الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشرق الأوسط بين روبوتيّة الغرب وانفجاراتها الداخليّة والبحث في ماهية الحلول

صلاح الدين مسلم

2017 / 1 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


تمهيد:
إنّ قراءة التاريخ والبحث عن الحقيقة فيه ومعايشته تنير الطريق أمامنا لمعرفة الحاضر والمستقبل، وما الماضي إلّا جزء فينا، وما فلسفة الماضي والحاضر والمستقبل إلّا كلّ متكامل في فهم ما يجري حولنا، ولوضع الحلول للكاوس أو الفوضى التي يعيشها الشرق الأوسط منذ قرن على أقل تقدير، وعن هذا الكاوس الشرق أوسطيّ يشرح الشهيد رستم جودي في كتابه الشرق الأوسط قائلاً: (فما هو الكاوس؟ كي نستطيع أن نفهم أكثر سنبدأ بأمثلة عمليّة؛ ليتخيل المرء كيف يستطيع الإنسان أن يكون وسط أمواج البحر المتلاطمة؟ فأمواج البحر هي الكاوس، لماذا نقول هذا؟ لأنّ الكاوس هو اللاوضوح، الخطر، الأزمة. فما الذي سيحصل؟ إنّ النتيجة غير واضحة، ففي أيّة لحظة قد تبتلع الأمواج ذاك الإنسان، فالخلاص الوحيد أمامه هو الوصول إلى اليابسة، وبهذه الطريقة يستطيع المرء أن يسميّ هذا حلّاً. ضمن هذا الإطار وخصوصاً في يومنا هذا عندما نقول: كاوس الشرق الأوسط فمعناه؛ يعني أنّ هذه المنطقة بمشاكلها وبكلّ أنواع نواقصها تحيا حياة غير مستقرّة وغير واضحة المعالِم، غير معروف متى ستبتلعها أمواج البحر؟ ولذلك بطريقة أو أخرى فهناك محاولات لإيصاله إلى الشاطئ، وهذه المحاولات متنوعة. إحدى هذه المحاولات بهذه الطريقة تنشد وسيلتها للخلاص وتقول: إنّ الخلاص من الكاوس بهذه الطريقة، الثانية تقول: الخلاص من الكاوس بهذه الطريقة. لذلك فهناك مشاكل في مسألة إيجاد وسائل الخلاص من هذا الخطر).
في سياق حديثنا عن أهميّة إدراك ماهيّة الزمان في تحليل الماضي والحاضر لإدراك المستقبل الذي يعتبر جزءاً من الزمان الذي هو بأيدينا، فالذي يبني بيتاً يعرف أنّه سيسكن فيه، على سبيل المثال، وما التخطيط الجيد للماضي والحاضر إلّا تعريف لنا بالمستقبل، وهناك إدراك آخر علينا امتلاكه؛ وهو إدراك المكان، فالمكان أيضاً يفرض علينا أن نقوم ببحث دؤوب في أصغر بقعة نعيش فيها، ابتداءً من ماهيّة النفس والذات والجسد وأصغر أسرة وصولاً إلى إدراك الكون برمّته، فدراسة التربة جيّداً تفيدنا في عمليّة بناء هذا البيت الذي سنسكنه كما تحدّثنا عن ذاك المثال، فدراسة الشرق الأوسط تقتضي فهم هذه البقعة كجغرافيا مكانيّة، وفهم الزمان والتاريخ، ولماذا كانت منبع الحضارات ومنطلقها؟ لماذا انطلق الزمان من هنا؟ وماذا كان يفعل الغرب حينها؟ وما هو الشرق بالنسبة للغرب وما الغرب بالنسبة للشرق؟ فبدلاً عن التمازج الثقافيّ تحوّل هذا الفسيفساء الشرق أوسطيّ إلى صراع الهيمنة ورفضها أو قبولها، أين نجحت الحضارة الغربيّة وأين فشلت؟ لابدّ أنّ التمازج الثقافي مفيد للشعوب لا محالة، لكن الهيمنة هي التي تلاقي الرفض فتنتج الكوارث البشريّة والحروب، هل استطاعت الحضارة الغربيّة تحليل الشرق؟ هل نستطيع تحليل الشرق من وجهة تاريخ الغرب؟
من المحال أن نفهم مكاننا وزماننا دون معرفة الفكرة الغربيّة التي هبّ غبارها الذريّ على ثقافة الشرق النائم عبر صولات الغزالي في تحريم التفكير وبين مطرقة وسندان استبداد العثمانيين الذين لم يكن لهم همّ سوى همّ شهوة المال والسلطة والحريم، مع أنّ ثقافة الشرق هي التيقد أنتجت ثقافة الغرب سابقاً، وقد استفاد الغرب من السومريين والبابليين والأكاديين.... لكنّ المشكلة في القولبيّة الغربيّة التي تشابه قولبيّة الغزالي، فقد وصل الغرب إلى قناعة أنّهم العالم الأوّل، وبات الغرب من هذه الانطلاقة الدوغمائيّة الفجّة بدوره يريد قولبة الشرق حسب مقاسه الغربيّ.
