الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغريب

صفوت فوزى

2017 / 2 / 18
الادب والفن


من رأس الحارة يهل، بقامته الفارعة ورأسه الحليق، غامضًا كأنه يأتي من لا مكان. قدماه المفلطحتان تدبَّان على الأرض، باطن القدمين غليظٌ ناشفٌ ومتشقِّقٌ.
في البداية حسبناه واحدًا من المجاذيب الذين يعبرون قريتنا، يخبون في أسمالهم صامتين، أو يهذون بكلمات لا تبين. لكنه كان يختلف عنهم؛ يرتدي ثوبًا سمائي اللون، يحمل مِخلاته المُبقَّعة على ظهره العريض– كنت أموت رعبًا منها؛ إذ أظنُّ أنه يخبِّئ داخلها العيال الذين يخطفهم كما كانت أمي تخوِّفني، يجرُّ في يده عنزة ضامرة. بنيانه الضخم وكتفاه العريضتان كان يكسر هيبتهما ابتسامة عريضة ترتسم على خديه البارزين فيبدو كطفل مسالم. ننفلت من أسر الغرف الخانقة إلى براح الحارة. نغادر وشيش بواجير الجاز، روائح الطعام، وثرثرة النساء. يتوقف لا عبو "البلي" و"النحلة" عن اللعب. ينادي بعضنا بعضًا متوثبين فرحين. "علي"، مجروح الركبة دائمًا من أثر الوقوع أثناء لعب الكرة، يتقدمنا. لا يملك نقودًا، لكنه يقاسمنا ما نحصل عليه. البنت "سعدية" حافية القدمين بوجهها المعفر وضفيرتي شعرها بالشرائط الباهتة اللون، تنسحب من لعب "الأولى" وتنضم إلينا.
يضع مخلاته جانبا. يربط عنزته في حديد النافذة، يفترش الأرض الترابية مسندًا ظهره للحائط الخشن.
نتحلق حوله– نحن أطفال الحارة والحارات المجاورة– نمد له أيدينا بنقودنا القليلة. يزيحها جانبًا بإباءٍ وحنوٍّ، وعلى وجهه الطيب ترتسم ابتسامة غامضة. يمد لنا طبقًا معدنيًّا صغيرًا، مشيرًا لنا بأن يبصق كلٌّ منا في قعره. تتقلص ملامح الوجه، تعتصره هبة من شجن ، ينضح العرق من مسامه ويتسرب ببطء على صفحة وجهه المجهد. صمت عميق وترقب حذر يخيِّم علينا، ونحن نتابع بشغف ودهشة مكتومة تحولات الرجل. دمعتان توارتا فى بحر عينيه . يزدرد ريقه فتبرز تفاحة آدم المعلقة في رقبته. ينحني قليلا للأمام قبل أن يمد لسانه لاعقا قعر الطبق، وإذ يفعل، ترتخي عضلات وجهه المتوتر، وترتسم ملامح الرضا على الوجه المكتنز. غبار من صهد الظهيرة يتناثر في المكان. يستند بظهره على الحائط الخشن رافعًا عينين مسدلتين ممتنَّتين نحو السماء. ينزلق منهما الدمع فيمسحهما بكُمِّ جلبابه. يفتح عينيه مقدمًا لنا مربعات "البخت" بمبية اللون يلتصق بقعر كل منها نقطة من العسل الأسود. نبحث بداخلها عن "المليم" المُخبَّأ لسعيد الحظ الذي يجده. يتهلل فرحًا قابضًا على "المليم" الكنز.
يمضي النهارُ وينفرط عقدنا من حول الرجل عائدين إلى أحضان الأمهات والبيوت. يفك حبل العنزة، يحمل خرجه على ظهره، وبخطى متثاقلة يمضي، غامضًا كما جاء لا ندري إلى أين.
نحكي لأمهاتنا عن الرجل الغريب الذي لا يأخذ نقودًا ويكتفي بالبصقة.
ننتظر حضوره كثيرًا لكنه لا يأتي. نطيل النظر والتحديق في رأس الحارة عله يطل علينا من جديد لكنه لا يظهر. يتوارى الرجل حتى يكاد يُنسَى. لكنه يظل حيًّا على ألسنة الساهرين في جوف الليل، والقاعدات على أعتاب البيوت، والقابعين في قيعان الدور.
يتحول إلى سيرةٍ وحكاية تلوكها الألسن وتتناقلها الشفاه. فمن قائل إنه كان يوفي نذرًا قطعه على نفسه، وحين أعطاه الله سؤل قلبه اختفى. ومن يقول إن لعنةً حلَّت به لأنه تجرأ على المحرمات، ويستشهدون في ذلك بالقرد الذي كان إنسانًا ومسخه الله لأنه استحم باللبن الحليب ومسح مؤخرته برغيف ساخن. آخرون قالوا إنه جن وصار يضرب في الطرقات البعيدة على غير هدى.
يقولون ويقولون، يختلفون ويتفقون، تخفت أصواتهم حينًا وتعلو أحيانًا، ويظل هو واقفًا هناك على عتبات طفولتنا التي كانت.
-----------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أحمد فهمي يروج لفيلم -عصـ ابة المكس- بفيديو كوميدي مع أوس أو


.. كل يوم - حوار خاص مع الفنانة -دينا فؤاد- مع خالد أبو بكر بعد




.. بسبب طوله اترفض?? موقف كوميدي من أحمد عبد الوهاب????


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم