الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأُمّة العراقية والمجتمع المدني - مجتمعنا المدني في ظل الدولة المُستبدّة

حسين درويش العادلي

2003 / 2 / 13
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


 

الحلقة الخامسة

 

      لا وجود حقيقي لمجتمعٍ مدني مع دولة مستبدة ، والتأريخ يشهد بحلقات صراعٍ متصلة بين سلطة الدولة وسلطة المجتمع ، وكلما تضخّمت الدولة واتسعت سلطاتها ونفوذها وهيمنتها كلما ضعفت بُنية المجتمع المدني وانحسرت ،.. ولعل دولتنا العراقية خير مصداقٍ على ذلك ، فالإستبداد المطلق قابله غياب مطلق لأية تجربة مجتمعية مدنية .
   إبتداءاً ، قامت أنظمة دولتنا الحديثة وبعد مخاضات تشكّلها على شرعية تلفيقية هي خليط من رغبة وإرادة إنكليزية وبُنى ومخلفات عثمانية ونُخب تقليدية في الفهم والتجربة الوطنية وأخرى من ذوي الثقافات المستوردة ،.. ولم يكن للدولة مشروعها البُنيوي المتناسب والتركيب الحديث للمجتمع والدولة العراقية ، بل انحازت وراء البُنى والمعايير الضيّقة في إقرار التجربة الرسمة وتجارب المجتمع ككل ، ورغم بعض المحاولات البدائية في إقرار الحقوق العامة وشيوع الحياة البرلمانية .. إلاّ أنَّ التجربة طُبعت ككل بسمات المعايير الضيّقة والتشتيتية .
   لقد انساقت الدولة (( وحتى نهايات العهد الملكي ))  في بلدنا تدريجياً وراء ضرورات التكامل العسكري والإقتصادي والتعليمي ، فتضخمت سلطاتها تدريجياً لتهيمن على مساحات أوسع في الحياة العامة التي احتكرت تمثيلها شيئاً فشيئاً ، ولم نلحظ محاولات جادة لتنمية وتقوية البُنية الإجتماعية من خلال مدّها بمقومات الأصالة والسيادة والحرية لتنشأ بالتبع الحركية المطلوبة لتشييد المجتمع المدني في تنوعاته المختلفة .
   وكحال أغلب دول منطقتنا ، دخل الجيش العراقي الحياة السياسية من أوسع أبوابها وبالذات بعد نجاحه في القضاء على العهد الملكي ، لتتعسكر الحياة العراقية برمتها ، ولتنشأ رويداً رويداً الدولة العسكرية – البوليسية – المخابراتية المهيمنة على الدولة والسلطة والمجتمع والإقتصاد والتعليم .. إنَّ دخول الجيش على خط الحياة العامة يشي بعجز المجتمع عن حماية ذاته الإجتماعية والسياسية ، ويفيد بفشلة النخبوي في تأمين قواعد بُنيوية تمنع من تدهور الحياة إلى منـزلقاتها الكارثية .
   ولعل تجربة حزب البعث خير دليلٍ على ذلك ،.. وهنا فإنَّ الحزبية أضافت بُعداً آخر للسلطة العسكرية – المخابراتية ، وهو بُعد الشمولية واحتكار التمثيل الوطني داخلياً وخارجياً ، فتكونت لدينا الدولة الحزبية العسكرية المخابراتية ذات البُعد والسياسة الشمولية التي لا تعترف بالآخر بل تنفيه وتقتلعه من الساحة فكراً وخطاً وتجربةً !! ثم ليتطور حال هذه الدولة إلى ما يختزل ويبتلع حتى الدولة الحزبية والعسكرية لتتحول إلى دولة الفرد والعائلة المحمية مخابراتياً ، وليكون الحزب ميليشيا تجوب الشوارع لإلتقاط المخالفين ، أو ليتحول إلى كتائب شبه عسكرية لتثبيت النظام في حروبه الداخلية والخارجية ، بينما تمت الهيمنة الكلية على الجيش وإلحاقه كجثة هامدة بالمؤسسات الإستخبارية قيادةً وقراراً !! وهكذا تم إنتاج الدولة الفرد والتي جسّدها نظام الطاغية صدام حسين منذ بواكير تجربته عام 1968م وليومنا هذا .
   لقد ابتدع هذا النظام - الفرد أبشع مثلث تدميري عرفه العراق مما أشلَّ كافة مقومات وعوامل النهوض المجتمعي سواء التقليدي أم المدني ، وكانت أضلاع هذا المثلث هي : السلطة الشمولية : التي أنتجت الإلغاء الكامل للحياة السياسية العراقية ، فلم يعد للتعددية والمشاركة في الحُكم من وجود ، ولم يعد للحقوق الإنسانية والدستورية والمدنية للمواطنين من معنى ، ولم يعد للقوانين والأنظمة والتشريعات حتى تلك التي تُصدرها السلطة المستبدة من شرعية ، فالدولة والسلطة والدستور والقانون هو الحاكم الفرد الذي تتلون الأنظمة بلون مزاجه وتُفصّل على أقيسة رغباته سلماً أو حربا !! فغدى القرار والخطة والبرنامج الوطني حكراً أُحادياً على الفرد - السلطة دونما منازع ، فنجم عن ذلك أبشع صور الإستبداد في إدارة تجارب الدولة السلطة والمجتمع ككل .
   أمّا ضلع الثاني والذي حكم وطبع الحياة العراقية وما زال ، فهو : الإرهاب المُنظّم ، والذي امتاز بالبرمجة والشمولية والإرتكاز كأحد أهم الثوابت لديمومة الحُكم ،.. ولتتحول الدولة من خلاله إلى دولة المخابرات والتقارير السرّية ، يمتطي صهوتها زوّار الليل من كل طالحٍ كفاءته الوحيدة نحر الأفكار والأبدان لجعل الإرهاب سيد الموقف في النفس قبل البيت والشارع والجامعة والمعمل !! فليس مستغرباً بناءاً على هذه السياسة أن يُشرّع قطع الآذان ووشم الجّباه وجذع الأنوف وبتر الأعضاء وهتك الأعراض ، لأدنى مخالفة يُبديها المواطن العراقي .. ناهيك عن إذابة أبدان الخصوم بالأحماض وإطعام الكلاب أجساد المعارضين ،.. فهذه وتلك ثوابت السياسة التوطيدية لنظام حكم الدولة الفرد التي امتدت لتأصيل الخوف والريبة والحذر بين أفراد العائلة الواحدة والعشيرة الواحدة والمدينة الواحدة والبلد الواحد ، وامتدت لتشمل إرهاب الفكر والعمل والأمل والأمن .
   أما الضلع الثالث من مثلّث حكم الدولة المستبدة ، فقد تمثّل : بالحروب المستديمة ، داخلياً وخارجياً ، كسياسة ثابتة هي الأُخرى لم تعرف تراجعاً أو هدنةً في عملية عسكرة شاملة للمجتمع والدولة في الأنظمة والخطط والبرامج والأخلاقيات ، فسياسة السلطة تقضي بزج المجتمع بأكمله في طاحونة حرب ودونما استثناء طيلة العقود الثلاثة الماضية !! في سلسلة بدأت ولم تُختم من الحروب العبثية التي أنتجت الهزائم والكوارث والإنتقاص من السيادة والوحدة والأمن وانتجت الموت والهجرة والتراجع في التعليم والصحة والتنمية وعموم مرافق وأنظمة ومستويات الحياة العراقية !! .. لقد حطّم هذا المثلث المُرعب أغلب بُنى وتكوينات ومؤسسات مجتمعنا التقليدي ، فهل يمكن الحديث بعدها عن مجتمعٍ مدني مع وجود هكذا تجربة ؟!!
   وهنا ننتـزع الأهم ، وهو : أنَّ من أهم مقومات قيام مجتمع مدني في بلادنا تتمثل بالرفض الكلي والقاطع لأية تجربة تسلّطية جديدة تقوم على احتكار الشرعية لتصادر الدولة وتبتلع السلطة وتُعطّل مرافق الحياة تحت أي إدعاء كان ، وعلى نُخبنا وحركاتنا العمل المكثّف لإنضاج الطروحات والتجارب الداعية لقيام حياة سياسية سليمة تقوم على إرادة الشعب واختياره ، ووفق منظومة حقوق وواجبات وطنية دستورية غير قابلة للتعطيل والإستثناء والتجاوز ، فأية حركية مجتمعية مدنية مُنتجة وفاعلة وحقيقية لا يمكنها أن تقوم دون اعتماد دولة وسلطة تُجذّر حقوق المواطنة وشعور الإنتماء إلى الأرض والوطن ، وهنا تبرز مهام الإنجاز التام للذات الوطنية في بُعدها الرسمي المُنتج للدولة والسلطة وعموم الأنظمة والمؤسسات الدستورية والوطنية التي تُقنن وتُشرّع وتحرس تجربة مجتمعية نوعية يمكن لها أن تتجذّر وتنمو كتجارب مدنية تؤسس لحركية زاخرة بالعطاء .           








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تدرس نقل السلطة في غزة إلى هيئة غير مرتبطة بحماس|#غر


.. القوات الإسرائيلية تدخل جباليا وتحضيرات لمعركة رفح|#غرفة_الأ




.. اتهامات جديدة لإسرائيل في جلسة محكمة العدل الدولية بلاهاي


.. شاهد| قصف إسرائيلي متواصل يستهدف مناطق عدة في مخيم جباليا




.. اعتراضات جوية في الجليل الأعلى وهضبة الجولان شمالي الأراضي ا