الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموت عمل شاق لخالد خليفة - الوصف السردي ودلالات الخطاب الروائي

محمود زعرور

2017 / 2 / 23
الادب والفن


في واحدة من أبلغ روايات المشهد السوري الراهن ، وأعمقها دلالة ، وأكثرها تكثيفاً ، وإيجازاً ، يدعونا الكاتب والروائي خالد خليفة في روايته الجديدة ( الموت عمل شاق 1) إلى رحلة مضنية ، ومعقدة ، في الجغرافيا السورية ، تضع لها هدفاً تاريخياً ، خاصاً واستثنائياً ، من أجل إتمام مهمة تتصف بأنها غير قابلة للتأجيل ، أو التبديل .
في سياق هذه المهمة ، يقوم الكاتب بتقديم صورة فنية ، غنية بالمكونات والتفاصيل المختلفة لواقع المجتمع المتغير في الحاضر ، بعد الثورة السورية ، خلافاً للمألوف ، على صعيد أحواله ، وسماته ، في الماضي . يستخدم المؤلف من أجل هذا المسعى أساليب وتقنيات مختلفة ، في الجانب
السردي ، وفي تقديمه لشخوصه ، وفي تعامله مع عنصر الزمن ، من أجل صياغة رؤيته لخطابه الروائي ، وإشهار دلالاته العامة .
سنكون مع سفر العائلة ، أو بالأحرى ، مع الشقيقين ( بلبل وحسين ) واختهما ( فاطمة ) ، عبر الدروب والحواجز والبلدات ، باتجاه قرية ( العنابية ) ، من أجل دفن جثة الأب ، حسب الوصية. الرحلة تتحول إلى كاشف فني قاس، ومحاكمة أدبية جذرية، عبر الوصف السردي، لما يمكن
معه القول لصورة جحيمية ، طافحة بالآهوال ، من صور مآلات المصير السوري الراهن ، بعد تاريخ مأساوي طويل .
الرحلة المعقدة ، والمضنية ، من أجل تنفيذ وصية الأب ، لدفن الجثة في مسقط رأسه ، تستدعي التفكير بحال الوطن ، في الوضع الراهن ، كما تستدعي التفكير بماضي سوريا أيضاً . ماض يدل عليه الزمن المتجمد ، الذي قلما حمل تغييراً ، أو تبديلاً ، في هيئته الكلية ، أو في وقائعه المختلفة.
إنه زمن ثابت ، ساكن ، ومستقر ، أريد له أن يكون على نمط واحد يتخذ صفة الاستمرار والتحكم ، بالرغم من أنه كان يشي ، على الدوام ، بممكنات التغير ، إلا أن هذه الممكنات ، أو الإمكانيات ، كان يجري العمل عليها ، لمنعها من التحقق.
يمكن لنا أن نحدد المسار الروائي الرئيسي ، الذي ينطلق من العائلة ، عائلة عبد اللطيف السالم ، كوحدة اجتماعية داخلية ، تروم تنفيذ وصية الأب في دفنه ، في قريته البعيدة ، ثم الوقوف أمام طريقة تعاملها مع الوحدات الاجتماعية الخارجية الأخرى ، عبر الاصطدام بمشهدية مفجعة وغرائبية، معاَ ، للوقوف على أوضاع المجتمع السوري الراهن ، بعد انتفاضته المجيدة ، التي أرادت وضع حد نهائي ، مرة واحدة وأخيرة ، لحكم العائلة الأسدية ، وكسر فكرة الامتثال المديد والمدمر لحياة وكرامة السوريين .
كما يمكن لنا ، ونحن نستقرئ دلالات الخطاب الروائي في هذا العمل ، أن نعتبر هذا الفعل / الحدث ، الذي تتخذ منه رواية ( الموت عمل شاق ) لخالد خليفة فكرة للتحويل ، أو بمعنى ما ، نقلة باتجاه المعادل المقابل لفعل التدمير للوضع العام ، في الشخوض وفي المحيط ، على حد سواء ، بعد الثورة السورية ، من أجل حياة جديدة لسوريا ، مختلفة ومغايرة كلياً .
لقد أراد السوريون وضع حد لفكرة الموت ، ولحالة الإقصاء المادي والمعنوي ، التي يتعرضون لها على مدى عقود من السنين ، فتعرضوا لموت لا يقل ضراوة عن حالهم السابقة ، عقاباً على تمردهم ، ورفضهم للإذعان ، الذي أريد له أن يكون تاماً وشاملاً وأبدياً.
