الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة: الانفصال

مولاي عبد الحكيم الزاوي

2017 / 2 / 15
الادب والفن


جاءت تهمس بشيء من كلام، سكناتها تشي بدفين من أخبار، أومأت رأسها مفصحة عن رغبة في الحديث، باغتته بالحديث، استرسلت في الكلام، وكأنها تجتر محفوظة قديمة، أطلقت العنان للعتاب من دون توقف، كانت تتحدث بثقة عالية في النفس، وأخيرا، جاءت خلاصة الكلام، الانفصال، دوى رنين الكلمة في أذنيه، اهتز فؤاده بسماعها، اغرورقت عيناه، واحمرت وجنتاه، ودعته كما تودع الطيور صغارها في كل صباح، قائلة بنبرة الصراخ انتهى المشوار، سكت طويلا، حسبته أخرس عن الكلام، استعاد شريط الذكريات، ضحك وبكاء، سمر وعتاب، كما كل الأزواج، لم يشأ أن يجيبها حينها، كان يقنع نفسه بأنها مضطربة شيء ما، وأن عشيرة النساء تنتابهن من لحظة لأخرى لحظات الجنون، أو ليس الجنون أنثويا، قالها وهو يفكر في إدغار موران، كان يقنع نفسه بأنه متبحر في علم النفس وخبايا النفس البشرية الدفينة.
لكل لحظة نقطة نهاية، جملة مأثورة رددتها وهي تحمل الحقيبة، وتنزل من أعلى الدرج نحو الباب، بقي يرقبها يخال أن الأمر مزحة، لا زال لم يصدق ما يحدث له، هو يكره كلمة نهاية، توحي له بأشياء كثيرة، عاش الحرمان، والداه افترقا منذ البداية، عاش متجولا كسائح بين البيوت، بيت الجدة والأخوال والأعمام، أثرت فيه كثيرا تجربة الصبا، أي قدر هذا الذي يجعل الإنسان يكرر تجارب الآخرين، ما كان يخشاه صار قريبا، طفله الصغير سيعيش مصيره.
تراقصت في مخيلته عشرات الأسئلة، هل ستصمد علاقتهما رغم هزات الزمان، ما معنى أن يطلب طرف الرحيل عن الآخر، وهل يستقيم أن يتشبث به الطرف الآخر، ثم هل سيجد أحسن منها، هل فرط في عشق المودة بينهما حتى صارت تطلبه الرحيل، بدأ يعاتب نفسه، يعتقد أنه لم يكن مسؤولا أمامها، أو أنه أخل بواجباته تجاهها.
. توجهت نحو الباب، تمشي شموخا لا يرتعب، تغادر مكانا لم تألفه، ربما كانت خطيئة أقدارها، أن ربطتها بشخص يعشق القراءة حتى الثمالة، في ما هي تنهوس بالشوبينغ حتى الادمان، أو ليس الزواج كما قال أحد الحكماء حادثة سير اجتماعية، تصادم بين مرجعيتين مختلفتين.
ظل يرمقها من علو هاوية، ضجيج حقيبتها يطقطق الأسنان، وكأنها أرادت عنوة أن تحدث جلبة في الفناء حتى تشعر الجيران برحيلها، ما أغرب حياة الأزواج، يتزوجون من أجل الناس، ويفترقون من أجلهم، حيواتهم ملك للآخرين وليست ملكا لهم، قالها وهو يتذكر قصة الروائي الفرنسي جون ماري لوكليزيو مع جْميعة المغربية.
تجاهلها ظنا منه أنها سترشد عن غيها، عاد إلى الغرفة، بدأ يتحسس ذكرياتها، طيفها يعمي المكان، صورها في كل الأرجاء، أرادت أن تخلد اسمها في مكان تعرف أنها راحلة عنه، كان همها هو أن تزين الغرفة بصورها على الجدران، وتنقش خواطرها الاستهلاكية عليه، عقلها كان سادرا نحو الأشياء لا الأفكار، وتلك مأساة جيلها.
مر يوم على رحيلها، أحس بهدوء جميل يملأ المكان، لم يعد يسمع سعار الغضب ولا نحيب العتاب، لأول مرة منذ زواجه يخلد إلى نوم عميق، لا طائر يطير ولا وحش يسير، ولا امرأة تولول غضبا من أتفه الأشياء، نومه لم يعد له توقيت وزمن، ولكأن الزواج أفقده إحساسا بالكينونة والإنوجاد.
. لم يشأ أن يستعجل إجراءات الطلاق، استبطأ الأمر، وفي قرارة نفسه أن تجود عليه أقدار الزمان بصحوة ضمير وبحَكم مقتدر، كان يظن أن علاقتهما فترت، ولعل مسح الطاولة كما يقال قادر على أن يعيد مياها أسنت لعلاقتهما الزوجية..
استغل وحدته الجديدة، بدأ يخرج من خزانته كتبا كان قد وعد نفسه بأن يقرأها، لكنه انشغل عنها، راوده الحنين من حيث لا يدري إلى قراءة رواية بوليسية لأغاتا كريستي كان قد قرأها منذ أمد بعيد، لعلها تذكره بأحلامه الطفولية، حينما كانت تستهويه أدوار المحققين وهم يفككون ألغاز الجرائم، ويكشفون عن هوية المجرمين، انغمس في القراءة بنهم شديد، يلتهم أوراقا تلو الأخرى، كما تلتهم الذئاب الشياه، شعر بنشوة غامرة تخترق دواخله، غابت عنه لمدة طويلة، عشق القراءة لا يعرفه إلا عارف رباني أو متزهد صوفي كما قال جلال الدين الرومي.
في لحظة انغماس أثير، رن جرس الباب بصخب، باغته على حين غفلة، استعجل المسير، فإذا بالطارق، عون قضائي يحمل معه طردا بريديا يتضمن إشعار ببداية مسطرة الطلاق، تبددت شكوكه في العودة، أصبح يوقن بأن الأمر صار من الجد ما لا يحتمل، وعليه أن يتأهب لمشوار جديد من حياته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس