الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استعارة النص من المتخيل اللغوي ...سليم بركات ينشط مجددا في -ثادريميس-

متعب أنزو

2006 / 1 / 12
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


في مكان أشبه بمكتبة بورخيس , أو مكتبة المتاهات الموصوفة في " اسم الوردة " لأمبرتو أيكو , يعثر " سليم بركات " على مفاتيح أسطورة يعلو دهاليزها الغبار , حتى لتبدو لنا نحن البشر – بدائية , موغلة في القدم , أسطورة يصف فيها الراوي الأحداث من الخارج , نترقب معه وهو الدليل المتبصر , كلمات مصاغة في محاورات تتحين فرص مواتية للدخول في سرد شاعري مرتب , يجد صداه في العمارة اللغوية " لثادريميس "
رواية تتعثر فيها الحياة بارتيابات الموت "المعروضة بتصفيف وارف على كامل ضفاف النص ، لأن أناس سليم بركات يجيدون صنع نهايات متقنة، بذات الدرجة التي يتعرف بها عليهم ودائما بعلامة ما .
وفيما يفتتح صاحب " كهوف هايدرا هودا هوس والفلكيون في ثلاثاء الموت " نصه بسرد شعري يتبدى فيه الموت جلياً مقلقاً وباعثا على التساؤل والمسائلة , يجيء السرد هنا كحد هاجسي ومعرفي لواقع يستحق تدوينه، إفصاحاً عن وجود, فقد شهية المعنى فيه. حيث الغرائبية هنا , هي فعل سردي فائض وفاضح ينمو باستمرار شاعريته، لتأكيد مفارقات الواقع .
ثمة عالمان متغايران في النص ، وفي التغاير يمارس العنف وظيفة قطعية ، حيث النتيجة إما تغليب طرف على آخر، أو ذهاب الطرفين من خلال ممارسة الحد الأقصى من العنف،إذ لا حيادية في توجيه مسار اللعبة، لأن بركات لم يكن خارج مشاهده المنصبة والمنتقاة بعناية ماهرة , وشفافية مفترسة .
هي ثنائية تضادية مألوفة في اللعبة الروائية لديه، في استمالة المعنى، لاصطناع المواجهة بين نقيضين، وصولاً إلى إرباك القارئ بالذات، بأن ثمة شيئاً يجب المساءلة حوله، وهنا تبرز المرأة عبر تمثالها البرونزي، وهي تحمل اللوح لتدوين ما جرى ويجري " شهادة المستجد في الأحداث " ليكون تهشم اللوح بعد وقوعه عن كتفها إفصاحاً عن نهاية وخيمة، ومعها مجموعة التماثيل الأخرى" وبخطى بطيئة عبرت التماثيل السهل المعشب، شمالاً، ثم توارت خلف صفوف الكروم الفاصلة بين معاقل الأرض ومعاقل السماء.
وفي الوحل...جرت نهاية من أرادا توقيف الزمن" مينادي هيكو،وديامين ثاروس" حيث كان تمثال المرأة البرونز سبباً لمواجهة احترابية بينهما، وللمصير الفجائعي للطرفين، والتمثال بالأصل يخص أهل هيكو، حيث كان مرغوباً فيه، لقدرته على نحت الكائنات، أي تخليد من يتم نحته. لكن ميزة التمثال، هي في كون المرأة البرونز ذات عينين كتيمتين خاليتين من الحدقات.
إنه الصراع على مستقبل أعمى، على مصير مميت، طالما أن الرغبة في الحياة بكل دفقها المنشود مفقودة. تحال المرأة – بفعل النص- إلى دالة حياة، مثلما تحال وقد تجسدت في تمثال ,عصية على بث الروح في من يفتقدها، وفي من يستجدي خلوداً ليس أهلاً له،
لا توجد مصادفات في احتكام سليم بركات للسلوك الروائي ,إذ يتبدى ذلك كامتياز لغوي يرتكز إلى ذكاء معرفي خبير , مضمونه : المأثور الأدبي والفني والحياتي للكاتب بالذات، مع الإشارة إلى انه لا ينأى في حبكته الفنية عن عالم التراجيديا اليونانية الإغريقية, عن السرد بوصفه زمناً مفعَّلاً في زمن غير متناه ، لكنه الزمن الذي يتلمس فيه القارئ ما يثيره ويستثيره، مثلما أن بركات غير بعيد عن العالم الذي يكتنزه في ذهنه عبر متخيل لغوي , يغوي بالمتابعة ، وقدرة في جعل الفعل السردي مأخوذاً بفتنة القول المروي فيه.
