الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدلية الحداثة المادية والحداثة الثقافية

مهدي النجار

2006 / 1 / 13
الادب والفن


بات من الأمور الاعتيادية في الاجتماعيات العربية استيراد أنماط الحداثة المادية،الضرورية والكمالية،من الآخر (الغرب) بدءا من اصغر الأشياء وابسطها تلك التي تدخل في مفاصل حياتنا اليومية ومنازلنا ومعاملاتنا (الأثاث،الملابس،القرطاسية،المواد الغذائية والصحية والطبية والإنشائية،الخ…)إلى اضخم الأشياء واعقدها(الجرارات الزراعية،وسائل النقل،منظومات المصانع والاتصالات والكهرباء والتبريد،الخ…)ولكن الأمر المشين هو( استيراد) الحداثة الثقافية التي تنقص هذه الاجتماعيات بل آل الأمر إلى منعها وشن حملات معادية ضدها باعتبارها(علوما دخيلة)حسبما يسميها ابن قتيبة والسلف الصالح الإسلامية وتعدى الحال في بعض المحيطات الإسلامية المغلقة إلى إقامة الحد على من فكتداولها أو يتعامل معها بوصفها ثقافة كافرة أو مليئة بالشبهات كان العقل الذي انتج الحداثة المادية (مؤمن) والعقل الذي انتج الحداثة الثقافية (كافر) كان الأول ملاك رحيم ينتمي إلى عقلانية الأزمنة المعاصرة والثاني شيطان رجيم ينتمي إلى جاهلية القرن العشرين (على حد تعبير سيد قطب ) هذه مغالطة تاريخية لا تأخذ الحداثة بوحدتها العقلية،الوحدة المادية والثقافية ،فالحداثة الثقافية (الفكرية) ومغامراتها الكبرى على مستوى اللاهوت والعلم والفلسفة التي حصلت في أوربا منذ القرن السادس عشر وشكلت قطيعة واضحة بالقياس إلى المناخ العقلي للقرون الوسطى هي التي أدت إلى إنتاج الحداثة المادية وثوراتها الصناعية الهائلة وبالتالي لايمكن فصل أو عزل إحداهما عن الآخر فالعلاقة بينهما جدلية بدليل إن العقل الذي انتج الانترنيت مثلا هو نفسه (أو امتداده) العقل الذي احدث ثورة في مجل علم الفلك (الثورة الكو بر نيكية) واكتشافات غاليلو،العقل الذي صنع الجرارات والسيارات ونظم الاتصالات المتطورة والقفزات الهائلة في علم الطب والهندسة الوراثية هو نفسه انتج مبادئ وحقوق الإنسان ودولة الحق والقانون.
ما نريد التوصل إليه وعدم المماطلة فيه هو: إننا أمام عقل حداثي واحد يشتغل في نفس الوقت بالمجال المادي والمجال الثقافي،انتج التقنيات وانتج المعرفيان الإنسانية والقوانين السياسية والمدنية،لذا يؤدي استيراد الحداثة المادية والتعامل معها بحرية تامة والعزوف عن (استيراد)الأخرى (الحداثة الثقافية)ونبذها وإقصاءها إلى التباس خطير في العقل والسلوك،إلى فشل ذريع أو عطب بالغ في عموم الصيرورة الاجتماعية وتطورها ،لايمكن أن نتداول ونتعامل ونستهلك أرقى ما صنعته الحداثة المادية(خصوصا في البلدان الإسلامية الغنية) وفي نفس الوقت نعيش تحت وطأة أسوا ما أنتجته التقليدية الثقافية(قيم العصور الوسطى وأنظمتها السياسية الاستبدادية) من الشواهد المألوفة في السوق العربي الإسلامي ،إن البضاعة المحلية أو المستوردة من الدول الأسيوية يثار حولها الاستهجان والريبة والقلق في حين تلقى البضائع المستوردة من الغرب الترحاب وتتقبل بالحبور والثقة والاطمئنان،للأسف ينسى الناس إن وراء هذه البضائع ثقافة وأفكارا !!
قضية الحداثة اليوم ليست قضية متاحة للاختيار،أي نمط اترك،حسب رغبتي اخذ الحداثة المادية واترك الحداثة الثقافية،هذه آلية ازدواجية ونفعية تستهلك منتجات عقل الآخر المادية براحة بال ودون تأنيب ضمير،ومن جهة أخرى تشيطن عقله وتسفه أفكاره وتبخس ثقافته وتقبح أخلاقياته،بل تنبذه جملة وتفصيلا تحت مكابرة تزعم إن ما لدينا من ثقافة ومفاهيم معرفية هي (أرقى شيء) وصالحة لكل الأزمان ولكل الأكوان،هذا الزعم المفرط بالتبجيل يلغي تاريخية الثقافة ويشطب زمنيتها ومشروطيتها الاجتماعية ويعلق الثقافات والمعارف في الهواء ،لذا المشكلة ليست في ما نستورد من حداثة مادية(بضائع وتقنيات… ) فهذه مشروعة ومباحة من وجهة نظر التعصب والانغلاق إنما المشكلة في الحداثة الثقافية بما فيها من تقاليد وعادات وعقود اجتماعية ونظم سياسية واليات معرفية والتي لاتقل أهمية ومغزى عن الأولى(الحداثة المادية)،الإعضال الأساس هو كيف نتقبلها ونتعامل معها وكيف نبيئها ضمن انساق ثقافتنا العربية الإسلامية دون مضض.
اصبح لامفر منه على صعيد الكوكب الأرضي بأسره،شئنا أم أبينا،التعامل مع الحداثة الكونية بشقيها المادي والثقافي،السلعي والفكري،التقني والمفاهيمي،لأننا أصبحنا عبارة عن (قرية كبيرة)كما يقول أحد علماء الانثربو لوجيا .ما يلزمنا هو العقلية التحليلية والنقدية والتفحصية في التعامل مع الحداثة والاعتراف بأهمية مكتسباتها التي أبرزها واهمها تأسيس الدولة الديمقراطية التي تعامل مواطنيها كلهم على قدم المسا وات أيا تكن أصولهم العرقية أم الدينية أم المذهبية أي(الانتقال من العصبيات العشائرية أو الطائفية إلى عصبية واحدة موسعة،هي عصبية التعاقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين،لم يعد المواطن منتميا إلى طائفة أو عشيرة أولا؛ وانما إلى الدولة ومؤسساتها الديمقراطية الحديثة)حيث يصبح مفهوم المواطنة هو قاعدة الحياة الديمقراطية وهدفها،بعكس ما يسود في الاجتماع العربي الإسلامي حيث نظم الاستبداد والقوى الاعتباطية وحيث الفرد مستلب بصفته عضوا مغفلا في طائفة أو قبيلة أو وظيفة حكومية،وليس له وجود كمواطن حر في دولة حديثة،هكذا كان الفشل الذريع في استيراد الحداثة المادية والتكنولوجية من بلدان الغرب معزولة عن الحداثة الثقافية قد عطل آليات تطور العلم والمعرفيات،عطل آليات تطور الاجتماع والسياسة،بل تحولت الاجتماعيات العربية الإسلامية إلى مجرد أسواق استهلاكية ضخمة للبضائع والسلع لاناقة للناس ولاجمل في صناعتها أو تطورها.
على صعيد آخر وبنفس العقلية التحليلية والنقدية التي تتقبل الآخر وتتعامل معه دون عقد نفسية أو شعور بالتدني يمكن نقد الحداثة(بشقيها المادي والثقافي) من خلال تأشير الفراغ الروحي الذي خلفته وما انطوت عليه من انشغالات أساسية ومركزية بالربح الاقتصادي والبورصاتة المصرفية والحاجات المتزايدة للاستهلاك وبالتالي شيات الذات الإنسانية وقوضت معانيها المبدعة،حذفت بشكل متتابع من افقها تصورات كثيرة عن الروحانيات الخلاقة التي تمعنن(تجعل لها معنى)حياة من لامعنى لحياتهم وتساعدهم على تهدئة القلق الداخلي والوجودي وتدجن العنف المخزون في أعماق كل إنسان.
*نشرت في ثقافية جريدة المدى/بغداد/حزيران2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج حسام سليمان: انتهينا من العمل على «عصابة الماكس» قبل


.. -من يتخلى عن الفن خائن-.. أسباب عدم اعتزال الفنان عبد الوهاب




.. سر شعبية أغنية مرسول الحب.. الفنان المغربي يوضح


.. -10 من 10-.. خبيرة المظهر منال بدوي تحكم على الفنان #محمد_ال




.. عبد الوهاب الدوكالي يحكي لصباح العربية عن قصة صداقته بالفنان