الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لستُ متسامحة دينيًّا

فاطمة ناعوت

2017 / 3 / 7
بوابة التمدن


===========

“أنتِ متسامحة عشان كده بنحبك.” إحدى الكلمات الطيبة التي أسمعُها كثيرًا من قرائي. والمقصود بها هو "التسامُح الديني". وبرغم أن الكلمة تخرجُ من فمٍ مُحبٍّ وتأتي دائمًا في سياق المديح، إلا أنها من جمُلة الكلمات التي أرفضُها، وأراها خارج سياقها اللغويّ الصحيح.
بدايةً أودُّ أن أردَّ الكلمةَ إلى المعجم؛ حتى نقف على معناها اللغويّ الدقيق. في المعجم "الوسيط” نجد: تسامَحَ الشَّخصُ في الأمر: تساهَل فيه وتهاون. فنقول: "لا تتسامحُ الدَّولةُ مع الخونة والمتآمرين، لكنها قد تُسامح في شُرْب الخمر”. نكتشف هنا أن "التسامُح" يأتي مع الجرائم أو الأشياء السلبية. فليس واردًا أن نقول مثلا: "المعلّمةُ تتسامح مع ذكاء تلميذها"، لكن بوسعنا أن نقول: “المعلمةُ تسامحت مع الأخطاء النحوية لتلميذها، حين أعجبها موضوع التعبير”. وفي "لسان العرب"، نجد ما يلي: السماحُ والسماحةُ: الجودُ والكرم والعطاء عن سخاء. وفي الحديث يقول اللهُ عزَّ وجلّ: “أسمحوا لعبدي كإسماحه إلى عبادي"، أي كونوا كرماءَ مع عبدي مثلما هو سخيٌّ مع عبادي. وسمح لي فلانٌ، أي أعطاني وسمح لي بذلك. ويُقال: "سمحتِ الناقةُ" إذا انقادت. والمسامحة: المُساهلة في الطعان، وهو الطعن في العرض والشرف. والخلاصة أن "سَمَح"، تُقال عند التكرّم بالعطاء، و"أسمَحَ"، تُقال عند الاتّباع والانقياد والذُّل. وكلا المفردتين هما الجذر اللغوي لعبارات من قبيل: "متسامح دينيًّا" أو "التسامح بين الأديان"، الخ.
فهل ترون الكلمةَ مناسبة ودقيقةً لغويًّا، حال الكلام عن "احترام" الآخر العَقَدي، أو ما يُسمّونه "التسامح الديني"؟ هل حقُّ المرء في اختيار عقيدته، هو شيء سلبيّ قد "أسامح" فيه إن اختلف دينُه عن ديني؟! إن احترم شخصٌ مسيحيٌّ حقَّ شخص مسلم في اختيار دينه، أو العكس، هل يُعدُّ ذلك تَفضُّلا وكرمًا وسخاءً وعطاءً من قوي لضعيف ومن غنيّ لفقير؟ أم هو مذلّةٌ وخنوعٌ واتّباعٌ من ضعيف لقويّ ومن ذليل لجبّار؟ لا هذا ولا ذاك. كلا المعنيين خطأ.
فحين تحترم وتحبُّ المختلفَ عنك دينيًّا فلا تحاربه ولا تقتله ولا تعنف معه أو تزدري دينَه، فلا أنت ذليلٌ تابع، ولا أنت كريمٌ متفضّل. إنك فقط إنسانٌ سويٌّ ناضج نجوت من مرض الطائفية الذي اِبتُلي به الآخرون الذين أهرقوا الدماء في الحروب الدينية من الصهاينة والصليبيين والإسلاميين. وحين "تتعايش" مع المختلف عنك دينيًّا فأنت فقط إنسانٌ طبيعي عاقل. وقد وضعتُ كلمة: "تتعايش" بين مزدوجين؛ لأنني أرفضها أيضًا، وأستبدلُ بها كلمة أرقى هي: "العيش". فالتعايشُ لا يكون إلا مع "عدو" أو مع "مرض". فمريضُ السُّكر "يتعايش" مع مرضه حين ينجح في كبح تداعياته وأعراضه. والشخصُ "يتعايش" مع جار السوء أو العدو، حين ينجح في تجنّب شروره. لكنك "تعيشُ" مع أسرتك وأصدقائك وجيرانك الطيبين. "التعايش" فلسفيًّا ولغويًّا يشبه "التسامح"، كلاهما يحملُ معنى الجبر والاضطرار. أنت تتسامح مع عدوك، وتسامح من أساء إليك، وتسمح لإنسان بما ليس من حقّه. وكل ما سبق معان مغلوطة حال الكلام عن بشر ينتمون إلى عقائد مختلفة يعيشون معًا على أرض واحدة أو في كوكب واحد أو في كون واحد. فالمختلف عنك دينيًّا ليس عدوك، ولا هو أساء إليك، ولا أنت تمنحه ما ليس من حقّه حين تحترم اختلافه عنك.
الأخطرُ من كلِّ ما سبق، هو أنك حين تسمحُ بشيء، فأنت بالضرورة تملك حقَّ "ألا" تسمح به. فمثلا: "أسمحُ لك أن تستخدم قلمي في الكتابة"، جملةٌ صحيحة. ولكن: "أسمحُ لك أن تستخدم قلمَك في الكتابة!"، جملةٌ غير صحيحة. فمن حقي "ألا" أسمح لك باستخدام قلمي، ولكن هل من حقي ألا أسمح لك باستخدام قلمك؟! الأمر نفسه حال الكلام عن العقائد واحترام حق الغير في حرية الاعتناق. فليس من حقي أن أسمح أو أتسامح أو أُسامحَ إنسانًا لا يدين بديني؛ ببساطة لأنني لا أمتلك الحقَّ في "ألا" أسمح له بذلك، أو أتسامح معه بسبب ذلك.
وبناءً على ما سبق، فإنني حين أرفض التمييز ضد أقباط مصر وأطالب بحقوقهم المهدورة في بلادهم، فلستُ متسامحة، بل أنا إنسانٌ طبيعي ناضج. وحين زار الرئيس عبد الفتاح السيسي الكاتدرائية لتهنئة الأقباط في عيدهم، لم يكن متسامحًا دينيًّا، بل كان إنسانًا طبيعيًّا ورئيسًا ناضجًا يعرف واجباتِه وحقوقَ مواطنيه. وحين حارب المصريون كلَّ حروبهم معًا مسلمين ومسيحيين، لم يكونوا متسامحين دينيًّا، بل مصريون وطنيون ناضجون يقفون في وجه عدو واحد. وحين خرجنا في ثورات مصر منذ 1919 وحتى 2013 معًا مسلمين ومسيحيين، لم نكن متسامحين دينيًّا بل سلكنا سلوك الانسان الطبيعي الناضج الذي خرج لينصر وطنه. وحي سافرتُ بالأمس مع وفد قاهري لزيارة أبناء العريش الأقباط الذين يهددهم مسوخُ داعش، لم نكن متسامحين؛ إنما فعلنا ما يمليه علينا ما بداخلنا من "إنسان" ناضج عاقل أكرمه الله بنعمة العقل السليم والقلب السليم. لستُ متسامحة دينيًّا حين أحبُّ البشر دون النظر إلى عقائدهم، بل أنا إنسان حُرٌّ يشكرُ الله على نعمة الحياة، والعقل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا سيدة فاطمة
حمّاد بنسخات ( 2017 / 3 / 8 - 05:13 )
لطالما كانت تراود ذهني فكرة هذه المقالة ، و هنا اريد ان اضيف الى ما قلتيه و هو الخطأ في إطلاق صفة الديني السمح على الدين الاسلامي ؟ فالدين الاسلامي هو ابعد ما يكون عن السماحة ؟ ثم السماحة مع من ؟ هل الدين الاسلامي هو متسامح مع الكفار ؟ هل الدين الاسلامي متسامح مع اهل الكتاب ؟ ام انه كله تحريض على القتل و الاهانة و الطعن في عقائد الاديان الاخرى ؟ ثم يسامحهم على ماذا ؟ و مين اللي يسامح الاخر ؟ هل هم كانوا اعتدوا على المسلمين ؟ هل يوجد في الديانة المسيحية او اليهودية او الهندوسيةء اي تحريض على قتل المسلمين ؟ فاذن يسامحهم على ماذا ؟ هل القاتل هو يسامح الضحية ؟ الاسلام هو البادئ في الاعتداء على كل الاديان سواء في النصوص النظرية او على المستوى العملي اي بالغزوات التي شنها المسلمون على الناس من الأديان الاخرى سواء كانوا مسيحيين او يهود او كفار ! فاذن اضفاء صفة السماحة على الدين الاسلامي هو تجني على الحقيقة و اعتراف بحق الاسلام و المسلمين في اهانة الآخرين و اعتبار بقاء أقلية مسيحية او يهودية عايشة على ارض آباءها كأنه منة من الاسلام على اتباع الاديان الاخرى و دليل على تسامح الاسلام ؟


2 - المفروض ان يكون العنوان: أسامحهم على ماذا ؟
هم لم يعملوا حاجة ضدي ( 2017 / 3 / 30 - 23:01 )
لا يمكن اعتبار القبيلة التي تغزو قبيلة اخرى و تنهب و تسلب ما تطال أيديها ثم تبقي على بعض الأفراد من القبيلة المغزية نقول لا يمكن اعتبار تلك القبيلة الغازية بأنها قبيلة متسامحة بذريعة انها ابقت على القليل من أفراد القبيلة الضحية و لم تقتلهم كلهم ! و الامر الاخر هو انه ليس المعتدي من يسامح بل المعتدى عليه هو الذي من حقه ان يسامح الذي اعتدى عليه ، و الاسلام كان المعتدي و البادي في الاعتداء على كل الشعوب و الاديان و لا يمكن ان نسمي المعتدي متسامحا فعلى هذا القياس و طبقا لهذا المنطق في وقتنا الحاضر فانه يمكن اعتبار مثلا صدام كان زعيما متسامحا لانه بالرغم من انه قتل الكثير من الشيعة و لكن لم يقتلهم كلهم و كذلك انه ام يقتل كل الاكراد بل قتل الكثير منهم ؟. نفس الشيء يتطبق على الاسلام فبدلا من ان تقولي لست متسامحة دينيا كان المفروض بك ان تقولي اسامحهم على ماذا ؟ فالمسيحيين لم يعملوا شيئا خطأ تجاهي انا المسلمة بل ان ابناء ديني اي نحن المسلمين نحن من اعتدى على المسيحيين و ليس بالعكس و هم يحق لهم الحديث عن التسامح و ليس نحن

اخر الافلام

.. البنتاغون يعلن البدء ببناء ميناء مؤقت في غزة لإستقبال المساع


.. أم تعثر على جثة نجلها في مقبرة جماعية بمجمع ناصر | إذاعة بي




.. جو بايدن.. غضب في بابوا غينيا الجديدة بعد تصريحات الرئيس الأ


.. ما تأثير حراك طلاب الجامعات الأمريكية المناهض لحرب غزة؟ | بي




.. ريادة الأعمال مغامرة محسوبة | #جلستنا