الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ألقاه في اليم مكتوف اليدين: الحكومة العراقية القادمة

صائب خليل

2006 / 1 / 12
الصحافة والاعلام


أثار انتباهي عنوان مقالة في طريق الشعب يقول: "الحكومة مسؤولة عن كشف الحقيقة ومعاقبة الجناة".
ليس العنوان الا بديهية لايختلف عليها اثنان, أو هكذا يجب ان تكون.

ولكن ليس العنوان وحده الحقيقي والبديهي, بل كذلك محتوى المقال عموماً, اقتطف منه :

"إن الحكومة مسؤولة قانونياً وسياسياً وأخلاقياً عما جرى من انتهاكات تتعارض مع شروط إجراء انتخابات نزيهة"
"وتقتضي مسؤولية الحكومة، التي عليها أيضا واجب الدفاع عن المواطنين وحرياتهم وحق الأحزاب والقوى السياسية بممارسة نشاطها السلمي"
"وعلى الحكومة، أيضاً، أن تتخذ الاجراءات الرادعة بحق مرتكبي أعمال الترهيب والاعتداء على حريات المواطنين، ومعالجة مشكلة المليشيات والزمر المنفلتة التي تهدد بمخاطر إحلال نفسها محل مؤسسات الدولة وممارسة مسؤولياتها، وخصوصاً الأمنية والعسكرية، على نحو يتعارض مع الشروع بتطبيق اي شكل من أشكال الديمقراطية الحقيقية."
"فلينصت الجميع الى صوت العقل ونداء الضمير المسؤول .. ولتتحمل الحكومة مسؤوليتها .. وليتلق الجناة العقاب الذي يستحقون."

صحيح ولكن....
صحيح كل ما جاء أعلاه ولكن لكي تتمكن حكومة من تحمل مسؤوليتها ينبغي ان تتاح لها الفرصة لكي تتحملها فعلاً.
ففي كل انحاء العالم الديمقراطي تتشكل الحكومة من مجموعة متجانسة تثق ببعضها الى درجة كافية للعمل معاً, ولم اسمع بحكومة ديمقراطية تشكلت من "جميع طوائف البلاد" أو "جميع الفرقاء", فعندها لاتكون حكومة ديمقراطية بل حكومة تعبر عن عجز الديمقراطية وإستسلامها وتسليمها حقها في تقرير تشكيلة الحكومة الى مقياس اخر غير رأي الاغلبية الذي تستند اليه, تسليم ذلك الحق الى "حق القوة" المتمثل بتوزيع وتشكيلة القوى السياسية والعسكرية في البلاد. هناك امثلة كثيرة للغاية على هذا الفشل والاستسلام وأقربه الى العراقيون ما حدث قبل حوالي عقد من الزمان في كردستان العراق حيث قررت اطراف "الديمقراطية" الوليدة هناك التخلي عن نتائج التصويت وتشكيل حكومة تعتمد على توزيع القوة بينها.

ألديمقراطية هي وسيلة لإدارة الخلاف وليس لحمله الى الحكم.

ففي البلاد الديمقراطية تحكم عادة مجموعة لاتزيد اصواتها غالباً عن النصف الا قليلاً, وأحياناً يحكم حزب واحد كما في الولايات المتحدة وبريطانيا, ولم يطالب احد هناك بتشكيل "حكومة وفاق" أو حكومة "تضم جميع الأطراف" الخ من العبارات الفارغة. وليتها كانت عبارات فارغة, بل لها محتوى خطير.

فأحزاب اية ديمقراطية هي أطراف مختلفة الرأي بشكل اساسي. انها اطراف متصارعة لم يشترط في تشكيلتها اي انسجام أو تعاون, وأتفاقها الوحيد هو ان تمارس صراعها في حلبة الإنتخابات. فالديمقراطية أساساً هي "حق الاختلاف" وهذا الإختلاف هو ما يعطي ألديمقراطية معناها, وتعطيه بدورها الحل السلمي, ليفوز في النهاية احد تلك الآراء المتصارعة فيعطى فرصة للحكم اربعة أو خمسة سنوات. لهذا السبب تجرى الإنتخابات لأنه من المستحيل تشكيل حكومة تضم كل اختلافات اطراف الطيف السياسي في البلاد. وبما انه يستحيل ايجاد قرار مناسب لكل الاطراف, يجري التحكيم بالإنتخاب ليفوز احد الأراء بحق القرار لمدة اربعة سنوات (مثلا) ويفترض في الباقين ان يكتفوا بممارسة معارضة سياسية سلمية لاتعرقل القرارات (إلا اذا حصلت على أغلبية هي الأخرى) الحكومة يجب ان تكون قادرة على اتخاذ القرارات, وإلا كانت مشلولة. لذا فأن حكومة متناقضة حكومة محكوم عليها بالموت, والقبول بمثلها انتحار سياسي حتى ان كان اسمها جميلاً كالتوافق.

لكن مصائب قوم عند قوم فوائد, فلفائدة من تكون مصائب العراقيين السياسية؟

يمكننا ان نعود خطوة واحدة الى الوراء لنعرف الجواب: الى الدستور العراقي.
فلقد نجحت الضغوطات في فرض تشكيل لجنة دستور "توافقية" و "تضم كافة اطراف الطيف العراقي" و "تتخذ فيها القرارات على اساس التوافق" حيث "لا يجري التصويت على القرار بالأغلبية" و "ما نتفق عليه يقرر, وما نختلف عليه يحذف أو يؤجل". بهذا الكلام الشعري وصفت لجنة الدستور, فما هي النتيجة؟

النتيجة لجنة مشلولة غير قادرة على اتخاذ اي قرار تقريباً. فما يناسب طرف يضر بالمقابل, ولكل فرد في اللجنة حق الفيتو, أي لكل فرد حق تعطيل اية مادة في الدستور, حتى الأفراد الذين لم ينتخبهم احد!

وهنا بالطبع لم تتمكن اللجنة من الإتفاق حتى على الصيغة المهلهلة لمسودة الدستور** دون تدخل السفير الأمريكي وضغطه على الأطراف المختلفة وإجبار البعض على التنازل عن اصرارهم على رأيهم. فاللجنة المتناقضة التي اعتمدت على "التوافق" لم تكن قادرة على الحركة دون الأمريكان, وفي هذا درس مهم.

بنفس الطريقة, لن تتمكن الحكومة "التوافقية" المتناقضة القادمة من إتخاذ أي قرار بدون مباركة وتدخل السفير الأمريكي, الذي سيجد الفرصة لدفع تلك الحكومة الى الإتجاه المناسب بالطبع. لذا يهم الأمريكان قبل كل شيء تكوين حكومة متصارعة سيعطوها اسماً جميلاً وصفاة جميلة لكنهم سيسعدون بدورهم كقوة محركة لاغنى عنها.

نلاحظ ان زلماي الذي اكثر قبل الإنتخابات من تأكيداته على ضرورة وجود حكومة "قوية" غير لهجته الآن الى ضرورة حكومة "عريضة" بعد ان يأس من رجله "القوي".

لذا لانستغرب ان شدد سترو على ان تكون الحكومة العراقية المقبلة «حكومة وحدة وطنية حقيقية لا مجرد واجهة». وهو لايكتفي بالنصح بل يضع نفسه مراقباً لاسلوب الحكومة في الحكم:«لا يكفي ان يؤكد المسؤولون السياسيون، كما هي الحال في الوقت الراهن، على ضرورة حكومة وحدة وطنية. يجب ان نتأكد من الاسلوب الذي عليها اتباعه». واضاف: «عليهم التفكير بالكيفية التي ستعمل وفقها حكومة مبنية على توافق عريض وكيف سيمكنها اتخاذ القرارات فالحكومة اذا عكست فقط انقسامات البلد لن تكون فعالة».

بالطبع فأنه من غير المفهوم كيف تكون الحكومة "عريضة" تشارك بها "كل الطوائف" و« تضم كل الفرقاء»,دون ان تعكس "أنقسامات البلد" وتصبح "غير فعالة"!

أما بالنسبة للعراقيين فجلال طالباني لم يختلف عن موقف الامريكان والبريطانين في شيء واكد كثيراً ومراراً«على الحاجة الى تشكيل حكومة وحدة وطنية».
ورغم محاولاتهم في البداية, ورغم الحديث عن خطوط حمر, لم يتمكن الفائزون من الصمود والدفاع عن حقهم وواجبهم الإنتخابي بتشكيل حكومة محدودة منسجمة, فجاء تبرير الجعفري لإستسلامه للضغط تبريراً مثيراً للضحك حيث قال ان الحكومة المقبلة يجب ان تضم «كل الفرقاء بعدما شاركت كل الشرائح في الانتخابات». فلم اسمع من قبل بحكومة تضم كل من شارك في الإنتخابات!

وهاهو أخيراً يقول بما لايؤمن به: «ان جميع الكيانات التي حصلت على نسبة عالية في الانتخابات، تؤمن بحكومة وحدة وطنية» فهو يعلم تماماً ان البعض لن يتصرف إلا كما فعل في السابق ولن يهدف إلا الى لغم وافشال الحكومة بأي ثمن. فعلاوي لايتمنى شيء بقدر أن يظهر للعراقيين ان "لا رئيس وزراء إلا هو" وأنه وحده القادر على ايقاف الأرهاب, والحقيقة ان هذه هي نقطته الإنتخابية الأساسية باعتباره رئيساً "قوياً", لذا فليس من الطبيعي ان يعمل على خسارة تلك النقطة بالعمل على انجاح الحكومة الإئتلافية في القضاء على الإرهاب ان شارك في الحكومة أو لم يشارك.

