتيرهم المزوّرة المقدمة اليه، وذلك لكي تبقى أعناقهم في قبضته فيصبحون ملكه كالعبيد، يهتفون له وباسمه، مع أنه كان يكنّ لهم كل الإزدراء لأنهم، حسب وصفه، ليسوا أكثر من "الجِزَم التي يخوض بها في الوحل."
وعلى قاعدة الولاء الأعمى وسياسة "أمرك سيّدي" تمّ إقصاء وتهميش، الرجال ذوي الشكيمة، وهم كُثْر في الثورة، بقرارات أنانية، مثل قرار تعيين الحاج اسماعيل الذي كان بمثابة القشّة التي قصمت ظهر "فتح" فيما بعد، حين أعلنت مجموعة، قوامها عضو اللجنة المركزية للحركة أبو صالح وأبو موسى وأبو خالد العملة، عن .انشقاقها بعديدها وعتادها في سهل البقاع.
وبهذا الإنشقاق ارتكب أبو موسى خطيئته التي أسقطت تلك الهالة التي حظي بها في وجداننا، ليس لانتقاله المفاجئ من سيّئ الى أسوأ أو كما يقول المثل "من تحت الدلف لتحت المزراب" فحسب، وإنما لأنه غدر بالحضن الذي تربّى فيه وهجر دار الأهل ليسقط نفسه في حضن العدوّ الذي جاهرنا بالحقد وحمل علينا بالجحافل والسلاح، فنصرنا هو عليه على مداخل صيدا.
كان الحدث مشيناً للغاية، هزّني من الأعماق، وأغرقني في حزن شديد: لقد وقع في الفخّ، وخان البطل!
(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