الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة (5)*

محمود الخطيب

2017 / 2 / 4
الادب والفن


5
في صبيحة الغد، حمّلنا أمتعتنا، وانطلقنا صعوداً الى ضهر البيدر. وعند الحاجز السوري أخذنا طريق المتن واتجهنا الى بكفيّا. وقبيل الانحدار الى البلدة المتكئة على سفح جبل، كان ثمة عنصر ميليشيا نحيل البنية يقف وحيداً على يسار الطريق ببندقية أم 16 أميركية الصنع ولا أحد معه ليسانده، الأمر الذي خفّف بعض توجسي، فتوقفت عنده وبادرته بلهجة سعيد عقل المفخّمة:
- عََ العافية! الطريق عََ بَيْروت مِنْ وَيْن؟
سألني؟
- مِنْ وَيْن جيت؟
- من زحلة.
فأشار بسبابته اليمنى باتجاه الغرب وقال:
- كَفّي (تابع) نزول عََ طول لطريق جونيه.
وبدون تردد تابعت نزولي عبر البلدة الى أن وصلت الطريق الساحلي دون عوائق. ومن هناك انعطفت يساراً .وتوجهت نحو بيروت.
كان طريق جونيه - بيروت يشهد حركة مرور كثيفة، وازدادت كثافة في منطقة جسر الباشا، فاستدعى الأمر وجود دركيين لتنظيم السير، أحدهما برتبة رقيب اسمه توفيق (مسيحي)، أعرفه ويعرفني منذ ما قبل اندلاع الحرب الأهلية. كان يسكن بجوار أهل زوجتي في عين الرمانة. ومن طريق الجوار علم بأنني لبناني من أصل فلسطيني، وصار، أيضاً، أحد زبائن مؤسستي، فيأتي اليّ كلّما ضاقت به الحال ليقترض بعض المال. وبحكم الجوار وصداقة عائلته بأنسبائي كنت أعفيه من الفائدة على القروض، شريطة أن تسدّد الدفعات المتوجبة شهرياً في مواعيدها.
ولمّا رآني أنتظر في الإزدحام، أُصيب بما يشبه الذهول، فجحظت عيناه، وتلفّت يميناً ويساراً، ثمّ انحنى على نافذتي:
- لا! هيك كتير! هل جُننت؟ ماذا تفعل هنا؟
- جئت من البقاع ومضطر الى دخول "الغربية". كل المعابر غير سالكة، إلاّ المتحف.
لوّح برأسه:
- فلسطيني! ومسلم! وفي "الشرقية"؟
- لا أحد هنا يعرفني بهذه المواصفات سواك.
لم يعجبه ردّي، فخمّنتُ أن "قرصتي" أوجعته، إذ زمّ شفتيه بتبرُّم، وألقى عليّ نظرة عاتبة، قال:
- ولوْ يا جار!
ثم أضاف:
- لوْ كُنتََ غيرك لما سامحتك. إسمعني، الآن، جيداً. ليس على طريقك سوى حاجز المتحف، فلا تقف لمن يؤشر لك، ولا تنقل أحداً معك.
- سمعتك جيداً.
- إذاً، إنتظر لأفتح لك خط السير.
ثمّ تركني وراح يصفر. ولمّا فتح الخط، لوّح لي بذراعه للعبور، فلوّحت له شاكراً وانطلقت.
كان حاجز المتحف مثل جدار قلعة من أكياس الرمل، عريض ومرتفع ومدعّم بجسور الفولاذ وكتل الباطون، وفيه ممرّان للخروج والدخول، وعلى طرفه، وراء الأكياس تتحصّن دبابة يطلّ من برجها جنديّ بخوذة فولاذية وراء المدفع. وفي وسط الشارع، يقف جنديان بكامل معداتهما القتالية، ظهراً الى ظهر، للتدقيق.
توقفت على خط الخروج، فحملق الجندي في وجهي، وجال بنظره داخل السيارة وطلب الهويّات، فناولته اخراجات القيد. نظر الى الصور، وعاد يحملق في وجوهنا، ثم أعاد اليّ الأوراق وأشار اليّ بكفّه للخروج. على مهلي خرجت من بين أكياس الرمل الى حاجزنا المقابل في الشطر الغربي، وبدأ الإطمئنان المفقود يعود الى نفسي. وعلى الحاجز، تفحصوا اخراجات القيد وتركوني أتابع طريقي على ،كورنيش المزرعة. كان الكورنيش شبه مهجور وخالياً من حركة السير، فأخذت يساري من أمام مقرّ "المرابطون" وتوجهت مباشرة نحو "الطريق الجديدة".
* * *
كنت أسكن شقّة في الدور السادس من بناية ستيتيّة في الفاكهاني، لا يفصلها عن الجدار الشمالي من المدينة الرياضية سوى مساحة صغيرة وشارع متفرّع من الأوتوستراد يمتدّ بمحاذاة الجدار نزولاً الى "مأوى العجزة"، فحيّ صبرا ومخيّم شاتيلا. وهي بناية أنهكتها الحرب الأهلية، فعتقت قبل الأوان، وتقشّرت كل جدرانها من الداخل، وتعطل مصعدها فبقي جاثماً على الأرض طوال سنين الحرب دون إصلاح. ويشغل الكفاح المسلّح الفلسطيني الطابق الأرضي، والأول، والثاني، من البناية، بالإضافة الى الطابق التحتاني (تحت الأرض) الذي حوّله الى سجن.
أمّا باقي الأدوار، فقد شغلتها عائلات فلسطينية ولبنانية مجاناً، من طريق حملات احتلال المنازل التي كانت جارية على قدم وساق بين الأطراف المتقاتلة في شطري العاصمة على السواء، الأمر الذي حتّم على صاحب البناية الإستسلام للأمر الواقع، بعد أن رأى جهده في الحياة قد طيّرته رياح الحرب. ومن بين هذه العائلات ثلاثة أفراد يعملون في "فلسطين الثورة" هم: الحارس رمضان، والسائقان في دائرة التوزيع، ألشقيقان أحمد وعلي يوسف.
قبلي، كان يشغل الشقة رجل اسمه صالح، ينتمي الى منظمة الصاعقة الفلسطينية التابعة للنظام السوري. وعندما دبّ الخلاف بين قواتنا والجيش السوري في لبنان وتحوّل الى اشتباكات عنيفة بين الجانبين، انعكس الوضع، أيضاً، باحتكاك مباشر بين الصاعقة وفتح، تفاقم تدريجياً حتى بلغ ذروته باشتباكات دموية أسفرت عن استئصال الصاعقة من الفاكهاني وطردها الى "أرض جلّول".
بعد هذا التطور، شعر صالح بأنه فقد الحماية وبات وحيداً في محيط كلّه فتحاوي، فآثر اللحاق بتنظيمه، وعرض إخلاء شقته لمن يرغب لقاء خمسمائة ليرة لبنانية. وعندما بلغني خبر عرضه ذهبت اليه ودفعت المبلغ واستلمت الشقة.
كان النهار في منتصفه حين بلغت البناية، فأوقفت سيارتي وأنزلت الأمتعة لحملها الى الطابق السادس. على المدخل، رأيت الملازم في الكفاح المسلح "أبو سبيتان". وهو ضابط دون الأربعين، أسمر داكن البشرة، ممازح ودمث الخُلُق. كان، كعادته، يجلس على كرسيّ من الخيزران، وفي قبضته خيزرانة من القصب، غالباً ما كان يلوّح بها ليخيف أطفال البناية، فيهربون منه وهم يتضاحكون. وكان يقف الى جانبه الأخوان أحمد وعلي يوسف يتبادلان معه الحديث. فلمّا رأياني أخذتهما المفاجأة فهرعا اليّ للسلام وعرضا المساعدة في نقل الحقيبتين، فسررت وأبديت لهما شكري وامتناني.
في الطريق الى الطابق السادس، أخبرني علي أن عائلات كثيرة هجرت البناية بسبب قصف الطائرات والبوارج وانتقلت الى مناطق أقل عرضة للمخاطر، مثل "الصنائع" و"الحمرا" و"الرملة البيضاء".
سألتهما:
- أليس من المفروض أن تكونا في العمل في مثل هذا الوقت؟
قال أحمد:
- بلى. لكننا طردنا من العمل.
- ومن الذي طردكما؟
أ- محمد سليمان "بو ابراهيم". ذهبنا، كالعادة، في الصباح، فقال إنه لم يعد بحاجة الينا، ولم يدفعوا لنا راتب الشهر الذي اشتغلناه.
- أبو ابراهيم ليس مخوّلاً بهذه الصلاحية.
= سلّموه موقعك بعد انقطاع أخبارك.
- متى حدث ذلك؟
- منذ أكثر من شهر.
وقال إن جميع العاملين في الصحيفة هجروا مكاتبها في شارع عفيف الطيبي بسبب القصف المستمر، وانتقلوا الى قاعة فندق .في "شارع الحمرا" ليكونوا في منأى عن استهداف الطيران الحربي.
ولمّا فرغنا، استودعاني، فطلبت اليهما أن يعودا اليّ بعد ساعتين لنذهب معاً كي نتفقّد مكاتبنا المهجورة.
وقد عادا بالفعل، ومعهما الحارس رمضان، فذهبنا جميعاً في سيارتي وتوقفت أمام مكاتبنا الكائنة في بناية من ستة طوابق نشغل منها ثلاثة هي: الأرضي (دائرة التوزيع)، والرابع (هيئة التحرير، والإدارة، والسكرتاريا)، والخامس (الإرشيف ودائرة الإخراج). غير أنني قبل أن نصعد أخذتهم معي سيراً على الأقدام الى "ماليّة فتح" الكائنة في الشارع الموازي لجهة الغرب. وهناك التقيت بمديرها الحاج عليّان (شقيق الحاج اسماعيل)، وهو رجل خلوق وتربطني به علاقة عمل قائمة على الإحترام والثقة، فطلبت اليه أن يدفع للأخوين أحمد وعلي مستحقاتهما المالية حتى تاريخه، فلم
يتردد الرجل وطالبهما بالتوقيع على "الكشف المالي" ودفع لهما، ثمّ قبضت، بدوري، مخصصي المتأخر بسبب غيابي، وخرجنا خلال أقل من نصف ساعة.
كانت المكاتب في حالة من الفوضى يرثى لها. الأبواب مشرعة على وسعها. زجاج النوافذ طيّرته الإرتجاجات شظايا في الأرجاء. الكراسي مقلوبة. الطاولات يكسوها الغبار. والملفّات مبعثرة على الأرض، لا سيّما الملفات الشخصية التي تتضمن صوراً ومعلومات عن العاملين في المؤسسة. لقد أثار الأمر استهجاني، ولم استطع أن أجد للزملاء عذراً، أو أقنع نفسي بأن الوقت داهمهم، فكانوا في عجلة من أمرهم الى درجة أن يتركوا كلّ شيء في متناول منْ يتوق الى معرفة الأسماء، والصور، والعناوين، وحتى أرقام الهواتف.
وازاء خياريّ إتلاف الملفّات أو تركها هكذا مبعثرة، فضّلت الخيار ،الأول حماية لأصحابها من ملاحقات مستقبلية قد تطالهم بسوء، فقضينا زهاء ساعتين، أنا أفرز الملفات وأخرج محتوياتها والثلاثة الآخرون يتولّون عملية تمزيقها وتحويلها الى نُتَفٍ صغيرة بحيث يستحيل جمعها وإعادة تركيبها على نحو يتيح .قراءتها. ولمّا انتهينا من عملنا، غادرنا المكاتب وعاد كلّ منا الى منزله.
________________________
* التواريخ والأرقام وبعض الوقائع الحربية تمّ اعتمادها من "لبنان 1982: يوميات الغزو الإسرائيلي، وثاق وصور"، المركز العربي للمعلومات (توزيع دار الأندلس)، بيروت، لبنان، 1982.

(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