بما أنّ العالم قد أصبح قرية صغيرة بفضل الغزوّ الثقافيّ للعالم، ففي المحصّلة لا نستطيع فهم أيّة قضيّة مجتمعيّة دون معرفة الزمان والمكان، وقد انصبّت دراستنا للشرق الأوسط من خلال فهم هذه الوضعيّة الليبراليّة العلميّة الغربيّة التي تريد أن تحشر أنفها في كلّ صغيرة وكبيرة في العالم، وفهم هذا الشرق الأوسط موطن الحضارات والعلوم والفلسفات والأديان والميثولوجيات، وموطن الدولة التي تسرّبت إلى عروق الغرب أيضاً، في الوقت الذي آثر فيه الشرق التخلّص من الدولة ظهرت الحداثة الرأسماليّة منقطعة السلالة، لتجعل من الدولة القوميّة السلاح الأيديولوجيّ الفكريّ الذي ابتلي به الشرق الأوسط أيضاً.
لقد أضحتالمجتمعات الغربيّة بنفسها تعاني من رجس الدولة القوميّة مع أنّها نتاج غربيّ، لقد باتت الشعوب في الغرب الروبوتيّتريد أن تتخلّص من هذه الفكرة القولبيّة التي تعيق الإنسان من العيش بحرّيّة وعدالة، وإن لم تضع يدها على الجرح مباشرة، لكن ظهرت العلامات التي رفضت هذه الحداثة من خلال الصراع بين الأنارشيين الفوضويين وبين القولبيين، ومن هنا كانت الدراسات حول نشأة هذه الحداثة الرأسماليّة والبحث عن الحلول للحدّ من تغوّلها في مسامات العالم من خلال فائض الإنتاج الذي يزيد الهوّة بين الطبقات،والصناعويّة التي تدمّر البيئة، والدولة القوميّة دولة اللون الواحد.
لذلك آثرنا أن نستشفّ بذور المشكلة التي تولّدت في الغرب، من خلال عصر التنوير الذي جلب معه هذه الوضعيّة الممقتة إلى العالم والشرق الأوسط أيضاً، وهذه الوضعيّة قد جعلت الإنسان مختبراً للتجارب، وجعلت الشعوب مادّة مخبريّة، وكيفيّة الصراع الغربيّ ضدّ هذه الحداثة الرأسماليّة.
المدرسة البيكونيّة ومقدّسو العلم:
في القرن السادس عشر أي قبل خمسة قرون من الآن رأى فرانسيس بيكونأنّ الفلسفة ما عادت نتفع، فنفى الماضي نفياً قاطعاً، وآمن بالعلم وبقدرته إيماناً مطلقاً على تحسين أحوال البشر، فجعل العلم أداة في يد الإنسان، تعينه على فهم الطبيعة، وبالتالي السيطرة عليها، يقول بيكون: (إن إفساح المجال أمام الشك له فائدتان: الأولى؛ تكون كالدرع الواقي للفلسفة من الأخطاء والثانية؛ تكون كحافز للاستزادة من المعرفة) فكان المنهج التجريبي شعاره في الحياة يقول: (لو بدأ الإنسان من المؤكدات انتهى إلى الشك، ولكنه لو اكتفى بالبدء في الشك، لانتهى إلى المؤكدات)
لقد رأى أنّه لا بدّللوصول إلى الهدف المنشود من مراعاة شرطين أساسيين وهما: شرط ذاتي يتمثل في تطهير العقل من كل الأحكام السابقة والأوهام والأخطاء التي انحدرت إليه من الأجيال السالفة، وشرط موضوعي يتمثل في رد العلوم إلى الخبرة والتجربة وهذا يتطلب معرفة المنهج القويم للفكر والبحث، وهو ليس إلا منهج الاستقراء.وليس المنهج هدفاً في حدّ ذاته بل وسيلة للوصول إلى المعرفة العلمية الصحيحة، إذ أنه - كما يقول بيكون - بمثابة من يقوم بإشعال الشمعة أولاً ثم من خلال نور هذه الشمعة ينكشف لنا الطريق الذي علينا أن نسلكه حتى النهاية.
لقد آمن بيكون بأنه كانت للإنسان سيادة على المخلوقات جميعاً ثم أدى فساد العلم إلى فقدان هذه السيطرة ومن هنا كانت غايته مساعدة الإنسان على استعادة سيطرته على العالم، فكانت وسائل العلم والبحث العلميّ هي الأداة الوحيدة للغرب في تحليل أيّة مشكلّة ووضع الأسباب لها ووضع الحلول قياساً على الاستنتاج الحتميّ لهذه المعادلة الرياضيّة التي تعتمد على وسائل العلم في (الاستنباط، الاستقراء، النظريات والبراهين، الأدلة، العيّنة، التجربة، الاستبيان، الملاحظة، الاختبار...) وكلّ ذلك يعتمد على الإدراك والحواس الخمس، وبات شعار التجربة خير برهان هو الفيصل والحسام الحقيقيّ لكلّ ظاهرة من الظواهر، إذاً أضحى العلم هو السبيل الوحيد للمعرفة، لذلك كان تحليل الأمور ومنها تحليل الشرق الأوسط بهذا المقياس، لذلك ظهرت الأزمة إلى الوجود، لأنّ المجتمع في الشرق الأوسط لم يستسغ هذه الطريقة الوحيدة للوصول إلى المعرفة، لذلك لم يستسغها.
إنّ شروحات صموئيل هنتنغتون لم تستطع أن تفيد الشعوب المتطلّعة إلى الخلاص من سلطة الدولة، فالقدرات الوظيفية للدولة عنصرٌ أساسي في تأمين النظام في المجتمعات الانتقالية، وكذلك المستميت على الدولة القوميّة؛ الكاتب الأمريكي فرانسيس فوكوياماالذي رأى أنّ بناء الدولة أساسيٌ لتحقيق استقرار الديمقراطية فيها، وقد أكّد على أنّ غياب بناء الدول يساعد في تفسير الكثير من الإخفاقات الأخيرة التي شهدتها عمليات إرساء الديمقراطية المفروضة،وكذلك ويل كيمليكا الذي شدّدَ على فكرة مفادها؛ يتعيّن على مؤسّسات الدولة أن تضمن العدل للجماعات العرقية والثقافية والأقليات القومية. فكلّ أولئك المستميتين على الدولة القوميّة هم خريّجو المدرسة البيكونيّة التي ألّهت العلم، وجعلت الدولة القوميّة الحصن الحصين الذي يصون الدولة، لكنّهم أخفقوا في الشرق الأوسط نتيجة هذه العقليّة العلمويّة الوضعيّة.
كان الشرق الأوسط مهد الأيديولوجيّات سواء المفيدة للمجتمع أو التي أثّرت بشكل سلبيّ عليه، لكن الحداثة الرأسماليّة لم تغذِّ سوى الأيديولوجيّات المتطرّفة السلبيّة على المجتمع التي تفكّكه وتخرّبه، كالأيديولوجيّة السلفيّة الإسلاميّة الأصوليّة الراديكاليّة اللاإنسانيّة الرعبيّة الإرهابيّة، وهي تتقاطع مع القومويّةالعنفيّة التي لا ترى أمامها سوى صهر الشعوب في بوتقة الأمّة الأكبر عدداً، وبذلك يتحقّق تنميط المجتمع ووضعه في بوتقة واحدة وقالب واحد.
الصراع بين التنوير والعلم:
إنّ أنظمة السلطة وأنظمة توزيع الثروة قد اتخذت اليوم طابعاً عالميّاً، وصار مركز النظام المهيمن؛ أميركا، ومركز التجارة العالميّ؛ نيويورك، ومركز المدينة؛ ول ستريت، مقرَّ الرأسمال العالميّ، وكلّ ملفّات الاحتكار العالميّ تُدار من هناك، كما كانت لندن سابقاً وستوكهولم والبندقية وباريس... إنّها المركزيّة التي تقلّد مركزيّة أوروك، أور، بابل، بغداد، دمشق...
وكما قال وارن بوفيه؛ثالث أغنى أغنياء العالم حينما سئل: عمّا إذا كان هناك صراع طبقي، قال: (مؤكد، هناك صراع طبقي. طبقتي، طبقة الأثرياء، هي الطبقة التي تخوض هذا الصراع، ونحقق الانتصارات. مهمتنا فيما أرى أن نقلب الآية، ألّا نجعل طبقته تنتصر. ولكي نفعل ذلك علينا أن نتخلص تماما من الطريقة النيولبرالية الحاكمة لرأسماليتنا المعاصرة.) مع أنّ وارن بوفيه قد تبرع ب 99% من أمواله ولم يبق سوى على 1% من أمواله لأولاده، وما المعنى من أن يمتلك 1% من أميركا ما يمتلكه 99% من هذا المجتمع، إذاً أدرك بوفيه أنّ الحياة الحرّة هي أن تعيش ضمن 99% من المجتمع، لذلك لم يرتض لأولاده أن يعيش ضمن مجتمع 1%، لقد كان يدرك أن هذه 1% تكفي أولاده، وبتصريح منه؛ (لئلا يفسدوا كما فسد هو)، وكذلك جاكي شان الذي تبرّع بكامل أمواله ولم يبق شيئاً لأولاده، وكذلك 9 من 10 من أغنى أغنياء العالم فعلوا نفس الفعل، أي كانوا يدركون أنّ المال مفسد للناس، إذاً؛فالحداثة الرأسماليّة مفسدة بالضرورة، ويُدرك هذا الرأسماليّ ذلك، فالحداثة الرأسماليّة تريد إنتاج نفسها دائماً، تريد أن تتطوّر مع تطوّر الديمقراطيّة المجتمعيّة، فكلّما تطوّر المجتمع ازداد الخطر على هذه المنظومة التي باتت تتبجّح بانتصاراتها، ومع أنّها تمتلك كلّ شيء لكنّها تبحث عن الحلّ أيضاً.
هناك صراع بين التنوير وبين العلم، وهناك صراع بين الإدراك والتعليم وبين العلم الذي يريد أن يقولب كلّ شيء في طيّاته، فالتنوير يتعقّب المخفيّ وكلّ شيء مخفيّ هو مهمّة التنوير في كشف النقاب عنه، بينما يتعقّب العلم المجهول ويريد أن يقولب المجهول في عمليّة علميّة قياسيّة حتميّة قولبيّة بحتة، فالمخفي هو ما كان مجهولاً وجرى العلم به، ثمّ لأمر ما جرى إخفاؤه، والتنوير إن لم يكشف المخفيّ تعذّر على العلم البحث عن المجهول، إذاً فالعلم هو نتاج التنوير وليس العكس، والتعليم طريق التنوير، والعلم بالعلم الذي يراد تعليمه هو مهمّة تنويريّة، فالمخفي الذي خفي لأمر سياسيّ ما أو لأمر استراتيجيّ ما بات العائق أمام النهضة التنويريّة بحدّ ذاته، وأمام العلم الذي بات منقوصاً بحدّ ذاته، فالمخفي موجود لا محالة حتّى وإن أسدل الستار عنه، لذلك أضحى العلم سيّداً على التنوير، فالحداثة الرأسماليّة تخفي ما ليس لصالحها، وتأمر العلم والعلماء في البحث عن هذا المجهول الذي جعلته الحداثة الرأسماليّة مجهولاً، وهو ليس مجهولاً بل هو مخفيّ، وبالتالي قُمع التنوير وزيّف،وبالتالي كان زيف الحقيقة، فالمجهول ليس مجهولاً إنّما هو مخفيّ، فعلى سبيل المثال يعرض الإعلام الغربيّ مأساة بسيطة ليشغل العالم بالمأساة الحقيقيّة، فمسألة تضخيم مشهد الطفل آلان الذي غرق في البحر قد جرى تضخيم هذا الحدث، بينما غيّب تصوير المأساة التي يعانيها الأطفال في سوريا برمّتها من أطفال الشيخ المقصود وصولاً إلى أطفال مضايا، وهذا مثال بسيط عن زيف الحقيقة في الحداثة الرأسماليّة في ترسانتها الإعلاميّة الضخمة التي تصرف عليها مليارات الدولارات في سبيل تزوير الحقيقة وإخفائها وتصويرها مجهولاً، فكيف سيظهر التنوير أي إنارة المجهول الذي هو مخفيّ وليس مجهولاً؟
لقد ظلّ التنوير يوتوبيا لأنّه لم يحمل في طيّاته قوّة تغيير مادّيّة، فقد اعتبر ديكارت أنّ المعرفة التي لا تمتلك خاصيتها المعرفيّة في ذاتها إنّما تحتاج إلى قوّة أخرى، غير قوّة وضوحها وتميّزها، وبالتالي صارت هذه المعرفة سلطة، والمعارف السلطويّة هي سلطات وليست معارف، فالمعرفة السلطويّة أو السلطة المعرفيّة هما التناقض بعينه، كأن تقول الماء الناريّة أو النار المائيّة، من هنا انتعشت الرأسماليّة التي تعتمد على القوّة في إحياء منظومتها، فالدولة القوميّة قوّة، والصناعويّة قوّة، والمال قوّة، فسرّبت القوّة إلى المؤسّسات كافّة، وسرّبت الديمقراطيّة المزيفة لإلهاء الشعوب، ومارست حربها الخاصة عبر الجنس والرياضة والفن الهابط وسرّبت العبثيّة الفكريّة إلى أدقّ تفاصيل الحياة، وأنتجت مجتمعاً مستهلكاً لا يدرك الزمان والمكان، يرى العالم عبر منظار العلم المرسوم له.
لقد استطاع ديفيد هارفي أن يصوّر فلسفة المدينة ووصفها بأدقّ الصفات ورأى أنّه لا توجد مدينة تقع خارج الرأسمالية، وبوسع رأس المال أن يجوب العالم،ورأى أنّ الشبكة المدينية في واقع الأمر نظام قوي من الإمكانيات السياسية، حيث يقول: (إنّ مستويات التفاوت الاجتماعي في مدينة نيويورك كبيرة، وهي اليوم أكبر بكثير مما كانت عليه قبل ثلاثين سنة، ولن أندهش بالمرة لو رأيت عصياناً مسلحاً مدينياً بسبب هذه المستويات من التفاوت.) إنّها الرأسماليّة التي تتفكّك في عقر دارها، فبناها العموديّة لم تعد تتأقلم الشعوب فيها، وإن جرى هندسة المجتمع وفق هذه المنظومة عبر العلماء المزيّفين الذين يخدمون الرأسماليّة ولا يخدمون الشعوب، فالطريقة العموديّة الدولتيّة التي عمرها مع عمر نشوء أول دولة في التاريخ، كانت تواجَه بمحطّات ثوريّة كبيرة، وإن كانت تواجَه بثورات مضادّة وتفشل بعد فترة بسيطة، لكن في المحصّلة كانت هناك نهضة ويقظة وانفجار، لكن الحداثة الرأسماليّة التي قويت قبل قرنين من الزمن وبعد الحربين العالميتين وبعد عصر التكنولوجيا والمعلومات وبعد إنتاج علماء مروّجين لهذه المنظومة -وسنبحث في هذا المجال- لكنّ الطاقة مازالت كامنة على الرغم من التحصّن الرأسماليّ بأعظم قوّة أنتجتها؛ وهي القوّة النوويّة والإعلام الذي يشبه تلك النواة.
كان مورايبوكتشين لديه حل أكثر منطقية لمشكلة كيفية تنظيم وإصلاح واسع النطاق، مقارنة بمحدودية البنى الأفقية غير الهرميّة الهيارارشيّة، لكن هناك بعض الأنارشيين بالمقابل يرون أنّه من المنطقي أن يتمّ التفاوض مع الدولة، أو أن تتم محاولة إصلاح الدولة، وهناك بين الأنارشيين من يقول: إنهم لا علاقة لهم وإنهم لا يريدون أي شيء من أيّ كيان يشبه سلطة الدولة ولو من بعيد، ومن هنا كانت موهبة الفوضويين في عرض المشكلة والأطروحة واللأطروحة المضادّة، لكن مشكلتهم كانت تكمن في البحث عن الحلول، أو البحث عن التركيبة.
سيادة الغرب الحلّ الذي ظلّ هاجس الغرب:
لقد ظهرت حركة التنوير العربيّة عبر الكواكبيّ والأفغانيّ ومحمّد عبدو... لكنّها قُمعت من قبل الإنكليز والفرنسيين، بينما أعطت الضوء الأخضر للظلاميين كمحمّد بن عبد الوهاب وسيّد قطب والبنا والمودوديّ... لتمهّد هذه الأقلام الظلاميّة لظهور زيف الحقيقة للأخلاق الإسلاميّة وتحويلها إلى نواة تتفجّر في الشرق الأوسط عبر داعش، وكذلك أفسحت المجال لظهور الأقلام التي مجّدت القوميّة كأنطوان سعادة والأرسوزي والحوراني... وبذلك صارت القنبلة الأيديولوجيّة جاهزة للضغط عليها كلّما أراد الغرب وكلّما أصبحت الدولة القوميّة ضعيفة في الغرب، فنتجت الحرب بالوكالة، وتصدير الثورة، والابتعاد عن مواجهة الحقيقة من خلال تصدير المشاكل، ومعالجتها في أماكن أخرى،فأصبحت ضحيّة هذه اللعبة القذرة، فكلّ من يقوم بالثورة يدفع الثمن، وصار هذا الزيف هو العنوان الواضح لهذه الأيديولوجيّة التزيفيّة.
إنّ الشعور بالهزيمة والاستسلام هو الشعور الذي يجب أن يكون سائداً، يجب هزيمة الشعب معنويّاً، إنّها الحرب التي طبّقت على الشرق الأوسط، فعلى الفرد في الشرق الأوسط أن يعيش حالة من انسداد الأفق ليرى الحلّ في الحداثة الرأسماليّة، ليتكوّن الانطباع عن السعادة وفق مفهوم اللذّة والمال، كي يشعر المواطن في الشرق الأوسط في شعور أنّه في العالم الثالث، وعليه أن يفكّر في الهرب إلى المجتمع الأوّل في الغرب، أو أن يقلّد الغرب إن لم يستطع الوصول إلى الجنّة الموعودة عبر ركوب الأهوال، ليكون هذا الهاجس هو الهاجس الوحيد الذي يسيطر على الفرد في الشرق الأوسط، ولكي تكون معايير المقياس العلميّ المنطقي هو المعيار الوحيد للحياة، بعيداً عن الأخلاق والمبادئ والضمير والمجتمع الأخلاقي السياسيّ.
لقد أثبتت التجارب أنّ الإطاحة بالطغاة لا تؤدّي حُكماً إلى الديمقراطية، خصوصاً في ظلّ غياب المؤسسات المجتمعيّة التي من شأنها أن تجعل من الدَمَقرطة عمليةً مستدامة. وبفعل التدخّلات الخارجية، تكون مآلات هذه الانتفاضات إمّا حرباً أهلية - كما هي الحال في سوريا والعراق وليبيا واليمن... - أو نظاماً ديكتاتورياً يشبه من سبقه، كما هو شأن مصر، وما الحرب بالوكالة التي تجري في سوريا إلّا نتاج هذه الفوضى العارمة، التي أدّت إلى حرب طائفية مباشرة بين الدول.
نيتشه المتمرّد على الحداثة الرأسماليّة:
لقد كانت نداءات نيتشه غير المسموعة حول تجرّد الإنسان الحداثويّ من الإنسانيّة والأخلاق هي التي ستودي بحياة البشريّة، نيتشه الذي قرأ الإنسان ومسيرته بتاريخ مستقيم وحلزونيّ وبذكاء تحليليّ وعاطفيّ معاً، استطاع أن يومئ إلى الحقيقة من وجهة النظر الرباعيّة (الفلسفة، العلم، الميتافيزيقا، الدين) وهذا ما افتقر إليه علماء الاجتماع العلميين الوضعيين، واستطاع أن يصرخ صرخته المدويّة القائلة: (لقد مات الإله ونحن نريد أن يحيا الإنسان الأعلى) قد يكون قصده بالإنسان الأعلى؛ النخبة، العرق، الطراز، الأوليغارشيّة... وهو الوجود الأرستقراطيّ الأعلى الذي تقلّده الطبقة الوسطى التي ترى الكمال في هذا الأنموذج الأعلى، فيكدّ باحثاً عن المجد الأكيليّ مستنزفاً كلّ طاقاته للوصول إلى ناطحات السحاب، والوصول إلى الإنسان الأعلى، وكلّ فرد يتسلّق ظهر الآخر ليصل إلى ذاك الإنسان الأعلى ويرتضي أن يتسلّق أحد كتفه، إن كانت تقتضي المصلحة الفرديّة ذلك، ليصل في النهاية حسب مخيلته إلى المجد اللانهائيّ، وكلّ فرد هو جلجامش في النهاية يبحث عن نبتة الخلود،هذا بتصوّري هو تفسيره للإنسان الأعلى وقد تتناقض مع الكثيرين ممّن ادّعوا أنّهم فهموا معنى الإنسان الأعلى الذي يقصده نيتشه، لكنّهم صوّروا أنّ الإنسان الأعلى هو الخلاص من هذه المعمعة هو تفسير آخر للإنسان الأعلى بمعنى المخلّص.
لقد استطاع أن يصف الحداثويّ أنّه (الحيوان الأكثر مرضاً بين سائر الحيوانات) وينتقد التمثيل بالأخلاق لدى الفرد الحداثويّ (تحبّونفضيلتكممحبّةأمّ لطفلها؛لكنمتىسمعتمبأمتبتغيأجراًعلىحبّها؟) هو النظام الأجريّ الذي أنتج أفراداً سعداء في هذا النظام البيروقراطيّ الرأسماليّ وأفراداً عبيداً عاطلين عن العمل، وهذا الرأسماليّ غدا صنماً جديداً كما قال في هذا السياق: (سيمنحكمكلشيءذلكالصنمالجديدإنأنتمعبدتموه: هكذايبتاعبريقفضيلتكمونظرةأعينكمالفخورة.) وصار هذا الفرد مبتعداً عن إنسانيته كما عبّر بقوله: (كنتمقردةذاتيوموإلىالآنمايزالالإنسانأكثرقرديةمنأيقرد) ذاك القرد المسخ هو الإنسان الذي تريده الحداثة الرأسماليّة؛ (أعرفهمجيداًأولئكالشبيهونبالآلهة،يريدونأنيؤمنالناسبهم،وأنيكونالشكخطيئة،وفيالحقيقةهملايؤمنونلابالعوالمالماورائيةولابشيءأكثرمنإيمانهمبالجسد،وحتىجسدهمشيءمريضبالنسبةإليهم،وبودهملويخرجونمنجلدتهم.. لذااستمعواإلىالجسدالمعافىياأخوتي).
هذه الطريقة التي عرضنها في البحث عن الحلول النيتشويّةستفيدنا كثيراً في قراءة الحداثة الرأسماليّة التي تريد أن تستحوذ على كلّ شيء، وتريد أن تسيطر على الزمكان كما كان يصوّر نفسه حمورابي، فالحداثة الرأسماليّة الزمكانيّة لا تريد أن يكون هناك فراغ في العالم، وعلى وجه الخصوص الشرق الأوسط، تريد أن تزرع هذا المسخ الحداثويّالقرديّفي الشرق الأوسط أيضاً، ولكنّها مازالت تتموضع في بوتقة الثورة الشرق أوسطيّة التي تلفظ هذه الوصفة الجاهزة، التي تتساقط تباعاً في الغرب أيضاُ.
إنّ صرخات نيتشه لم تسمع في الغرب، وعلينا كشعب الشرق الأوسط أن نستمع إلى حلوله الميتافيزيقيّة والفلسفية والدينيّة والعلميّة، ليس الحلّ العلميّ أحاديّ الجانب الغربيّ الذي فتح مراكز دراسات ضخمة تحلّل الشرق الأوسط بنظرتها الوضعية وتصرف عليها مليارات الدولارات سنويّاً، وما أولئك العلميّون الوضعيّون الذين ارتهنوا للمخفيّ وجعلوه مجهولاً، لا ينظرون إلا وفق ما تمليه عليهم نظّاراتهم التي صنعتها الحداثة الرأسماليّة، ومازالوا يستهزئون بالذين يصلون إلى الحقيقة والمعرفة عبر زوايا المعرفة الأربعة التي ذكرناها (العلم، الميتافيزيقيا والميثولوجيا، الفلسفة، الدين) وهي النظرة التي يمكن تسمّيتها ب4D، وهي الشاشة المستخدمة في بعض دور السينما، التي تمكّن من الإحاطة بالموضوع المعروض أكثر من الصورة أحاديّة الجانب.
ما بعد النظام العالمي الرأسمالي من خلال نظرة إيمانويل والرشتاين:
من خلال ما حلّله إيمانويل والرشتاين الذي يشغل منصب كبير الباحثين في جامعة ييل الأميركية وهو صاحب نظرية النظام الدولي، في أبحاث مختلفة (السياسة والاقتصاد في ظلّ المتغيرات الإقليمية والدولية) (تداعيات انحدار القوة الأميركية وأثرها في منطقة الخليج) (اللعب بالنار: الولايات المتحدة والعراق وإيران) (تصور والرشتاين لفترة النمو (2000 – 2025) قد أكّد والرشتاين في كتبه ومحاضراته على نتائج مهمّة فقد رأى أنّ الحرب العراقيّة الإيرانيّة كانت بافتعال أميركيّ بمشاركة من ريغان ورامسفيلد، لإنهاك الطرفين القويين، وكذلك غزو الكويت، وخذلان الأميركان للكرد، ثم جاء بوش وفتح ملفّ (محور الشر)؛ العراق وإيران وكوريا الشمالية، ودفاع كونداليزا رايس عن حزب البعث الذي هدمته من قبل، وإفساح المجال للسنّة بعد التغوّل الشيعيّ في العراق، ثمّ الفشل الأميركيّ العلميّ الوضعيّ في العراق.
يرى إيمانويل والرشتاين أنّ القوة الأميركية تنحو نحو الانحدار، والولايات المتحدة في عالم فوضى؛ ولم يعد يجدي خطاب القوة، وأفول نجم الهيمنة الأمريكية قد خلق مجالاً للصراع على الهيمنة، إذْ يؤكّد والرشتاين أنّ صعود الدمقرطة حتميّ في منطقة الشرق الأوسط والعالم بأسره، بعد تراجُع النزعة الليبرالية، حيث أنّ الأساس في ولادة الليبرالية هي حصر وضبط الطبقات الاجتماعية الخطيرة برأيه، أولاً في دول المركز التاريخي ثم في داخل منظومة النظام العالمي كله، وكان الحل الليبرالي هو في منح هذه الطبقات منفذاً محدوداً إلى السلطة السياسية كما يصور والرشتاين، في قسمة محدودة أيضاً لفائض القيمة الاقتصادي بنسب لا يمكنها أن تهدّد إطلاقا العملية المتواصلة لتراكم رأس المال ولا المنظومة الدولية الضامنة لذلك، وإنّ تراجع النزعة الليبرالية مع انتشار الديمقراطية التي تناهض السيطرة والتسلط، والتي تطالب بالمساواة بين الأفراد في التطور السياسي ونظام المكافئات الاقتصادية والاجتماعية يؤدي إلى ازدياد خطورة الطبقات الاجتماعية حسب تصوّره، ويصبح النظام العالمي في موقف لا يحسد عليه، ويرى والرشتاين أن تراجع الليبرالية مقابل انتشار الديمقراطية هو سمة بارزة في بداية طور النمو، إذْ يرى والرشتاين أنّ ما سيحدث في البداية هو عجز النظام العالمي عن حلّ مشكلاته وعجزه عن العودة إلى شكل جديد من التوازن، ويرى والرشتاين أن حدود هذا العجز تتمحور حولضعف الدولة من ضبط النظام على المستوى الداخلي، وهو يستبعد فكرة تفكك الدولة في مناطق الأطراف، ويرى أنّ عجز الدولة عن ضبط نظامها الداخلي سيؤدي الى التوتر في سير عمل المنظومة القائمة بين الدول، وضعف الدولة في دول المركز وهو الذي يحمل خطر التهديد الأكثر عنفواناً، وفقدان الثقة بإمكانية تسوية مؤسساتية ليبرالية.
ويرى أنّ فقدان الدول والعلاقات بين الدول لحالة التوازن وانعدام الفاعلية سيدفع الناس إلى البحث عن الحماية في ظل جماعاتأثنيه –دينية –لغوية...، وستكون هذه الجماعات كخيارات بديلة عن المواطنة والمشاركة في الدولة، وبما أنّها أي؛ الجماعات لم تكن من نتاج الدمقرطة والإحساس بفشل الدول بالإصلاح، ونتيجة الخوف المتزايد فحسب، بل من نتاج وعيها بحقها في المساواة أيضاً، فهذا ما يجعل منها قوة معبئة ومؤثرة للغاية.
فالفوضى التي تصورها والرشتاين لن تدوم، حيث يتم الاتجاه نحو الخلاص والحلّ وإيجاد نظام جديد، ويرى أنّ هناك فئتين سوف تقودان هذا الاتجاه وهو جوهر كلام والرشتاين:فئة الحالمين بترسيخ عملية التدرج الطبقي والامتيازات، وهي تقود الاتجاه نحو نظام يضمن لها الامتيازات، وقوى الديمقراطية وهي التي ظهرت سابقاً كحركات مناوئة للنظام وقد قدّر لها تاريخها أن تكون تاريخ انتصارات وتاريخ إخفاقات.
في ماهية الحلول المطروحة:
لقد أضحى الشرق الأوسط مستنقع الحداثة الرأسماليّة الأوحد في العالم، فتخبّطت وانهزمت كثيراً، رغم صولاتها وجولاتها، وما خلق حالات الفوضى إلا تعبير واضح لعجزها، وصرفت الكثير الكثير من أموالها التي سرقتها من هذا الشرق الدامي وصرفتها على هذه المنطقة، لقد فشلت الحلول الوضعيّة في هذه البقعة، فقد بات الشرق الأوسط يعيش بين روبوتيّة الغرب وانفجاراتها الداخليّة وبين آليات البحث في ماهية الحلول، وما عادت الشعوب الشرق أوسطيّة ترتاح لهذه الحلول الغربيّة، وبات الغرب بنفسه يرضخ لهذه الحلول، فبات يستمع إلى شعوب الشرق الأوسط، وانتهت تلك النظرة أحاديّة الجانب التي كانت تتلخّص في الاستماع إلى النظرة الغربيّة فحسب، واستنكار الحلول الشرقيّة، وقد استطاعت الحداثة الرأسماليّة من خلال تقارباتها الأخيرة من المجتمعات من أن تدرك أن تفتيت المجتمعات يعادل تفتيت الذرّة، بل أكثر، حيث يقال: إنّ تفتيت ذرّة ما يحتاج إلى تقطيع شيء ما إلى قطع تعادل ما يأكله العالم من حبات الرز في خمسة ملايين عام، وهذا مثال على استحالة تفتيت المجتمع مكانيّاً كان أم زمانيّاً.
إنّ فكرة استنكار حالة الاستقرار التي تتفرّد بها روجآفا لن تدوم، فالإعلام العربيّ المنقاد من الأنظمة المعاديّة للكرد، وهذه المنظومة أو الترسانة الإعلاميّة الشرق أوسطيّة التابعة لمنظومة الإعلام العالميّ، لا تتنازل لتقول: إنّ حلّ الإدارة الذاتيّة والأمّة الديمقراطيّة هو الحلّ الأنجع للخلاص من حالة الفوضى التي يعيشها الشرق الأوسط.
وكان البحث عن الحلول كالبحث عن إبرة في كومة قشّ، فتارة كان يتمّ طرح المؤسّسات القويّة، وتارة الإسلام السياسيّ الشرّ الذي لا بدّ منه، وأحياناً المؤسسات السياسية الشاملة؛ الإجماع أو تقاسم السلطة الذي يتيح لمختلف الشرائح السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة أن تشعر بأنّها مشمولة عندما يتمّ استبدال الطغاة بشخصٍ ينتمي إلى جماعة دينية أو عرقية مختلفة.
لقد غدا الصراع بين الأخلاق والقانون، بين الديمقراطيّة كمعنى والديمقراطيّة كبنى مسلوبة، لقد أضحى الصراع بين الأيديولوجيّة الوضعيّة الفردانيّة وبين المجتمعيّة التي لا تقدّس العلم المزيّف إلى درجة الألوهيّة المطلقة، وها هو الشرق الأوسط الذي لم يرضخ للقولبة الرأسماليّة التي استفادت من كلّ النظريّات والأيديولوجيّات في خدمة الإنتاج والاستهلاك.
هناك فارق كبير بين أيديولوجيّة إنعاش الذاكرة المجتمعيّة في مسألة حماية العِرض والشرف، وبين أيديولوجيّة التكفير سواء التكفير الدينيّ أو التكفير القوميّ، فتصويب المدافع تجاه الكرد يحتاج إلى تأجيج النزعة الهجوميّة من خلال تكفيرهم دينيّاً وقوميّاً، لذلك بات الصراع بين التكفير والفكر، وما بين تكفير المعارضةِ الكردَ وتكفير النظامِ المعارضةَ وبين تكفير المعارضة النظام، واللعب على الحبلين من قبل النظام على الكرد، ومع ذلك استطاعت القِوى الكرديّة الفعليّة في روج آفا أن تؤسّس نظرتها السياسيّة التي ظلّت تقول: لا ناقة لنا ولا جمل في هذا الصراع الدولتيّ.
أضحى الحديث عن القتلى في الحرب السوريّة حديثاً عابراً، وصار الخبر روتينيّاً، وكأنّك تتحدّث عن حريق في قطعة أرض وما عاد هناك موسم، لقد بات قصف أردوغان لشعبه حدثاً اعتياديّاً، فهناك من قام بجرائم أفظع، وكأنّ القتل والدمار في سوريا مبرّرٌ ليفعل أيّ حاكم ما يريده، لقد استطاع أردوغان أن يعطي دليلاً حيّاً على أنّ أيّة ديمقراطيّة دولتيّة في الشرق الأوسط مآلها السقوط، وهذا ما جعل الأمر أكثر تعقيداً لدى منظّري الدولة القوميّة، فعن أيّ استقرار للديمقراطيّة تحدّث عنه فوكوياما؟ وهل استطاعت هذه الدولة القوميّة أن تؤمّن النظام في المجتمعات كما صوّرْتَ يا هنتغتون الذي جعلتَ الدولة إلهاً؟ لقد جعلتْ هذه الوضعيّة الممقتة الشرق الأوسط يعيش حالةَ الفوضى العمياء، لقد جعلت بعض مردّدي الشعارات يرفعون لافتات تقول فيها: سنبذل دماءنا من أجل وقف الفيدراليّة، وكأنّه يمضي في مجهول لا يعرف ماذا يريد من كم هذه الشعارات التي تعصف به؟ ويريد أن يعيش مع الذي ينهبه ويقتات عليه دون أن يدرك مصلحته في العيش المشترك واللامركزيّة، ذاك المركز الذي جعله عاطلاً عن العمل، جعله لا يعرف ما له وما عليه.
نختتم بحثنا بمقتطف من قول السيّد عبد الله أوجلان يلخّص بحثنا، وإن لم نستطع إيراد بعد الأسماء التي ذكرَها في هذا المقتطف:(لَم أَكتفِ بقولِ الصحِّ مثلما نيتشه، ولَم أَرضَ بإعلانِ موتي على صعيدِ الإنسانيةِ كما ميشيل فوكو، ولَم أَقُل "علينا تحمُّلُ ما يَحُلُّ بنا" بنحوٍ قَدَرِيٍّ وكإنسانٍ مُستاءٍ مثلما أدورنو، ولَم أَجِد اللَّوذَ إلى شعارِ البحثِ عن "الوحدة ضمن الاختلاف" كافياً كما آندريهغوندر فرانك، بل على عكسِ إيمانويل والرشتاين، لَم أؤمنْ بكفايةِ الإشارةِ إلى أهميةِ المهامِّ الفكريةِ والأخلاقية والسياسية، لا ريب أنّ المفكرين وأصحابَ الفضيلةِ هؤلاء كانت لهم مساهماتٌ هامةٌ في خوضِ تجربتي هذه، وأنهم مَدّوني بالجرأةِ اللازمةِ لخوضِها. لكنّ مقولةَ "الحياةُ الخاطئةُ لا تُعاش بصواب" المصيريةَ لا تَحتملُ الجدلَ أو السجالَ بالنسبة لي، ذلك أنه لَم تَكُ لي أيةُ حياةٍ حسبَ هذه المقولة، لقد جَرَيتُ كثيراً، لكن لا قوتي، ولا إيماني كانا كافيَين لبلوغِ الحياةِ الرأسماليةِ العصرية، والأمرُ الأشدّ حرجاً كان نداءَ الإنسان المتمردِ الذي في داخلي، وقوله "لا تَبِعْنا أو تُفَرِّطْ بنا، بل جِدْ ضالّتَك في نفسك". إني أُدَوِّنُ تمرداتي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قيادي بحماس: لن نقبل بهدنة لا تحقق هذا المطلب


.. انتهاء جولة المفاوضات في القاهرة السبت من دون تقدم




.. مظاهرة في جامعة تورنتو الكندية تطالب بوقف حرب غزة ودعما للطل


.. فيضانات مدمرة اجتاحت جنوبي البرازيل وخلفت عشرات القتلى




.. إدارة بايدن وإيران.. استمرار التساهل وتقديم التنازلات | #غرف