الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد يونس والنهج الواقعي ...

سعيد عدنان
كاتب

(Saeed Adnan)

2017 / 2 / 11
الادب والفن


كان الأدب ، منذ أُخريات الأربعينيّات وطلائع الخمسينيّات ، قد اتّخذ منحى واقعيّاً ، بعد أن استوفى نصيبه من أجواء الرومانتيكية ؛ في أحلامها ، ورؤاها ، وعواطفها المشبوبة . وكان قادة الرأي قد مالوا إلى جنب المجتمع ، وما يصطرع فيه ، ورأوا أنّ الأدب ينبغي أن يكون في ركاب المجتمع ، وأن لا يُقصر على الإنسان الفرد ونوازعه . وقد قُدّر لهذه الرؤية أن تشيع ، وأن يؤازرها فكر فلسفي ، وأن تنفذ أشعّة منها في أنفس الناشئة يومئذٍ .
كان محمّد يونس ممّن نشأ على أن الأدب ذو رسالة اجتماعيّة ، وأنّ ممّا يرمي إليه ؛ أن يزيد من وعي الناس ، ويرتقي بهم فكراً وذوقاً ، وأنّ الجمال غير مفصول عن الخير ؛ فلمّا أُتيحت له دراسة الأدب الروسيّ في موسكو ؛ زاد الأمر وضوحاً لديه ، وأخذ ينظر في الأدب والأدباء بمنظار منه .
وقد كان ذلك ممّا بنى كيانه بناء رصيناً ، وجعل معنى الأدب والفكر عنده موصولاً بمعاني العدالة الاجتماعيّة ، وسلامة الموقف منها . وحين أتمّ دراسته ، وعاد إلى بلده يدرّس في جامعة بغداد ؛ كان البعد الاجتماعي يلابس نظره في الأدب ، ويتّجه به نحو بيان قيمته ، وحين شرع في التأليف ؛ وضع الأدب الذي تناوله في سياقه من مجتمعه . وعنده أنّ الأديب ذو رأي وموقف ؛ بل إنّ الإنسان بما هو إنسان ينبغي أن يكون ذا رأي وموقف ، ولا ينبغي له أن يكون ريشة تتقلّب بها الأهواء
.عمل في فرع اللغة الروسيّة من قسم اللغات الأوربيّة بكليّة الآداب ، من قبل أن يصبح الفرع قسماً ، مع نخبة كريمة من أساتذة اللغة الروسيّة وأدبها كمثل حياة شرارة ، وجليل كمال الدين ، وضياء نافع . وقد كان من مزيّتهم جميعاً ؛ أنّ صلتهم بالأدب العربيّ ليست بأقلّ من صلتهم بالأدب الروسيّ ، وأنّ جهدهم لم يكن مقصوراً على موضوع تخصّصهم ، بل إنّهم كانوا ينظرون إلى أدبهم العربيّ ، وينقلون بعض الآثار الروسيّة إليه ، وكان منهم من شرع يتلمّس آثار الأدب الروسيّ في الأدب العربيّ . لقد كانوا نخبة صادقة مخلصة ، تُجلّ المعرفة ، وتتّخذ سبيل الجد ، وتنأى عمّا سواه .
وضع محمّد يونس جملة كتب ، على المنهج الذي ارتضاه في تبيّن الحقائق ، فقد كتب عن " غوغول " ، مؤسس الواقعيّة الانتقاديّة في الأدب الروسيّ ؛ متحدّثاً عن نشأته ، وعن بيئته التي درج منها ، وعن دراسته ؛ وكلُّ ذلك كان شديد التأثير في تكوينه الأدبيّ . وتحدّث أيضاً عمّا شقي به من فقر ؛ جعله يرى ما عليه الطبقة الفقيرة في المجتمع ؛ حتّى إذا استوى القلم بين أصابعه ، كان مداده مستقى من حياة الفقراء المضطهدين . يقول عنه : " إنّ الجوع والحرمان اللذين عاشهما غوغول خلال إقامته في بيتربورغ كانا زاده في كتابة قصّته : " شارع نيفسكي " التي تصوّر حياة فنان أصيل يسحقه التفاوت الاقتصادي القاسي ."
لقد وضع غوغول ، وهو يكتب عنه ، في سياق مجتمعه ؛ ذلك أنّ الكاتب ، في وجه من وجوهه ، إنّما هو أثر من آثار المجتمع .
وحين ألّف ، مع حياة شرارة ، " مدخل إلى الأدب الروسيّ في القرن التاسع عشر " جرى على النهج نفسه ؛ من وضع الأدب في سياقه الاجتماعيّ ، وتلمّس القيم الاجتماعيّة فيه ، وتقويم الكتّاب بما يكون منهم من مقدرة على زيادة وعي الناس ، وتبصيرهم بما هم عليه .
كان يتطلّب رفيعَ القيم في من يكتب عنهم ؛ إذ لا يرى الجمال إلّا مقروناً بالخير ساعياً نحو الحقّ ، وكان يريد لحياته أن تقوم على تلك القيم الرفيعة ، وأن تتّسم بها في ما تأخذ وما تدع .
وقد كان درسه مجلى ما أخذ نفسه به ؛ فقد أقامه على الصدق والإخلاص ؛ الصدق في تحرّي المعرفة ، والإخلاص في إيصالها ، مع أفق إنسانيّ رحيب .ومن كان كذلك أعرب ظاهره عن باطنه ، واتّسق باطنه مع ظاهره ، واستقامت سريرته . ويشهد له الدرس الجامعيّ أنّ صفحته نقيّة الحرف ، مضيئة الكلمات لم ينحرف بها مسار ، ولم يعلق بها رغب أو رهب .
لكنّ الجامعة في أواخر السبعينيّات أخذت تضيق ، وشرع يسودها جوّ يريد أن يُدخل الناسَ جميعاً في قالب واحد ، غيرَ عابئ بمعانى الصدق ، ونقاء الضمير ؛ وإذا كان من الناس من جرى مع الجوّ فأظهر أمراً ، وأخفى غيره ، وإذا كان منهم من أنكر أمسه وعاش يومه في منافعه ؛ فإنّ فئة ضئيلة لم تكن تعرف إلّا الصدق والإخلاص والاستقامة ؛ بقيت على نهجها ؛ لكنّها لقيت ، من أجل ذلك ، شديد العنت حتّى ضاقت عليها الجامعة ، ودُفعت دفعاً إلى مغادرتها . ورأى محمّد يونس أن يُخلي نفسه من الجامعة وما فيها ، وأن يتقاعد ، وهو يومئذٍ دون الخمسين ! ولن أنسى إذ رأيته في مدخل الكليّة ، وقد أتمّ أمر تقاعده ، فقال لي : لا أخشى شيئاً ؛ فقد أتممتُ سقفاً يُؤي أسرتي ! وطوى صفحة الجامعة ، لكنّ صفحة الأدب عنده لم تطو ؛ فقد أصدر : " الكلاسيكيون الروس والأدب العربيّ " يدرس فيه أثر الأدباء الروس في الأدب العربيّ الحديث دراسة دقيقة مفصّلة تعرب عن مقدرة في التقاط الأثر ، ومدى الإفادة منه في صياغة التجربة الأدبيّة .
وبقي مدّة بعيداً عن الجامعة ؛ حتّى إذا جدّ أمر ، وأرخت السلطة قبضتها عن الجامعة شيئاً ؛ عاد إلى كليّة اللغات في قسم اللغة الروسيّة ليستأنف ما انقطع من عمل ، وكأنّه لم ينقطع عشر سنين ، أو نحوها ؛ فزاول التدريس والإشراف على نهجه المعهود ؛ أمّا البحث والترجمة فإنّه لم ينقطع عنهما .
ثمّ قُدّر له أن يغادر العراق ، مع من غادر من أساتذة ، للعمل في جامعات عربيّة ؛ فكان مثالاً للعراقي ذي العلم والصدق والإخلاص ؛ فلقي من حسن الثناء ما هو أهله .
وبقي ختام الطريق ؛ وهل يُختم إلّا بمثل ما ابتدأ به ؟!
كنتُ مشوقاً له ، أترقّب أخباره ، وسرّني أن رأيته يكتب عموداً في " المدى " كلّ أسبوع ، أو كلّ أسبوعين ، ولكن كيف أراه ؟ وكيف أجد السبيل إليه ؟ وما هي إلّا أيام حتّى جاء إلى جامعة القادسيّة ، وكأنّ شوقي إليه دفعه إليها ! فما أسعدني يوم رأيته بعد سنين ! وتمّت السعادة حين التحق بقسم اللغة العربيّة يدرّس الأدب المقارن ، وكان موضع تقدير وتجلّة ؛ وأحبّه طلبته لما هو عليه من فضل وعلم وكريم خلق . ورجونا أن يمتدّ به الأمر ، وأن يكمل بعض مشاريعه من تأليف وترجمة ؛ لكنّ حكم المنيّة إذا أتى لا يردّ ؛ فمضى معجلاً ، لا يذكره ذاكره إلّا بمزيد من الثناء ...










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