وأما الفساد, فلعل وزارة علاوي كانت افسد وزارة عرفها تأريخ العراق, لذا فليس من مصلحته محاربة الفساد, الذي اصبح مؤسسة قوية قادرة على الدفاع عن نفسها وعن من يحميها.

أخيراً من الواضح ان الامريكان واتباعهم البريطانيين لايريدون شيئاً بقدر اعادة اقصى ما يمكن اعادته من اتباع صدام (لم يكن هناك بعث في السنوات الاخيرة), واعطائهم المواقع الحساسة الامنية, فهي صمّام الأمان ان افلتت الديمقراطية من اطارها المرسوم. فهاهو خليل زاده يشير بصراحة للتصميمَ الأمريكيَ لإجْبار قيادةِ المجلس الأعلى للثورةِ الإسلاميةِ في العراق للكف عن السيطرةِ على أعضاء أمنَ الحكومةِ, و بأن عملية استئصال «البعث» «قد بولغ فيها»، مشيرا إلى أنه لا بد من إصلاح الخلل.

ألإنقاذ الوحيد للديمقراطية هي في تمكن الفائزين في الإنتخابات من تشكيل حكومتهم التي يرضون عنها ويشعرون بمسؤوليتهم عن تصرفها وقدرتهم على قيادتها وتحمل نتائج قراراتها. أن مثل هذه الحكومة هي وحدها القادرة على اعطاء الديمقراطية رمزاً ومعنىً وقوة. أما الحكومة التي يمكن ان تتكون من خلال الإحتيالات والإرهاب والتهديدات فلن تكون إلا حكومة فاشلة, ولن تكون إلا دليلاً آخر يقنع العراقيين بأن الديمقراطية لاتعمل في العراق وأن قدرهم بالرضا بدكتاتور أو نصف دكتاتور يحميه الأحتلال, وهنا سيقفز ممثل الإحتلال لتقديم خدماته.

ألمفروض ان يكون قد ثبت للإتلاف ان الامريكان لايريدونهم في الحكم وأن لاسبيل الى صداقتهم, وأن فرصتهم الوحيدة تكمن في اضعاف سيطرة الإحتلال على مفاصل البلاد. وقد كانت هناك فرص عديدة لتحديد حركة الأمريكان وتقليل سلطتهم, وتثبيت صورة حكومة حقيقية كريمة, كان آخرها اهانة السفير الأمريكي لوزير الدفاع ووصفه اياه بالطائفية, وكان من المفروض ان تطلب الحكومة استبداله فوراً, فإن لم تستطع فأن تعيد له الإهانة بكلام توبيخي, واضعف الإيمان ان يستدعيه وزير الخارجية أو رئيس الوزراء ويطالبه بسحب كلامه, لكن رد الحكومة كان اضعف حتى من اضعف الإيمان, وليس مثل هذا الضعف بمناسب في هذا الوقت.

التحدي كبير, ويبدوا انه أكبر من قدرة قيادة الإئتلاف السياسية على مواجهته, فهي بحاجة الى رجال من نوع اخر يفتقر اليه العراق للأسف. ومن ناحية اخرى فأن الضغط الهائل المسلط على الإئتلاف لن يزيد الطين إلا بلة, ولن ينتج نتائج ايجابية بل سيزيد من التراجعات عن المباديء لصالح القوى الأخرى من بقايا الصداميين والأمريكان ومن يمثلهم. أما القلق السني, المتمثل بتصور الحكومة الشيعية كوحش قادم لإفتراسهم فلا يمكن أن يكون إلا وهماً صنعه من يستفيد من جو الإرهاب والفرقة, مضافاً اليها اخطاء وحماقات الحكومة المنتهية.

لذا فعلى من يطالب الحكومة بـ "أن تتحمل مسؤوليتها الكاملة" كحكومة حقيقية, ان يسعى لمساعدتها أولاً على ان تكون حكومة حقيقية منسجمة, حتى وإن كان مختلفاً معها, على الأقل من اجل إنقاذ الديمقراطية, وإلا كان كمن:
"القاه في اليم مكتوف اليدين وقال له إياك إياك ان تبتل بالماء"

* http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=40460
** http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=44138








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما هي تداعيات إبطال محكمة العدل الأوروبية اتفاقيين تجاريين م


.. إسرائيل تستعد لشن هجوم -قوي وكبير- على إيران.. هل تستهدف الم




.. واشنطن بوست: تساؤلات بشأن مدى تضرر القواعد العسكرية الإسرائي


.. مسيرات تجوب مدنا يابانية تنديدا بالعدوان الإسرائيلي على غزة




.. رقعة | كيف أبدل إعصار هيلين ملامح بلدات نورث كارولينا في أمر