الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سهام النخوة

عبد الرزاق عوده الغالبي

2017 / 1 / 27
الادب والفن


وينفجر الزمن، عبوة ناسفة تتبعثر أشلاؤه كرات من خجل، تحت قدميها النصف حافيتين من مظاهر الدنيا، بريئة من كل ما يحدث ، نصف حذاء تتباهى به القمامة، يعانق قدميها بشوق ولهفة، وينفخ صدره بكبرياء، أنه لا يزال لم يفقد هيبته، ربما كان يوشح أرجل غادة، فهو يملك الحق بهذا الكبرياء، لو علم أنه يطأ ذهباً، يلفها تحت الأسمال حزم من نور، تنطلق مبعثرة بعفوية، تنتشر في ظلال المكان بفوضوية عارمة تبهر النواظر وتهز الشهوات والندم معاً، تنبعث من الثقوب والرقع التي ترصع تلك الأسمال وكأنها تغلف قالباً جليدياً يرتجف من شدة البرد ، يحاول أن يخفي إشراقته بارتباك مكشوف ومحفوف بوقاحة التلصلص ، والتواء الأعناق تحت عواصف العوز المغلف ببداعة الخلق، تغط حتى أذنيها في بحر الاستحياء، حتى تكاد تغرق، تستجدي أنفاسها بصعوبة، إلا من بقية في طرف اللسان، ترمي بنفسها كرة من رهبة تتدحرج، فوق قارعة الأمل المرتمي بين ذراعي الإفك، تخرج بنت شفة واحدة وينقطع الرجاء بتلك النبرة المتهالكة، تحت أمواج الأهوال المترامية من انكسار وحرقة :

-"لم أتناول طعاماً من يوم أمس...!؟"

وانحسر الصوت، فغر الزمن فاهه وبرزت أسنانه القاسية، وبات يقترب من هذا الكيان المزهر ليسرق، كأنه يريد يقضم آخر لقمة من وجبته الدسمة بعد أن أتى عليها كاملة، لكن صوت ارتطام رأسها في الأرض، أغضب النخوة وجمد الصراخ فوق الشفاه، هرعت الرجولة والأنوثة والإنسانية معاً، بدأت الشفاه تلوك، والألسن تلعن، تتحرك كعجلات مركبة من ريبة ، طمست في وحل من شفقة أملس لا تثبت فيه أقدام، تعبت من أحمال رزايا الفعل المنحرف ، واستهتار الزمن المخبول، تغطت بغطاء الهمس والتساؤل حتى أذنيها، ذلك لم يعق برد الشوارع والأرصفة، الذي رتع في أنحاء أرض كيانها الغارق في أوحال اليتم والوحدة والفقر والموت والهلاك والحزن وأسباب الزمن السوداء، كتلة سوداء غطت بجناحيها جميع معالمها

المبهرجة بالثقوب، ربت خفيف فوق خد لذيذ ناعم أعاد نصف عينيها نحو الموجود ولهذا الهجير اللاهب بالأسى، حتى بات الحزن رفيقاً، يعزف سمفونية العويل الدائم، والحزن الموغل في القلوب، أنشودة الديمومة التي لا تنسى ولا تمل ولا تموت:

-" أين أنا.... ومن أنت....!؟"

طارت بنات شفاهها بصوت التعب المستميت فوق ساحات حظها العائد تواً من حرب خاسرة بين الجوع والشبع، البرد والتشرد، الأمومة والمسؤولية، تمزقت فوق جثث جوعها بشائر النصر والانكسار معاً، فهي تقاتل في الجهتين، رغيف خبز ضائع تطارده، بين أحلام مفقودة، وآلام تقطر دماً و تقطع أوصال دواخلها الفارغة، أجابت الكتلة السوداء الجاثمة فوق أثيرها المهموم :

-" لا عليك يا ابنتي، اعتبريني واحدة من بنات هي ... من أنت وما قصتك.....!؟"

تلفتت كمجمع الأسى، حول محورها بغرابة وكأنها تبحث عن فردوسها المفقود، رغيف خبز حار، هو منتهى طموحها بان لها في غيبوبتها حلماً، وقد اختفى الآن في الغميضة، الدور الأخير، نطقت الثانية أشد من الأولى:

-" أطفالي ، لا أدري أين تركتهم بعد اشتداد البرد والجوع.....!؟"

لم تمهلها تلك الكتلة السوداء الجاثمة فوق أثيرها المكلوم، قدح امتلأ حتى الحاشية وفاض هماً، وجعاً، دمعاً، وووو

-" ولماذا تركتهم، وصرتي هنا....!؟"

اندلقت عيناها فيضاً من وجع فوق أرصفة شوارع العوز، غيثاً يسقي همومها العطشى، يطفو فوق هزيع موج الدموع، ورمت الثالثة، أشد السابقات:

-" اشتد القصف و الجوع والبرد معاً ونحن لا نملك سوى الخيمة....!؟"

عندها نسى الزمن القاسي وقاحته العمياء تماماً، بكى بدموع ثكلى، واشرأبت أعناق الملائكة، وبانت قبضات التساؤلات والألم تتحرك اتجاه البعض، أظنّ بسوساً سترسو في هذا المكان بين الخير والشر، غطى صاحب المحل الموقف بغطاء الرجولة والإنسانية والحكمة وبساطة الأهل حين الشدائد ، تشتد:


-" لمٓ جئت لي.....!؟"

شعرت المأساة بقرب الانفراج، فأترعت الموقف بسيل من إعصار نخوة ، حضرها الخير واضعاً يده فوق صدره، متعهداً بالوفاء تلك المرة، هرب إبليس، حين لفح النور فوق وجوه الألسن، وأردفت صاحبَ المكان بنخوة أخرى :

-" أملي بطانية لأطفالي، وما يحتل جيبي لا يكفي ، عشرة آلاف دينار ، أروم منها خبزاً ، لم يزر خيمتنا من يومين....!؟"

رعدت سماء الموقف بشدة، واكتظت الغيوم فوق هامات وعيون علامات التعجب والاستفهام، وتحركت العواطف بأرجل من حديد، تسابق الخير والريح، وتمسح وجوه الأخوة والأمومة والأبوة، هي ثورة من علائق، ديدن أهلنا الفقراء حين يشتد أوار الظلم والعوز، لم يكسر صاحب المكان حياء مجمع المآسي تلك، فقد مسح عرقها بقول مشبع بالرجولة وأسباب الله:

-"عندي طلبك، بطانيات ثلاث، اشتريتها قبل عام، ولم يشترِها أحد مني، فهي قصيرة، سعر الواحدة ألفي دينار، خذيهم كلهم بستة آلاف فقط...!؟"

أشرقت سماء وجهها وانحسرت الغيوم، إلا من رذاذ خفيف يرطب الموقف، نسمات خفيفة قلبت الموقف دفئاً، مسك الجوع نفسه وهدأت الآلام في جوفها، ورحل البرد من جسدها المنهد، وهو يلوح بيده مودعاً، فقد هزم فوق قارعة الخير والإنسانية، وأريق دمه بسهم من سهام النخوة، غادر المكان متجهاً صوب مأساة أخرى، هو حال الدنيا، احتج أحد الزبائن وقال بغضب :

-" لمَ بعتني ذاتها بثلاثين ألف دينار وبعتها ثلاثٍ بستة آلاف ؟ والله أمرك عجيب يا أخي...هل أنت مجنون.....!؟"

أجاب صاحب المحل بهدوء وسكينة :

-" لا يا أخي....انا لم أبعها شيئاً، انا تبايعت مع الله، حسبت الرزق بفرق السعر، صدقة في السر، لكي أحفظ ماء وجه معوز، والعفاف زينة المعوزين، وهل يا ترى إن فرق السعر يستوفي إراقة ماء وجه معوز، لو أجهرت الفرق....!؟....وقد بعت و كسبت عشرة أضعاف ما بعت.....!؟"


انفض الموقف تحت جناح الحكمة والخير والرجاء، و صاحبت مأساتنا جمع النخوة نحو مخيم سوق السياسة الجاهز ليبدأ العدو من جديد .....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا