الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوم إغتيال الحلم

عامر الدلوي

2017 / 2 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


الموضوع مهدى إلى روح أخي " أبو ماجد - محمد أمين الخياط "

لم يكن لك من العمر سوى إثنا عشر عاما ً , عندما طاف ببالك ذاك الحلم الجميل الذي نشأ مع عودتك من بغداد إلى مدينتك البائسة ( بعد المحاولة القذرة لإغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في منطقة رأس القرية من قبل شرذمة من " الهتلية " ) و أنت طالب في الصف الثالث من المرحلة الإبتدائية وتلقفك من قبل ذلك الأخ الأكبر الذي لم تلده أمك , لكنه شريكك في الرعاية سواء من أبيك أو من أمك , و الذي يكبرك بعدة أعوام رغم كونك إبنهما البكر , الذي لمس فيك ما لمسه الآخرون في بغداد من أقارب و أصدقائهم من العوائل المجاورة من قدرات على القراءة وبلغة فصيحة بليغة حتى في الكتب و المجلدات المخصصة للدراسة في الكليات , و أنت في المرحلة الثانية منها في تلك المدرسة الخالدة معنا ً و إسما ً , " السرمدية الإبتدائية المختلطة " المحاذية لجامع الحيدرخانة .
ليطلب منك أخاك " محمد " أن تقرأ له بعض الأوراق التي تحمل كلمات و معان لم تكن كتلك التي كنت تقرأها في بغداد في صفحات الكتب , بل هذه الوريقات مملوءة بمفردات غريبة على أذنيك و ناظريك , طبقة عاملة , حزب طليعي , شيوعي , العدالة الإجتماعية , النضال المستمر , و ما أن تفرغ من قرائتها حتى يقوم أخاك محمد بحرقها و رمي الرماد على الأرض الترابية للغرفة .
لقد كان " محمد " كريم العين اليمنى , أمي , يعمل مع والدك في محل الخياطة العائد له وسط سوق المدينة , و غالبا ما يعود ليلا ً و معه ورقة أو رقتان من تلك الأوراق , ليبدأ معها مسلسل القراءة والحرق الذي أستمرت ايامه طيلة أعوام 1960 / 1962 و أنت تنمو تدريجيا ً وبدأت تلاحظ تطورات الأحداث اليومية و ما تفرزه من نتائج تقرأ عن بعضها في وريقات " محمد " تلك التي تحرق بعد القراءة .
و " محمد " هذا من قضاء آخر تابع للوائكم يتيم الأب جلبته أمه ليكفله أباك و يعلمه مهنة الخياطة , التي أتقنها بعدذاك و أصبح ماهرا ً فيها , و منه أيضا ً و مع مرور الأيام صرت تعرف ماذا يعني الحزب الشيوعي العراقي , وبدأ يسرد عليك بالتدريج و على قدر إستيعاب مخك الصغير أحداث مرت عبر تاريخ البلد و الحزب , و منه عرفت من هو " فهد " و رفيقيه و المآثرة الكبرى التي أجترحوها في حينه لأجل الوطن و الناس .
تمر الأيام مسرعة مليئة بالمعارك التي تطورت من استخدام العصي الخشبية و الهراوات إلى السلاح الأبيض من سكاكين و خناجر و ما شاكل بين الشيوعيين و من عرفت فيما بعد بأنهم يدعون القوميين العرب ( من مؤيدي " جمال عبد الناصر " والعاملين على المطالبة بوحدة العراق مع مصر و سوريا اللتان كانا قد أعلنا إتحادهما و قيام ما سمي في حينه الجمهورية العربية المتحدة ) أثناء إنتخابات نقابة المعلمين و التي أندلعت يومها في بعقوبة لتمتد إلى المقدادية , و تسارعت الأحداث بعدها لتصل إلى الساعة المشؤومة , الساعة التاسعة صباحا ً من يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان , الثامن من شباط عام ألف و تسعمائة وثلاثة و ستون , عندما حمل المذياع خبر الإنقلاب في بغداد على حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم .
صدمتك الكبرى كانت عندما خرجت إلى الشارع و رأيت الحثالات التي أرتدت الملابس الكاكي الغريبة نوعا ً ما عن ملابس الجيش العراقي و قد وضعوا على ذراعهم الأيمن شرائط خضراء اللون و حملت الحرفين ( ح ق ) باللون الأبيض و أبتدأوا يطرقون أبواب البيوت شانين بذلك أوسع حملة إعتقالات بحق الرجال و النساء للدرجة التي أصبحت فيها شوارع المدينة مقفرة صبيحة اليوم التالي الذي أعلن فيه إستسلام المقاومين المدافعين عن وزارة الدفاع .
لتبتدأ عنها رحلاتك شبه اليومية إلى مركز شرطة البلدة الذي أضحى معسكر إعتقال كبير , و أنت بقيت ( الرجل ) الوحيد المؤهل لحمل ( سفرطاسات ) الأكل لأبناء جيران العمر الذين كان نصيبهم جميعا ً ذكورا ً و إناثا ً الإعتقال و تبدأ معها المغامرات اليومية مع ذلك ( الحارس القومي .. البعثي لاحقا ً ) البدين جدا ً المكلف بحراسة المعتقل و منع وصول المواد و اللوازم الضرورية للمعتقلين ... في اليوم الأول الذي طاردك فيه عبر الممر الرئيس لمركز الشرطة , إنتبه أحد أفراد الشرطة للحالة ممن تبقت لديهم الغيرة و الشهامة و لقنك الدرس المضحك جدا ً للتغلب على هذا البدين الشرير .
- إنتبه بني .. الممر من المدخل و حتى المعتقل طويل نسبيا ً و فيه رواقات جانبية ... ضع ما تحمله في أحدها و تقدم نحوه خالي اليدين ... سيلاحقك محملا ً بكل ما يحفظ من كلمات سباب بذيئة ...و يطاردك حتى المدخل ... لف أنت من الممر الخارجي و تعال و إحمل اللوازم و سآخذها منك لأيصالها للجماعة حسب الورقة المكتوبة فيها . و أستمر في عودتك من الممر الجانبي .. و عندما يعود ولا يجدك سيسألني : أين ولى هذا اللعين ؟ جوابي سيكون جاهزا ً .. تراه الآن في بيتهم يبكي خوفا ً منك .
ما افزعك يومها هو ما سمعته من " محمد " عن التكالب الرجعي ضد الثورة و زعيمها الشهيد عبد الكريم قاسم متمثلا ً بإنصياع بعض القيادات الكردية لمطالب الأغوات الذين تضررت مصالحهم بقانون الإصلاح الزراعي و إبتدأوا بحرب ضد النظام الجمهوري منذ أيلول 1961 و كذلك إنصياع المرجعيات الدينية في النجف لمطالب الإقطاعيين في الوسط و الجنوب و تهديداتهم بعدم دفع الخمس مستقبلا ً الأمر الذي دفع بالمرجع " محسن الحكيم " لإصدار فتواه الظالمة بحق الزعيم الشهيد و حق الحزب الشيوعي العراقي عندما أعلن إن " الشيوعية كفر ٌ و إلحاد " و حرم بذلك الإنتماء للحزب .. رغم يقينه و معرفته إن معظم المنتمين لهذا الحزب من فقراء مقلديه المتجرعين لظلم الإقطاع و البرجوازية .
ترسخ كل هذا ببالك و أنت تسمع آلاف القصص كل يوم حول أشكال و أصناف التعذيب الذي يلقاه حتى الموت الكثير الكثير من الذين قادتهم سوء حظوظهم إلى زيارة حمامات الدم في " قصر الرحاب " الذي تحول أسمه إلى " قصر النهاية " و الذي يعني إن من يدخله يعرف النهاية المحتومة لحياته و عن مئات لا بل آلاف حالات الإغتصاب التي حصلت للنساء و التي وثقها بعد ذاك كتاب " المنحرفون " الذي فضح جرائم الحرس القومي بحق أبناء و بنات شعبنا .
ترسخ كل هذا ببالك و أنت يافع ليكون عامل دفع و زخم للإختيار الصح لمسيرة حياتك المستقبلية و التي سترتبط حتى آخر صعدة للنفس فيها بالدين الذي آمن به حزب الشيوعيين و آمنت به الشيوعية العالمية ألا و هو دين الإنسانية .. دين رفع الظلم البشري الدنيء الذي يمارسه بني البشر بحق أخوتهم في الإنسانية .. كانت أحداث ذلك اليوم المشؤوم و ما تلاها من أيام سوداء في تاريخ شعبنا و وطننا عامل دفع و زخم متواصل لتتحدد بموجبهما مسألة إرتباطك بهذا الحزب الذي قدم أروع الدروس في حب الوطن و الناس طيلة مسيرة وجوده منذ العام 1934 .
ولتكون تلك الأحداث و معايشتك لها و معايشتك و أنت طفل صغير لفترة أواخر عهد النظام الملكي و البؤس الذي كان يلف حياة معظم العراقيين الذين كانوا يرزحون تحت سياط الفاقة و الجهل و المرض و كانت معظم المدن و القصبات بما فيها مدينتنا لم تشهد شوارع مبلطة حتى بداية عهد الزعيم عبد الكريم قاسم و شروق فجر ثورة الرابع عشر من تموز الموؤدة في هذه الذكرى المشؤومة .
لتكون خير رد على من يحاول اليوم تبييض وجه النظام الملكي و إلقاء تبعة ماجرى على العراق من أحداث في سفسطة كلامية و ربطها بأمور غيبية و غبية مثل " حوبة الملك " و " حوبة العائلة المالكة " و " لو كنا قد بقينا على عهدهم لكنا في مصاف الدول المتقدمة " متناسيا ً في الوقت ذاته إن مصاب بريطانيا كان جللا ً بخروج العراق بكل خيراته من تحت سلطتها و إنها سعت للإنتقام حتى ولو ببحور من الدماء و نجحت في مسعاها بالإنسياق الغبي وراء مخططاتها من قبل القيادات المتخلفة للحركة الكردية وفلول الإقطاع في الوسط و الجنوب و المراجع الدينية بشقيها وحزب البعث الفاشي و توحد تطلعاتهم إلتقائهم في " عرس الدم " في هذا التاريخ و أعني به 8 شباط 1963 .
و يشهد على صحة كلامي الواقع المر الذي تقبل العيش فيه على ضفاف " إشطيط " و " الشاكرية " أبناء مدن جنوب العراق النازحين إلى بغداد هربا ً من جور سلطة الإقطاع المتسلط عليهم آنذاك بفعل موالاته للنظام الملكي الذي بدوره يطلق يده عليهم نظير تلك الموالاة و خدمة رجال الدين الشيعة للإقطاعيين ما داموا يدفعون لهم الخمس الذي يوفر لهم رغد العيش لقاء تخديرهم فقراء الفلاحين بأحابيل كالأفيون في قوتها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير المخابرات الأمريكية يتوجه إلى الدوحة وهنية يؤكد حرص الم


.. ليفربول يستعيد انتصاراته بفوز عريض على توتنهام




.. دلالات استهداف جنود الاحتلال داخل موقع كرم أبو سالم غلاف غزة


.. مسارات الاحتجاجات الطلابية في التاريخ الأمريكي.. ما وزنها ال




.. بعد مقتل جنودها.. إسرائيل تغلق معبر كرم أبو سالم أمام المساع