لكن ، أين يقف الكاتب من هذا كله ؟ وكيف قدم موضوعته الروائية ؟ وما هي حال ، أو أحوال شخصيته الرئيسية في عمله الجديد؟ وما طبيعة الرواي هنا؟
حكاية الرواية ، بالطبع ، ستتمحور حول عبد اللطيف السالم ، الأب ، الذي أراد أن يكون مشاركاً في صنع التغيير ، عبر العمل مع المعارضة المناوئة للنظام الأسدي ، في البلدة ( س ) ، القريبة من مدينة دمشق ، ثم انتهى به المطاف ، بعد مرضه ، وبعد الانتقال إلى منزل ابنه ( بلبل ) ، إلى الموت ، لكنه أراد من الابن أن يقوم بدفنه في ( العنابية ) ، القرية الواقعة في الريف الحلبي .
يأتي الوصف في الرواية على حالتين ، أو هيئتين ، فمرة يكون وصفاً طبيعياً ، إذا صح التعبير ، عندما تقتصر وظيفته على التفاصيل الخارجية للأشياء والظواهر ، ومرة أخرى يكون مندمجاً ومتداخلاً مع السرد ، عندما يشترك بقص الحدث ، أو الأحداث ، متتبعاً لتطورها ، وناقلاً لتغيراتها ، وموضحاً تأثير ذلك كله على الشخوص ، وهنا ، بالضبط ، يقوم بوظيفة مزدوجة في العملية الفنية .
وهي سمة فنية / سردية ترتبط كثيراً بحقل القصة القصيرة ، ومن هنا يأتي لجوء الكاتب خليفة إلى هذا النمط لكونه أراد لروايته أن تحوز على صفة الإيجاز ، والتكثيف ، وحاملة لشحنات قصوى من التوتر الدرامي.
سنكون مع تطبيقات نموذجية ، ملموسية وفعالة ، معاً ، للوصف السردي في مقاطع سردية رئيسية في الرواية ، مثل إخراج جثة الوالد من المشفى الدمشقي ، ووضعها في ميكروباص ، ثم تلك الرحلة الطويلة المضنية ، المتقطعة والمتشعبة ، المحفوفة بالأخطار المختلفة ، وسط أجواء المعارك ، والقصف ، والحصار ، وشبح الموت الذي يخيم على كل الأنحاء ، وانشغال الأبناء ( بلبل ، حسين وفاطمة ) بمواجهة كل ما يعتري هذا المقصد من صعوبات وعراقيل ، كتلك المواقف المفصلية ، والتي تأتي كدلالات ليست عصية على الفهم والتفسير، كأن يطلب فرع الأمن اعتقال الأب عبد اللطيف السالم لأنه كان ( معارضاً ) ، رغم أنه الآن محض جثة ، فحسب ، أو أن يطلب تنظيم سلفي جهادي متشدد محاكمة بلبل ، وإنزال العقاب به ، وإقامة الحد عليه لكونه ( كافراً ومرتداً ) .
مقطع وصف سردي أول:
( عند مطلع الطريق الدولي ، كانت السيارات تنعطف إلى طريق فرعي . سأل حسين سائق سيارة أجرة إن كان الطريق مغلقاً ، فأجابه بأن القناصة يمنعون المرور ، وأضاف : منذ ثلاث ساعات قنصوا أربعة مسافرين ، مشيراً إلى أربع جثث لرجل وامرأة وشاب وفتاة . فكر بلبل بأن هؤلاء اختاروا الموت كما عاشوا ، كعائلة . انحرف حسين بالميكرو في زواريب ضيقة ، أصوات قصف الطيران قريبة منهم ، باستطاعتهم رؤية الطائرة وهي تطلق صواريخها من ارتفاع منخفض ، الشظايا تتناثر حولهم . حاول حسين التركيز على الطريق كي لا يجدوا أنفسهم محاصرين وسط بساتين الزيتون المحترقة . 2) .
مقطع وصف سردي ثان :
( اقترب منهم رجل يرتدي ملابس سوداء ويضع قناعاً على وجهه ، طلب هوياتهم بلغة عربية غير سليمة انتبه إلى الجثة قبل شرحهم لخط رحلتهم ، بادره حسين بالقول إنهم في طريقهم لدفن أبيهم ، تحدث بحهاز لاسلكي يحمله بيده ، ثم كشف البطانية عن الجثة ، كانت جثة مختلفة ، مليئة بالقروح ، تنزقيحاً في أكثر من مكان ، انتشرت رائحتها الكريهة في المكان ، استوطنت أنوفهم ، ثلاثة مسلحين توجهوا نحوهم ، ركبوا معهم وأمروا حسين بالتوجه نحو مبنى الأمير. 3) .

