الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من شارب هتلر الى لحية البغدادي ... حفريات تاريخية

صادق الطائي

2017 / 1 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


من شارب هتلر الى لحية البغدادي ... حفريات تاريخية
صادق الطائي
ان موضوع الشوارب واللحى،شكلها اطلاقها حلاقتها ،بات موضوعا مشتركا لاكثر من حقل كالانثروبولوجيا وعلم الاجتماع والاديان المقارنة والموضة وحتى السياسة .فاذا ما نظرنا الى الرسوم الاثرية التي ارخت تاريخ الامم ،من البابليين والاشوريين الى اليونان والفرس والمصريين والهنود ،ستجد الفرق في اشكال وهيئات الرجال، فالملابس مختلفة وقصات الشعر واللحى والشوارب مختلفة ،فالشعور واللحى الطويلة المجعدة ميزت اشكال الفرس والبابليين والاشوريين بينما تشير اثارالحضارة المصرية بوضوح الى الرؤوس الحليقة والوجوه اللامعة الخالية من الشارب واللحية فيما اعتبره المصريون القدماء قاعدة اساسية من قواعد النظافة ،اذ كانوا يزيلون شعور رؤوسهم ولحاهم وشواربهم ،كما تدلنا تماثيل ملوك الاسر المصرية على نوع من حلية ذهبية بديلة عن اللحية الحليقة هي عبارة عن لحية ذهبية صغيرة يلبسها الفرعون كاحدى مكملات التزيين الملكي .
وللاديان مواقف مختلفة من الشعر ،فنجد بعض الديانات تعتبر رأس الانسان مقدسا ولا يجوز المساس به ، وبالتالي حرمت قص الشعر وحلاقة اللحية والشارب او حتى تقصيرها كما هو الحال في الديانة السيخية وفي بعض الطوائف الهندوسية ،وكذلك الحال في الديانة الايزدية والديانة المندائية في العراق ،اذ يجب على الرجل الملتزم دينيا ترك شعر الرأس واللحية والشارب سواء كان رجل دين او انسانا عاديا متدينيا، وقد كان افراد الطائفة المندائية قبل قرن من الان بشكل عام ملتزمون بهذا الامر وبالتالي فهم معروفون بلحاهم وشواربهم الكثة الطويلة غير المشذبة ،وهو نفس الحال عند رجال الدين في الطائفة الايزدية في العراق الذين يمتنعون عن حلق لحاهم وشواربهم حتى الان ،ويبدو ان بعض طوائف اليهود كان لها نفس هذه العادات بدليل حديث نبوي روي عن الرسول الكريم ، يقول (خذوا من شعوركم واستاكوا، وتزينوا، وتنظفوا فإن بني إسرائيل لم يكونوا يفعلوا ذلك فزنت نسائهم)،وكان موقف الاسلام من الامر مختلفا اذا اعتبر تشذيب اللحية وتقصير الشوارب وتقصير الشعر من الامور المستحبة في ما يخص نظافة الرجل،وكان العرب معروفين باهتمامهم واكرامهم اللحى مع عدم الاهتمام بالشارب وقد انتقل ذلك الى الاسلام كما يروى في الحديث النبوي الذي يحض على اكرام اللحية واطلاقها واهانة الشارب وتقصيره.
وبقي حال الاهتمام باللحية والشوارب ابان العهد العثماني على ما كان عليه كتقليد ديني واجتماعي حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما دخلت الدولة العثمانية عصر الحداثة ،فاستبدلت السروايل الرجالية الواسعة والملابس المزركشة بالبدلة الاوربية واصبح غطاء الرأس الرسمي هو الطربوش الاحمر بديلا للعمامة وعمد الرجال الى حلق لحاهم والاعتناء المبالغ به بشواربهم التي اخذت شكل او موضة ماعرف بشوارب الامبراطور الالماني فيلهلم ،الشوارب الطويلة المعقوفة الى الاعلى والمثبتة باستعمال نوع من الشمع الذي يحافظ عليها بهذا الشكل ،وقد كانت هذه الموضة لشوارب الرجال شائعة في جميع بقاع اوربا في تلك الحقبة ،ولان الناس على دين ملوكهم وبحسب القاعدة الاجتماعية التي تقول ان المغلوب يقلد الغالب ،اصبحت طبقة الافندية في الولايات العثمانية تلبس بهذه الطريقة ويعتنون بشواربهم بنفس الطريقة مقلدين افندية عاصمة الامبراطورية اسطنبول ،وفي هذه الفترة تحديدا اصبح لشارب الرجل قيمة جنسانية ودلالة رمزية على الفحولة ،حيث كان الرجل يحلف بشاربه او يمسك شاربه اذا تعهد لاحد بالقيام بامر ما دلالة على عدم نكوثه بالعهد والا اصابته سبة تمس رجولته وهو من الامور التي لا يغتفر.
بقيت موضة الشارب المفتول شائعة حتى فترة مابين الحربين العالميتين ومع فوز الحزب القومي الاشتراكي الالماني(النازي) في الانتخابات في ديسمبر 1929 ،سطع نجم زعيم المانيا الجديد ادولف هتلر،وقد كان ما يميز شكل هتلر شاربه الصغير المربع الشكل . والملفت ان شارب هتلر لم يصبح موضة في المانيا برغم كاريزما هتلر وشعبيته الكاسحة ،فاذا نظرت الى صور هتلر مع افراد حزبه او مع جنرالاته وجنوده ستجد ان الكل حليقي اللحية والشارب ،والمعروف ان اللحية والشارب كانا محضورين في الجيش الالماني باستثناء الدرجات الخاصة ،وكان هتلر احد الاستثناءات،فاذا نظرت الى صور القادة الالمان ستجدهم كلهم حليقين باستثناء هاينرش هيملر قاد القوات الخاصة الألمانية والبوليس السري المعروف بالجيستابو الذي كان يحتفظ بشارب خفيف شبيه بشارب هتلر .
المفارقة ان شكل الشارب الهتلري انتشر واصبح موضة في الدول العربية التي كانت تحت السيطرة البريطانية ،فالدعاية الالمانية المؤثرة وجدت ارضا خصبة في بلدان المشرق العربي نتيجة كراهية الانكليز،واصبح الشارب الهتلري يزين وجوه الساسة والعامة في الشارع العربي ،فمثلا رؤساء الوزارات واغلب الوزراء العراقيين في حقبة الثلاثينات وبداية الاربعينات كانوا يشذبون شواربهم على الطريقة الهتلرية ولم يقتصر الامر على الساسة ذوي الميول الالمانية مثل رشيد عالي الكيلاني وناجي شوكت والعقداء الاربعة الذين قاموا بانقلاب مايو 1941 ويونس السبعاوي وزير اعلام حكومة الانقلاب المدعوم من المانيا الهتلرية ،انما المفارقة كانت بان الساسة ذوي الميول البريطانية اصبحوا يشذبون شواربهم على الطريقة الهتلرية مثل علي جودت الايوبي واحمد مختار بابان وغيرهم،وقد افلت موضة الشارب الهتلري بعد هزيمة المانيا في الحرب العالمية الثانية في النصف الثاني من الاربعينات لتشهد شوارب تغيرات اخرى.
اثرانتشار السينما والصحافة و التلفزيون في حقبة الخمسينات بشكل كبير على الموضة بشكل عام وعلى شكل الشوارب بشكل خاص ،فشاع نمط الشارب المشذب بعناية على طراز نجوم السينما المشاهير مثل كلارك غيبل و باول لوكاس و رونالد كولمان او على نمط شوارب دونجوانات السينما المصرية مثل انور وجدي وعماد حمدي ومن بعدهم عمر الشريف ورشدي اباضة وكمال الشناوي ،واصبح الشارب الرفيع المعتنى به موضة تتماشى مع شكل الملابس الرجالية حيث اصبح البنطلون ضيق وياقة الجاكيت صغيرة وربطة العنق رفيعة ،فاصبح الشكل العام للرجل ينم عن مغالاة في التشذيب والتهذيب ،ولاسباب عديدة كانت موضة الملابس والاشكال تستمر لفترات زمنية طويلة قد تمتد لعقد كامل ،وهذا ما حدث في نهاية الستينات مع ما عرف بظاهرة البيتلز وحركة الهيبيز الاحتجاجية على الشكل الرجالي المتعارف عليه والتي تضمنت اطالة شعور الرجال واطلاق اللحى والشوارب في بدايات السبعينات ،وقد وصلت هذه الموجة بلداننا العربية في السبعينات بشكل مفلتر انعكس على شكل الملابس والشعر واللحية دون تأثيراته كفلسفته احتجاج ورفض اجتماعية انتشرت في المجتمع الغربي الا بحدود ضيقة ،وفي العراق شاع نمط الشارب