ما اعتقده هو أن ثادريميس تسعى إلى ممارسة هذا الفن السردي بفعالية مركبة, يؤكد بها سليم ذاته كانسان، دون أن يؤدي دوراً رسالتينا، لأن سردية المتخيل لا تعتمد المباشرة، ، مثلما يكاشف به عالم يحتويه ، وتتصارع فيه لغة الحياة والموت بصور مختلفة.
تسعة تماثيل أحدها ضخم لامرأة من البرونز، واثنان نحاسيان، وما تبقى من الحجر، في أرض هيكو، تجد قريناتها في نساجات أربع في أرض ثاروس لا يعمدن إلى تلوين الأصواف، قبل غزلها خيوطاً، لأنهن يؤثرن الصوفَ أبيضَ , حتى لا يخضع لمساءلة اللون وشهواته، وبذلك يكنّ عادلات في غزله.
هناك أيضا أهل ثاروس الأكثر اندفاعاً للبحث عمن ينحت صورهم، يبدون بعيدين عن فاعلية اللون،و فَهم لعبة الحياة....... الثمن الذي يطلبه اللون ليتجلى، وحدها التقلبات قادرة على إلغاء كل مشروع حياتي، طالما التماسك الداخلي منتفي " كل يوم يختار الفرد الواحد، الناضج في ثاروس، إلهاً مختلفاً ، قد يختار المرأة، أو الباب، أو الخاتم، أو الهواء، أو الرمل، أو الماء، أو الظل، أو الصوت، أو الشخص الأقرب إليه, بالمقابل، يظهر مينا ذي قاضي هيكو مندفعا للنيل من أهل ثاروس، ومن قاضيها يورابات، وهو الذي يريد تأكيد جسارته بقوله : " سنجعل أحياء ثاروس يخالون أنفسهم نباتاً" ولا يبرز في النهاية، وعلى مد النظر سوى البحر المنفتح على ماقبل تشكل كائنات النص ،
في اليوم الثالث من سبي التماثيل التسعة تحسم ثادريميس خيارها، فتقرر أن تنحت رسماً لخازن الفؤوس. وحين يجن جنون الولاة، الذين تباروا في الاقتراع على من سيكون الأول في سجلهاّ الحجري، تفاجئهم بقول , لم يكن في حساباتهم الرؤيوية أو المعرفية : " أنا أختار لنحتي من تتطابق صورته مع الصدى، الذي لا يبرح أعماقي المجوفة " , صدى .... كان إيذانا بسيادة مربكة للموت.
في هذه الرواية يتقفى سليم بركات اثر أكيد في استمرارية الإبداع , مقترحا وجها آخر من تراجيديا لها بعد فلسفي عميق يحتم التوقف عنده للإمساك بخاصية النص , حيث إيقاع الحوارات مسجل في زمنين زمن السرد في الماضي و وزمن الحوارات في الحاضر.
" ثادريميس " نص يحث القارئ على الدخول فيه باحتياطات مضافة , ومن أبواب لاترى بالعين المجردة , شكل من أشكال الكتابة الروائية يحتاج فيه القارئ أيضا إلى التفكير في إيجاد مخرج من حياكات السرد المسكوب في رقعة شطرنج ..... حيث الحركة القادمة هي حركة مفترضة ونهائية....... للهروب من الموت.

الكتاب : ثادريميس "رواية"
الكاتب : سليم بركات
الناشر: الدار العربية للدراسات, بيروت "2005"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القمة العربية تدعو لنشر قوات دولية في -الأراضي الفلسطينية ال


.. محكمة العدل الدولية تستمع لدفوع من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل




.. مراسل الجزيرة: غارات إسرائيلية مستمرة تستهدف مناطق عدة في قط


.. ما رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لوقف إطلاق النار في قطاع




.. الجيش الاسرائيلي يعلن عن مقتل ضابط برتبة رائد احتياط في غلاف