الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نصف غربة

فاتن واصل

2017 / 1 / 20
الادب والفن


أول مرة قابلتها كانت في مكان موحش يشبه تلك الشقة ذات الضوء الأبيض المبهر.. وكانت أقدامنا لا تلمس الأرض، كأننا نقف على طبقة من ضباب . كان الخوف يعتصر أحشائي خشية السقوط، وكنت أسمع لغواً ولغطاً بصوت مرتفع جداً لا يُحْتــَمـَل، يشوش تركيزي.. يومها اقتربـَت مني وربتت على ظهري كما لو كانت تسكت طفلاً عن البكاء، ملأني هذا الحنان بشعورعميق بالطمأنينة، بعدها، سحبتني من يدي إلى مكان آخر، هو أشْبه بسفر إلى عالم بعيد!! عالم أقل وحشة، يغمره صمت مطبق، خدّر أعصابي فشعرت بالارتياح. وقتئذ قالت وابتسامة تشبه عقداً من اللآلئ تعلو شفتيها :
- إضرب الأرض.. ولا يهمك، ما تخافش الأرض صلبة تحت رجلك وهتشيلك.. ما تقلقش.

في ذلك اليوم كنت أود أن ألقي برأسي المتعب على كتفها، لتحتويني بذراعيها مثل أمي .. لكني تراجعت عندما لاحظنا مياهاً تتسرب من أسفل حوائط الغرفة، وترتفع لدرجة بللت ثيابنا وأصبحنا نخشى الغرق، ففزعت وأسرعت بالخروج وتركتها.!!
كم ندمت بعد هذا اليوم أني تركتها....

اليوم كانت جالسة وحيدة كعادتها في ركن قصي من المطعم الأنيق، يموج رأسها بالأفكار وتغوص بكل كيانها داخل قصاصة ورق، أعطاها رجل للنادل وانصرف مسرعاً، بعد أن طلب منه أن يسلمها للسيدة .. وأشار له نحوها قائلاً: هناك .!

جلستُ على مقربة منها، وأخذت أراقب تعبيرات وجهها دون أن تلحظني، ظلت تفتح الورقة وتقرؤها ثم تطويها وتعيد فتحها، حتى أخيراً أطبقت يدها عليها بعصبية، ووضعتها بجيب معطفها المُلقى على مقعد مجاور لها بإهمال. سدّدتْ بصرها كرصاصة من خلال النافذة الزجاجية صوب الشارع للحظات، بوجه جامد يغلب عليه الشرود، ثم شرعت في تناول باقي طعامها بآلية حتى انتهت منه . نهضت ولملمت أشياءها في عجالة كما لو كانت قد تذكرت شيئاً خطيراً لتوها.

أسرعْتُ الخطى في أعقابها، وحين وصَلتْ إلى الشارع كانت قد قــَطـَعت مسافة كبيرة، دلفتْ بعدها إلى مدخل بناية قديمة معتم مثل جوف وحش أسطوري. دخلت في إثرها دون أن تشعر هي بي.. أبطأت قليلاً خوفاً من أن أتعثر فقد كان المدخل حالك الظلمة، لكني استطعت أن أتبينها تصعد السلّم بثبات، ثم دخلت شقة على بابها لافتة بأسماء أطباء ففهمت أنها عيادة، كان ضوء أبيض مبهر ينبلج من الداخل أعمى بصري، وتصدر من الشقة أصوات لأحاديث بشر كلامهم غير مفهوم .. لكن هذه المرة بنبرة رتيبة لا تعلو ولا تخفت .. وإذ بي أجد السيدة قد اختفت وسط دخان كثيف، والأصوات مستمرة، وأصبحت خافتة لا سيما بعد ظهوري عند الباب، ولكن لا أثر لأصحاب الأحاديث، ترددت ؛ هل أدخل أو أعود من حيث أتيت ؟ تسمرت قدماي في مكاني !! الرجل الذي أعطى النادل الورقة يقف في منتصف الردهة يرمقني بنظرة تعني أنه يعرفني وأنه في انتظاري وابتسامة مفتعلة كشفت عن أسنان صفراء كست وجهه الغريب.

عدت أدراجي إلى الشارع مسرعاً، فقد كنت أحتاج أن أفكر قليلاً قبل أن أقدم على أي خطوة .. وقفت أستنشق بعض الهواء النقي.. وفي رأسي ألف فكرة وسؤال.

ترى من هذه السيدة ؟ أنا متأكد أننا التقينا من قبل .. أين ؟ هل أتتبعها لأسألها عن شكوكي وهواجسي؟ قد لا تستجيب لي، كيف أعرف رد فعلها ؟ قد تفزع، تصرخ، تستغيث، أو .. أو قد تبكي وتخلع ملابسها وتقف عارية وتنفش شعرها وتتهمني بالتحرش.

أفقت من أفكاري على صوت أبواق السيارات التي ارتفعت فجأة، وشاب يركب عجلة ويحمل على رأسه قفصاً تتراص فوقه أرغفة الخبز، يناور بحركة دودية وسط زحام السيارات وكاد أن يصطدم بي.

تراجعت إلى الخلف واستندت إلى حائط لبرهة . أستدرت ووقفت شاردا أمام واجهة محل لبيع الأدوات المكتبية وكان هناك تمثال صغير لإمرأة ترتدي ثوبا أبيض اللون.

ثم تذكرت أنه في حلم متكرر، كنت أراها ولكن ربما أصغر سنا، عشرينية تجمع شعرها بطوق وترتدي ملابس شفافة بيضاء، ناعمة رقيقة، وعندما كنت أقترب منها كي أحتضنها كانت تخترق رسغي شوكة حادة طويلة ناتئة من ظهرها فيتلوث الثوب الأبيض بدمائي. وأتلوى ألما من عمق الجرح.. لكنني لم أكن حزيناً مثلما انا اليوم.

ألقيت نظرة على الساعة في يدي، كانت السادسة والنصف، لافتة مضيئة على الباب تحمل اسمي : د/ محمود عثمان أخصائي الأمراض النفسية .. ولجت من باب العيادة فتتبعني السكرتير بابتسامته السخيفة وأسنانه الصفراء وعيونه الذابلة، في الصالة تجلس سيدة تحمل معطفاً فوق ساقيها ووجهها جامد.. شعرت أنني رأيتها من قبل لكني أكملت طريقي إلى غرفتي.
تبعني السكرتير وقال بعد أن أغلق الباب:
- سلمت الورقة للجرسون.. وهي برة .. أدخلها؟
- ورقة إيه ؟ وهي مين ؟
- الست اللي حضرتك طلبت مني أوصل لها الورقة في المطعم.

لم أفهم كلامه فصرفته وطلبت منه أن يُدخل المرضى بالدور طبقاً لمواعيد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كأس خمر معتقة
نعيم إيليا ( 2017 / 1 / 21 - 11:55 )
يا جماعة أرجوكم ! اسمحوا لي أن أعبر عن انفعالي بهذه القصة بكلمة واحدة أقسم إنها صادقة كل الصدق: هذه القصة على قلة سطورها جديرة بأن يحتفى بها على كل منبر من منابر الأدب الجميل.
أستاذة فاتن، برافو!! قصتك متل اسمك


2 - عميق امتناني بالإطراء
فاتن واصل ( 2017 / 1 / 21 - 17:06 )
أن أحظى بتقدير حضرتك فهذا أمر مشرف للغاية ، وأشكر حضرتك على اهتمامك بالمرور وكلماتك الرقيقة التي ملأتني بالفخر. كل الاحترام والمحبة .


3 - قصتك رائعة عزيزتى فاتن واصل
سامى لبيب ( 2017 / 1 / 21 - 19:22 )
رائعة عزيزتى فاتن بهذه القصة التى أأمل أن يكون لها تكملة فى مسلسل.
إستمتعت برسمك وعايشت خيالك فهكذا تعاملت مع صورها كخيال لتأتى فى سياق بحثى عن الحقيقة والوجود وآلية الدماغ والعقل وكيف نرى الحياة فأنا مهموم بهكذا بحث لأصل لنتائج تريد التأصيل.
تحياتى وإحترامى .


4 - الاستاذ الكبير سامي لبيب
فاتن واصل ( 2017 / 1 / 21 - 20:45 )
حضورك هو الأروع، النفس البشرية حيرت العالم بتلونها وتحايلها وتعقيداتها .. وأجد فيها مادة غنية ملهمة، رغم انتقادات البعض إصراري أن أفتح باب هذا المجهول المخيف، لكنه شغف لا أقوى على مقاومته.. تحياتي واحترامي لحضورك وإضافتك وأشكرك للاطراء.


5 - الأستاذة فاتن واصل المحترمة
ليندا كبرييل ( 2017 / 1 / 22 - 09:11 )
تحية وسلاما، وأهلا بعودة طيبة مع قصة جديدة جاءتنا بعد غياب طال كثيرا

بطل القصة طبيب نفسي يحتاج إلى طبيب نفسي يعالجه
وإذا صدق كل واحد منا مع نفسه فإنه سيكتشف أنه مصاب بشيء من الانفصام، شخصية أمام الناس، وأخرى هي الوجه الحقيقي الذي لا يظهر هنّاتها إلا بينه وبين ذاته
وعندما يذهب الخيال بواحد منا فإنه يتخيل نفسه ما تتوق إليه النفس ولا تصله لموانع اجتماعية، فتجري أمام عينيه تهيؤات لو مدّ لها حبل أشواقه لأصبح مريضا حقاً
هذا ما خرجت منه بعد قراءة قصتك.

أهنئك على هذا الفتح الجديد الذي يضاف إلى ميزان حسناتك في باب الأدب والفن
أرجو ألا تحرمينا من طلّتك العزيزة والمثابرة على الحضور كما عرفناك ناقدة وكاتبة، متمنية لك سنة مليئة بالعطاء

تفضلي احترامي وتقديري


6 - الاستاذة الرائعة ليندا كبرييل
فاتن واصل ( 2017 / 1 / 22 - 09:40 )
مرورك هو الأعز، يا سيدتي كنت مصابة على مدى تسعة أشهر بما يسمى
Inspiration Block
وهو توقف تام في الالهام .. أجلس أمام الكيبورد وأكتب بضعة أسطر ثم أتوقف ولا أعود .. حدث هذا طوال التسعة أشهر ما لايقل عن ثلاثة او أربعة مرات ، ولا حلول. واخيراً استسلمت وتوقفت عن المحاولة.. ولأني توقفت طويلا فالعودة أيضاً كانت عسيرة جدا.
عموما أشكرك على تحفيزك المستمر لي وأتمنى ألا تكون مجرد حلاوة روح. وأشكرك أيضاً على إمتاعنا بحكاية مينامي هذا الكائن الذي أحببته من اعماق قلبي بفضل كتابتك.. محبتي واحترامي وشكراً لحضورك والاضافة.


7 - انك ترسمين بالكلمات استاذة فاتن الفاتنة
رويدة سالم ( 2017 / 1 / 22 - 15:31 )
رسم جميل للاضطرابات النفس وتشتتها في بحثتها عن المعنى
لقد ابدعت حقا في هذا النص
انتظر المزيد
مودتي


8 - أهلا بالكاتبة الرائعة رويدة سالم
فاتن واصل ( 2017 / 1 / 23 - 09:17 )
شكراً على مرورك والاطراء، وأعتذر عن تأخري في الرد فقد كان هناك خلل ما في الولوج للموقع، سعيدة أن أعجبك الاقتراب واتمنى أن أستطيع سبر المزيد من أغوار النفس البشرية رغم مشقة الرحللة والتي كانت دائما محل سؤال وحيرة بالنسبة لي . تحياتي وحمد الله عالسلامة.

اخر الافلام

.. الكويت.. فيلم -شهر زي العسل- يتسبب بجدل واسع • فرانس 24


.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً




.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05