ليس عسيراً تلمس الدلالات من هذين المقطعين السابقين . فأي مصير ينتظره السوريون والسوريات بعد هذا الحكم الأسدي المديد ؟ وأي خيار ، في الحاضر والمستقبل ، سيكون ملائماً لوطنهم ؟ ونمط حياتهم ؟ وماهي حدود حريتهم بين الأسد وبين داعش على سبيل المثال؟
لكن العلاقة المتكافئة بين الراوي العليم ، أو كلي المعرفة ، وبين شخصية عبد اللطيف السالم ، الذي كان ينظر إلى ( يوم الاستقلال القادم ) من ( النظام الفاشي ) كلحظة حتمية ، توضح هنا طبيعة التناقض أو بؤرة الصراع ، التي تعتمل في المجتمع السوري.
الحدث في الرواية يأتي على صيغة خطية ، متسلسلة ، في الغالب ، لكنه يكون ، كذلك ، بصيغة الاسترجاع ، وفي هذه النقطة ، يشترك مع طبيعة معالجة الكاتب للزمن ، الذي يتسم بالحركة الدائرية ، وكأني بالمؤلف لا يقصر خطابه الروائي على المرحلة الحاضرة ، فحسب ، بل يتعداه إلى رؤيته الكلية للمجتمع السوري في حقبتيه ، وهو تحت النظام الأسدي ، في مرحلة الأسد الأب ، وأيضاً ، في مرحلة الأسد الابن.
وهذا التصور الفني / الجمالي يغدو متصلاً بمقولة الكاتب الرئيسية ، من حيث إحالتها ، أو ارتباطها بقضايا الصراع الاجتماعي والسياسي في سوريا.
ومثلما يشكل تنفيذ الوصية ، الحدث الرئيسي في الرواية ، والنقطة الأكثر جذباً واهتماماً على صعيد المسار الروائي ، تغدو هذه العملية بالنسبة للكاتب خالد خليفة ، مجالاً نصياً يخترق الصور المعرفية والاجتماعية والسياسية لسوريا .
تقول جوليا كريسطيفا :
( هكذا نشهد ، في أيامنا هذه ، تحول النص إلى مجال يلعب فيه ويمارس ويتمثل التحويل الإبستيمولوجي والاجتماعي والسياسي . فالنص الأدبي خطاب يخترق حالياَ وجه العلم والإيديولوجيا والسياسة ويتطلع لمواجهتها وفتحها وإعادة صهرها 4) .
محمود زعرور – كاتب وناقد أدبي - هولندا
--------------------------------------------------------------------------------------

1- خالد خليفة : الموت عمل شاق- دار نوفل - هاشيت أنطوان العربية – بيروت ، دار العين، القاهرة 2016
2- الرواية ص 18
3- الرواية ص 112
4- جوليا كريسطيفا : علم النص ، ترجمة فريد الزاهي ، مراجعة عبد الجليل ناظم ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء ، ط ثانية 1997 ص 13









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??