الكبير المتهدل على طرفي الفم وقد امتاز به حقبة السبعينات البعثيون والمسؤولون فيما عرف بـ (شوارب 8 شباط)كناية عن الانقلاب البعثي الفاشل في عام 1963، بينما انشق اليسار العراقي (شواربيا) الى مدرستين،فالمدرسة التي تميل الى التنظير والانضباط الماركسي التي كانت غاطسة في الكتب والنظريات ونقاش المقاهى احتفظت بشكل الشوارب الانيقة او الحليقة ،بينما المدرسة الثاني ذات الميول الثورية والحلول المسلحة مالت الى الشكل الجيفاري في اطلاق اللحية والشارب الكث غير المشذب ذو الدلالة على الانشغال الدائم بهموم الطبقات المسحوقة .
وبقي للشارب مكانة مميزة في المجتمع العراقي حتى بعد موجة الحداثة التي مرت على المجتمع في عقدي الخمسينات والستينات والتي اشاعت نوعا ما ثقافة حلاقة الشارب،لكن الشكل العام للشباب العراقي في حقب السبعينات والثمانينات بقي مميزا بالاحتفاظ بشارب كبير في الوجه ،ومع عسكرة المجتمع التي امتدت طوال حكم الرئيس صدام حسين وهو صاحب احد ابرز الشوارب (السياسية) في العراق والعالم، اصبح للشارب قيمة معنوية اكبر،ففي لقاء للرئيس في نهايات التسعينات مع مجموعة من قيادات الدولة كان الرئيس يشكو من حالة تخاذل الحكومات العربية وعدم وقوفهم مع العراق لرفع العقوبات الاقتصادية عنه ،فصرخ صرخته الشهيرة متسائلا (متى تهتز الشوارب ؟) مخاطبا الحكام العرب ،في دلالة على ان الرجل عندما يتعرض للضيم تهتز شواربه غضبا فيثور للمهانة التي تلحق به ،وقد قيلت في حينها العديد من النكات في الشارع العراقي على تساؤل الرئيس عن عدم اهتزاز الشوارب ،وفي هذه الحقبة ابتدأت بوادر ظهور التيارات السلفية في المجتمع العراقي المدعومة حينها من الحكومة وحملتها الايمانية التي اطلقها صدام حسين في منتصف التسعينات ،فظهرت اشكال الشارب المحفوف مع اللحية الطويلة والتي تشكل سمة الشباب السلفي بالاضافة الى الجلباب القصير طبعا .
ولا يتم الموضوع الا بذكر الشوارب المعدنية ،نعم ،فقد كانت اغلب سيارات المسؤليين العراقيين في سبعينات القرن العشرين مع الوفرة المالية التي فاضت على العراق نتيجة ارتفاع اسعار النفط العالمية من نوع (مرسيدس280S ) ،المعروفة في العراق بتسمية محلية هي (مرسيدس ابو شوارب) نتيجة للشكل المميز لمانع الصدمات الامامي ذو الخطين المعدنيين البراقين الشبيه بشوارب المسؤليين البعثيين ،وربما اطلق الناس هذا الاسم على السيارة للسببين شوارب المسؤول وشوارب سيارته .
وبعد اطاحة الغزو الامريكي بنظام صدام حسين عام 2003 ،تعرض الكثير من الحلاقين في بغداد وعدد من المدن العراقية الى الاغتيال او التهديد بتفجير محالهم اذا هم مارسوا قص شعر الشباب على الموضة او حلقوا لحاهم او استعملوا الخيط لترتيب الحواجب او ازالة الشعر من وجه الرجل،وبالبطبع كان التهديد من جهات متشددة دينيا وراح الكثير من الشباب ضحية هذا العنف (الشواربي). الم اقل لكم ان للحية والشارب ابعادا سياسية ،ومن يريد التأكد ليتتبع الامر من شارب هتلر حتى لحية الخليفة ابو بكر البغدادي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رفح: هل تنجح مفاوضات الهدنة تحت القصف؟ • فرانس 24 / FRANCE 2


.. مراسل شبكتنا يفصّل ما نعرفه للآن عن موافقة حماس على اقتراح م




.. واشنطن تدرس رد حماس.. وتؤكد أن وقف إطلاق النار يمكن تحقيقه


.. كيربي: واشنطن لا تدعم أي عملية عسكرية في رفح|#عاجل




.. دون تدخل بشري.. الذكاء الاصطناعي يقود بنجاح مقاتلة F-16 | #م