الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فضاء لطيور الموت - قصّة واقعيّة بحلقات (3)

محمود الخطيب

2017 / 1 / 21
الادب والفن


3
كان مفترق قبرشمون لا يزال في يدنا. تتواجد عليه مفرزة صغيرة من الكفاح المسلّح الفلسطيني، قوامها عربة "جيب" ثُبِّت عليها رشاش "دوشكا" ثقيل، وشاحنة صغيرة بحجم "بيك أب" للعتاد ،وثمانية مقاتلين، هم: آمر المفرزة، والسائقان، ورامي الدوشكا، وأربعة رماة آر. بي. جي. وواضح من قلّة العدد وعدم التخندق في المحور أو إقامة المتاريس للتحصّن بها أن مهمتهم تنحصر في رصد الآليات الإسرائيلية والإشتباك المتحرك معها بغية منعها من التقدم نحو خلدة من طريق عرمون أو، على الأقل، عرقلة أي تقدّم.
وكان محور خلدة مسرحاً لمعركة محتدمة بيننا وبين قوة معادية أنزلت على الشاطئ من البحر، ساندتها قوة أخرى قدمت من الدامور التي تمّ احتلالها إثر معركة ضارية قتل فيها نائب رئيس الأركان الإسرائيلي، الجنرال يكوتيل (كوتي) آدم. وعندما استسلم ،المدافعون عن البلدة بعد نفاد ذخائرهم، لم يصدق الإسرائيليون، في بادئ الأمر، أن الذين قاتلهوهم بهذه الضراوة هم مجموعة من ثلاثين شبلاً من أشبال الثورة، لا يتجاوز أكبرهم سنّاً الخامسة عشر من العمر، وأن الذي قنص الجنرال كان من بين هؤلاء وعمره 13 عاماً. ومن مشارف الشويفات، تمدّدت القوة المرابطة هناك نحو الجنوب لكي تشارك، أيضاً، في المعركة.
في وقت متأخر من المساء، سُمِعت أصوات انفجارات واطلاق أعيرة نارية شرقيّ القرية، فخرجت الى عتبة المنزل أستطلع الأمر. كنت ،أرى شرر رصاص الدوشكا يخترق الظلام جنوباّ نحو، حسبما خمّنت، قوات معادية تتقدم . وفي لحظات، أضيأت السماء بإطلاق عبوة إنارة وجرى اشتباك بالقذائف والرشاشات الثقيلة لفترة قصيرة ثم توقف، وعاد الوضع الى سكونه. ومع اطلالة ملامح النهار الرمادية ،استيقظت على صرير ناعم لجنازير الدبابات فرأيت، من طرف نافذتي، رتلاً من ال"مركافاه" الإسرائيلية ينحدر على الطريق العام باتجاه خلدة لإحكام الطوق حول الشطر الغربي من بيروت. وباستمرار المعركة والحصار أغلق المنفذ البرّي الوحيد من، وإلى، بيروت الغربية، فتعذّر عليّ الوصول الى عملي في صحيفة "فلسطين الثورة" ووقعت تحت الإحتلال الذي شمل ، حتى ذلك الحين، الجنوب بأكمله والشوف امتداداً الى بعبدا ومحاصرة القصر الجمهوري ثمّ نزولاً الى خط التماس الفاصل بين شطري العاصمة.
استمرت معركة خلدة وقتاً غير قصير أبلى خلاله قائد القوة الفلسطينية، عبدالله صيام، بلاء حسناً، وثابر على التصدي حتى لفظ أنفاسه الأخيرة على أرض المعركة. وبسقوطه سقط "المثلّث" بيد القوة الإسرائيلية، فأقامت عليه حاجزاً ثابتاً وحصّنته .بمتراسين من أكياس الرمل على جانبي الطريق
* * *
في ظلّ هذا الوضع المشؤوم، صار الهاجس الذي يؤرقني هو كيف أخرج من قبضة الإحتلال بأسرع ما يمكن ، قبل أن تتفرّغ القوات الغازية لتثبيت وجودها بإقامة الحواجزعلى الطرق في المناطق التي باتت تحت سيطرتها، ومن ثمَّ تبدأ بملاحقة أنصار الحركة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية، مستعينة بوشاة محليين يتم .تجنيدهم لهذا الغرض.
كان السبيل الوحيد المتاح هو الانتقال الى البقاع، من طريق عاليه - ضهر البيدر، للإلتحاق بقواتنا المتواجدة هناك. وكنت على علم مسبق بأن طريق عاليه المعبّد المعروف غير سالك منذ مدة بسبب انكشاف مسافة طويلة منه للقنّاصة المتمركزين في القرى المسيحية المقابلة. ومع ذلك، ثمة من يذهب من عندنا الى عاليه، وثمة من يأتي من عاليه الينا. كيف؟
سألت جاري :
- كيف التواصل بالسيارات من، وإلى،عاليه يا جار الرضى ؟
فأرشدني:
- من طريق ترابي غير ممهّد يتفرع من يمين الطريق المعبّد، فيه بعض العثرات الصخرية، ومع ذلك تسلكه السيارات عند الضرورة. الطريق، في مجمله آمن، إلاّ من ثغرة قصيرة مكشوفة للقنص لا تتعدى الخمسين متراً. وهي معرّفة ب"لافتة" قائمة فيبدايتها على جانب الطريق مكتوب عليها:
و"إحذر القنّاص "، وعلى قفاها "تمهّل". وفي آخرها لافتة أخرى، عليها: "تمهّل"، وعلى قفاها "إحذر القنّاص" لثحذير المقبلين من عاليه باتجاهنا. عليك أن تسرع في هذه المسافة القصيرة حتى لا يلتقطك القنّاص بمنظاره، ولكن حاذر من الإرتطام .بالحجارة. بعد ذلك، خذ راحتك حتى ساحة عاليه.
- وصفك دقيق، كأنك استخدمته؟
- أجل، مرّات قليلة؛ وأخي من سكان عاليه ويستخدمه كلّما جاء الينا، والجيش السوري يتحرك عليه.
- في تقاليد الحرب، القنّاص يقابله قنّاص في الطرف الآخر، يترصّده ويعرقل عمله.
- رجالنا يراقبون هذه الثغرة عن كثب طوال ساعات النهار حتى حلول-الظلام. فكلّما أوشكت سيارة على العبور، أطلقوا النار باتجاهه لكي يربكوه فلا تتاح له فرصة التركيز، لكنهم لم يفلحوا في إسكاته تماماً؛ وهو، أيضاً، لم يفلح في اصطياد أحد. في الليل، الطريق .مهجور، لا تسلكه السيارات، باستثناء آليات الجيش السوري.
- ومن أية جهة ينطلق الرصاص ؟
- في ذهابك، من الجهة اليسرى.
كان كلامه مطمئناً بعض الشيء، فشكرته ودخلت بيتي لترتيب أمر المغادرة.
كنّا أسرة من ثلاثة أفراد: زوجتي، وابنتي (3 سنوات)، وأنا. قلت لزوجتي:
- سنغادر هذه القرية مؤقتاً قبل أن يشي بي أحد الوشاة.
- ولكنك صحفي ولست مقاتلا ً، فماذا لهم عندك؟
- هه! لا يزال دم هاني جوهرية حاضراً في الذاكرة. كان مصوراً سينمائياً يحمل كاميرا ويوثّق الحرب. أسروه، ثمّ قدموه "هديّة" لعناصر "جيش لحد" لكي يطلقوا عليه النار أمام أعينهم وهم يضحكون!
- وأين نذهب؟
- الى البقاع. هناك قواتنا، وهناك نفكّر في ما بعد البقاع.
- متى نغادر؟
- بعد أن تصعد الشمس ثلث السماء لكي أتفادى أشعتها الصباحية في عينيّ، فنكون في "برّ الياس" عند الظهيرة. جهّزي بعض الأمتعة: نأخذ حقيبتين للملابس، وأربعة حرامات، وأربع وسائد. هذا ,يكفي؛ فالجوّ قائظ، والسيارة لا تتسع لأكثر من ذلك.
- والبيت؟
- نغلقه ونمشي. حياتنا أهمّ من أثاثه. نعود اليه إن سمحت الظروف، وإلاّ فمصيره كمصير المنزلين اللذين تركناهما قبله بسبب هذه الحرب اللعينة.
* * *
حلّ الليل، فمضت زوجتي تطوي الثياب في الحقيبتين، ومضيت أنا الى الشرفة يستحوذ عليّ هاجس الغد و"ثغرة الموت" الكامنة في الطريق الى عاليه. على يساري تلال الشوف الشامخة التي لا ،يضيرها صرير الجنازير ولا وقع أقدام الغزاة؛ وعلى يميني تجثم في البعيد، بيروت الغربية تحت ظلام تخترقه ومضات ضوئية والتماعات وشهب، ومن حين الى آخر يضاء فضاؤها للحظات بعبوات إنارة ما تلبث أن تخبو فتتحوّل الى رذاذ ناريّ قبيل أن تنطفئ.
للغريب عن الديار الذي لو جلس على شرفتي ولا علم له بما يدور في تلك البقعة من الكون، لبدا المشهد له جانباً رومانسياً صامتاً وبهيجاً من احتفال بالمفرقعات النارية باهظة الثمن يضاهي، وربما يفوق، الإحتفال برأس السنة الميلادية. أمّا لي ولأمثالي المُقحَمين عنوة في دوّامة هذه "المقتلة" منذ ثمان سنوات، فهي الدم السيّال على مدى الليل والنهار والموت الزؤام بالشظايا التي تختطف ضحاياها بسرعة لا تتيح لها حتى رؤية هذا المظهر الإحتفالي القاتل.
ولهذا الغريب الذي جرى إقحامه في المشهد باستدعاء من مخيّلتي لكي يشاركني وحشة هذا الليل المكدّر بحضور مسامر وسريع غرض الدلالة ليس على شخص بذاته، وإنما أي شخص، وربما يكون أنا، لم يكن غريباً من قبل، ويعيش نمط الحياة العادية الذي قد تلتبس عليه المظاهر. غير أن آلة الحرب دارت، وانطلقت دون هوادة، فخلعته عنّي وجعلتني أتنقل بجناحي الحظ بين الشظايا وعدسات القنص.
فكرت كيف يمكن مراوغة، أو التحايل على، قنّاص الغد الذي لا شك في أنه ينتظر طرائده بلهفة وعلى أحرّ من الجمر، فاستعنت بخبرة سنوات الحرب السهلة، الناجحة في أغلب الحالات، وملخّصها "إخفاء الهدف عن عين القنّاص." وقد صرت أستعرض في مخيلتي كيفية تواجدنا في السيارة خلال اجتيازنا لتلك المسافة القصيرة الخطرة من الطريق. بالنسبة اليّ، الوضع شبه ثابت خلف عجلة القيادة ولا يحتمل التغيير إلاّ، ربما، بمَيلان بسيط نحو اليمين بحيث تبقى عيني اليسرى على الأقل فوق مستوى "التابلوه" الأمامية لكي أرى الطريق خشية أن تنحرف السيارة عنها. أمّا فيما يتعلّق بزوحتي وابنتي، صرت ، من حين الى آخر، أُجري تنقّلات وترتيبات وهمية قبل أن أستقرّ على تموضع معيّن لهما. وقد شغل هذا الهاجس الحيّز الأكبر من أرقي الذي استمر لساعات عديدة قبل أن أخلد الى النوم في تلك الليلة.
وفي الصباح قلت لزوجتي بعد أن احتسينا قهوتنا على الشرفة:
- بعد قبرشمون سوف نضطر إلى سلوك طريق ترابي وعر وفيه مسافة قصيرة جداً مكشوفة لقنّاص وتستوجب الحيطة والحذر.
فوجم وجهها، واستقرت عيناها في وجهي دون أن تنبس بكلمة، فتابعت كلامي:
- سأضع الحقيبتين في الصندوق، وأطوي الحرامات وأجمع الوسائد لأملأ بها الفراغ بين المقعدين داخل السيارة، فيصير المقعد الخلفي أعرض. أرى أن تقعدي مع البنت في الخلف؛ ولمّا نأخذ الطريق الترابي تضطجعين على جنبك الأيمن دون مستوى النوافذ، ظهرك الى الصندوق، ورأسك في يمين المقعد، وقدماك الى جهة القناص. ثمّ مدّدي البنت أمامك في الوضعية ذاتها واحضنيها بذراعك حتى لا ترتج بارتجاجات السيارة. وهكذا ستبدو السيارة خالية من الركاب.
- وأنت؟
- أنا سأقود السيارة، ولا خيار لديّ الاّ الركون الى مشيئة الله وجرأة القلب.
وقبل أن أذهب لتحميل السيارة بالأمتعة، طلبت منها أن تقوم بإعداد كميّة من "السندويشات" تكون كافية لليوم بأكمله، وأن تملأ الدورق البلاستك الأزرق بمكعبات الثلج والماء لنُطفئ الظمأ قي قيظ حزيران.
* * *
انطلقنا حوالي العاشرة صباحاً، فسلكنا الطريق العام صعوداً باتجاه قبرشمون. كان الطريق مقفراً في الإتجاهين، صامتاً، تكتنفه وحشة تثير القلق وتوتّر الأعصاب. على المفرق اخذنا يسار الطريق نحو بيصور، ثمّ انعطفنا يميناً الى الطريق الترابي، وتوقفت لهنيهة بغية التأكُّد من وضعية زوجتي وابنتي، ثمّ تابعت طريقي. وعلى مقربة من "إحذر القنّاص" ضغطت بقدمي على "دعسة" البنزين وأطلقت العنان لمقياس السرعة.
في تلك اللحظات الوجيزة التي يخضع صفاء العقل خلالها لمزيج غير متآلف من غزوات ضبابيّة متأرجحة تحمل معها من ابتداعي ومكنون مشاعري ما لا شكّ في أنه يشي بتذمّر زوجتي وابنتي الصامت وعدم رغبتهما في أن اصطحبهما معي في ذلك النهار، لكنهما لم تجدا مفرّاً من تسليم أمرهما لزوج - لأبٍ بلغ سيله الزبى ، فرمى نفسه خلف مقوَد السيارة سعياً الى النجاة عبر احتمالات الهلاك.
وفي كابوس اليقظة ذاك، بلغت سمعي من بعيد تأتآت طلقات نارية خافتة، كأنها "بقبقات" خافتة من سائل لزج يغلي في مرجل وضع على نار لاهبة. وشعرت من حولي، أو من فوقي، لم أعُد أدري من أين، بأن ذلك الحفيف المتسارع، الجامح في رأسي، هو لرصاصات بعدد التأتآت خيّبَت أمل مطلقها، فشطحت عنّي لتخردق الهواء والفضاء بالثقوب!
بعد لافتة "تمهّل" توقّفت. خرجت من السيارة، وفتحت الباب الخلفي لأتفقد اسرتي الصغيرة. قالت زوجتي وهي تمسك بالصغيرة وتعتدل على المقعد:
- كاد يُغمى علي منّ شدّة الخوف !
فتنفست الصعداء، وساعدتهما على الإنتقال الى المقعد الأمامي ثمّ تابعنا رحلتنا دون عوائق الى البقاع، باستثناء توقّف لثوان على الحاجز السوري في "ضهر البيدر".

(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة