الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تيه في مستنقع الرذيلة

حسن البوهي

2017 / 2 / 11
الادب والفن


جلس وحيدا في العزلة المُحبّبة لنفسه، يتراءى له في دخان سيجارته المصّاعد، تساقط أجزاء شخصيته قطعة تلو الأخرى لتستحيل إلى ذرات متبخرة في سماء يأسه اليومي، وهو الذي أمضى ثلاثة عقود في صقل ذاته وتشذيبها من الشوائب ينشذ الفضيلة والطهرانية..انهار بناؤه الذاتي ولم يعد يبصر منه سوى الأطلال، كيف خسر نفسه؟ كيف انحدر إلى الهاوية؟ أسئلة مميتة تجر بعنق أخرى تنتهي به محاولة الإجابة إلى اليأس والعدمية، فينكص عنها ويتراجع...حتى عهد قريب بُعيد بداية انحداره كان يتبرم عن الإجابة الصريحة ويحاول أن يقنع نفسه أنه لا يعرف سر بلائه، جبنا منه وإمعانا في جلد ذاته، أما اليوم وقد أيقن خسارته التامة لم يتردد في الافصاح لنفسه أن جوعه العاطفي خرج جنينا إلى حيّز الوجود ذات 23 سبتمبر، ومع توالي السنون كبُر ّ"جنين جوعه" الكامن فيه، ثم استوى عملاقا يجبره على الانقياد قسرا لنزواته، لم تفلح جرعة المهدئات القيمية التي كان يهدئ بها من روعه عندما كان يخطو خطواته الأولى نحو الحياة، لم يفلح جبران خليل، المنفلوطي، الشابي، ميخائيل نعيمة، صالح جودت، الرومي، ابن رشد، ألفريد دي موسيه، جون جاك روسو، بودلير ولا أفلاطون ذاته الذي يعتبر أي اتصال جنسي حقيقي هو أمر فاسد ويتعارض مع الهدف الأسمى للجمال، لطالما تساءل مستنكرا: ألا يوجد جمال في الجنس ؟؟؟ فأفلاطون في نظره يسعى إلى أشياء أسمى وأكثر رفعة لا وجود لها إلا في مخيلته الهلامية، ربما لم يضاجع مضاجعة حقيقية، لو تم له ذلك لغيّر فلسفته ونظرته للوجود ... طوى صفحة عالم المثل ورمى بها في سلة المهملات، وأضحى مريدا لأتباع فرويد، شوبنهاور، نيتشه امرؤ القيس، ابن أبي ربيعة، جميل، أبا نواس...يرتوي من الينبوع المحذور الذي ارتووا منه قيميا، يتجرعه عسلا مسموما، يلوكه دسما قاتلا.
كسّر جوعه قيود الحلال والحرام، وشرب حد الثمالة المفجعة من نبيذ المسكوت عنه والمُستهجن، من حضن واحدة إلى أخرى يُحصي خسائره حتى استحال عليه العد فارتضى "التيه" عنوانا جديدا لفلسفته المعيشية، لكم يستشعر خسارته الكبرى التي أصابته في مقتل عندما تعود لذاكرته تفاصيل غرقه في بحر الخيانة مع زوجة أعز أصدقائه.. ابتسامة رفيق دربه، وداعته، وثقته العمياء فيه.. تصيبه في مقتل، تثخنه طعنا، تُرديه قثيلا في اليوم مليون مرة ثم تبعثه من جديد لتعيد سرمدية عذابه، حاول في لحظات انهيار كلي على الانتحار، إلا أن جبنه حال بينه وبين خلاص"رحمة الموت" فأضاف سيمة الجبن لقائمة خسائره القيمية، مقت ذاته ومقت معها "أوغست كونت" عندما غرق هو الأخر في براثين الزوجة الخائنة "بولين".
فقد أخر درة من احترامه لذاته عندما قاده هوسه الجنسي لمجراة فتاة نهمة تبتغي متعة رعشتها بطريقة شاذة عبر الهاتف، استغرب للوهلة الأولى قدرة دبدبات لاسلكية للمحمول في استثارتها وإيقاظ الغريزة المسعورة الكامنة لديها، تأوهات وهمهمات انتهت بها لدروة الارتعاشة، فيما انتهى به الأمر لحالة مستفزة من التعرق والتوثر لم يتجاوزها إلا بممارسة بئيسة عادت به إلى أيام الصبى، انفجر باكيا يبتغي رثاء أخيرا لكيانه الروحي قبل أن يطمره بلا رجعة في الثرى بدون شاهدة، ويطمر معه إعجابه الدفين بالفيلسوف الصعلوك "ديوجين" والقديس أغسطين اللذان استسلما قبله لغواية الاستمناء والشذوذ الجنسي.
بقدرما يجله الآخرون على أفكاره النظرية وسعة ثقافته الموسوعية بقدرما يحتقر ذاته ويدمها بأبشع الصفات وأقدحها، وبقدرما يمجد الآخرون تحليلاته الراجحة وقراءاته الفكرية والسياسية بالقدر نفسه يُعمّق احتقاره لاسكيزوفرينيته العميقة، لسانه حاله يكرر في عتمة عقله "أنا أدرى الناس بوحشيتي...أنتم واهمون. قوم سُدّج لا ترون أبعد من أنوفكم" كفرت بالفكر والمفكرين، أنبذ الفلسفة والمتفلسفين، تبا لنظرياتكم لم تنقدني من هوة السقوط التي أنحدر عليها، سأرقص مع "زوربة" على خربشات تأملاتكم، وأمضي وحدي في رحلة ضياعي وتيهي..."
دأب على الاحتفال في كل سنة من سنوات تيهه بذكرى فاجعته "23 سبتمبر" التي يخصها بطقس جنائزي ينقطع فيه عن العالم الخارجي، لتوثيق ذكراها في كرّاسة خسائره بحبر أحمر فاقع من دم قلبه، ثم يمضي في اليوم الموالي إلى إتمام مسار رحلة تيهه، دون تراجع أو محاولة لملمة جزيئاته القيمية المساقطة الواحدة تلو الأخرى بعد أن تخلى عنها، ونفضها عنه، معلنا انتحاره، مُطلقا عقال الوحش الكامن فيه ليخط قدره الجديد، باعثا مأساة فاوست من مكمنها عندما باع نفسه للشيطان "ميفيستوفيلس" اعتقادا منه في مجد تضحية أسطورية يحرر بها شعبه الأسير، فيما فضل تائهنا بيع نفسه للإله "إيروس" (إله الرغبة والجنس) لعله يحرر ذاته من أسر الشبقية وزنزانة جوعه العاطفي.....
قاده قدره الجديد إلى أحضان مُسنّة مهووسة بألغام الجسد، اشترت زهرة شبابه بهداياها النفيسة، وامتصت رحيق فحولته كما تمتص الدبابير أريج زهرة ذابلة لحظة احتضارها الأخير، فاستوى شبح إنسان يستوطنه الهوان، ينشد الارتواء من عطشه الوجودي وعبثا يرتد على عاقبيه خاسرا، كطفل يبحث عن نقطة ارتكاز السماء على الأرض، فيعدوا حثيثا وتلبث السماء مجددة أفاقها، فيتعب الطفل وتكلُّ قواه ولا ينال من بغيته شيئا".
نهض متثاقلا يقدم رجلا ويؤخر أخرى وعلامات الانكسار بادية على محياه، ممسكا عقب سيجارته، ماجّا ما تبقى بها من غليون، ثم نفثه باستسلام وهو يردد في ذهنه "الجنس ملاذنا القاتل عندما نفقد معنى الحب"... فقد حبه وفقد معه كنه الحياة عندما هجرته أنثاه الوطن ذات 23 سبتمبر، فغرق تيها في مستنقع الإناث.
تلك فاجعته المدوية التي غيّرت نظرته للذات والحياة...تلك حكاية أخرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل


.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ




.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع