الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ومن الفساد ما يُضحِك !!

عزيز الحاج

2006 / 1 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


قال شارلي شابلن إنه ما يكاد الطابع التراجيدي لأي حدث يزيد عن الحد، حتى يصبح الموقف باعثا على الضحك. وهذا ما جسده شابلن في فيلمه "العصر الحديث". وقال أحد الباحثين في موضوع الضحك والفكاهة إن عنصر المأساة حين يبلغ الذروة، فربما التجأنا للضحك لتزويد أنفسنا بشيء من "المناعة النفسية" التي تجعل الإنسان يستخف بما يقع حتى ولو إلى حين.
منذ أسابيع قليلة أعيد نشر مقال الكاتب السوري الساخر الفقيد مصباح الغفري عن "عطسة الرئيس". القطعة تجسد النظام الاستبدادي الفردي الطاغي على كل شيء من خلال السخرية بما حدث لعطسة مفترضة لرئيس دولة عربية شمولية، حيث تهرع وسائل الإعلام لتمجيد الحدث، وتسارع مجالس الأبحاث لتحليل آثار العطاس الرئاسي، ويرتجف مجلس الأمن القومي الأمريكي قلقا من الأبعاد الخطيرة لعطسة الرئيس العربي. أما كاتبنا الظريف سامي البحيري، فقد جسد لنا مأساة وجرائم التفخيخ الإرهابية في العراق بحديثه عن الحمار المفخفخ الذي تسبب في قتل الأبرياء، وتسائل الكاتب عما يجب وصف الحمار الضحية به، أهو حمار انتحاري؟ أم من "حمير الجهاد". هنا نضحك مؤقتا في نوبة استخفاف عابرة بالجرائم الدموية اليومية رغم علمنا بأهوالها الكبرى؛ نضحك لعلنا ننسى هنيهة ونهدئ أعصابنا.
إن مناسبة مقال اليوم موضوع قرأته منذ أيام في صحيفة الهيرالد تريبيون عن الفساد المستشري بين الطبقة السياسية والبرلمانية الهندية.
مقال الصحيفة يعلق على معلومات ميدانية من الهند ليخبرنا أن الفساد والرشوة منه خاصة صارا من الشيوع والانتشار بحيث تحولا أحيانا لمبعث السخرية والاستخفاف بين الجمهور، وهذه ظاهرة خطرة.
إزاء تلك الحالة أخذ فريق من الصحفيين في التلفزيونات الهندية يتنافسون في نصب المقالب للبرلمانيين وتوريطهم، ثم نشر وقائع أخذ الرشوة بالصور المأخوذة بالكاميرات السرية.
كان أول مقلب لعدد من الصحفيين نصبوه لأربعة من البرلمانيين. ذهب الصحفيون متنكرين بلحى ونظارات مستعارة لكل برلماني على حدة باسم منظمة وهمية عارضين على البرلماني مبلغا بسيطا مقابل تعهده بطرح عدد محدد من الأسئلة على الحكومة في البرلمان. الكاميرا الخفية تظهر البرلمانيين يساومون على الصفقة، وأحدهم غضب بشدة لقلة المبلغ، وبرلماني آخر أشار للصحفيين بدس المبلغ تحت وسادة من الوسائد التي كانت على الكنبة التي يجلس عليها. بعد الاتفاق، وحين جاء وقت طرح الأسئلة البرلمانية، فإن البرلمانيين الأربعة طرحوا معظم الأسئلة المعدة لهم، ومنها مثلا:" أما آن الأوان للحكومة تسهيل إجراءات استيراد التقنيات المتقدمة مثل البينبانغس والسلوغكس والبليكلروس؟"" هذه كانت مصطلحات وهمية ورط الصحفيون بها البرلمانيين المغفلين، مما جلب عليهم ضحك القاعة ومشاهدي التلفزيون. وسؤال آخر كان: "هل رفعت الوزارة المنع المفروض عام 1975 على فيلم [ الذي طار فوق عش الوقواق] وفيلم [ الخوف والاشمئزاز في لاس فيغاس]؟ كان الفيلمان وهميين ومن ابتكار الصحفيين. وبعد فضيحة البرلمانيين المتورطين وتعرضهم للمهانة، سارعوا للاختفاء عن الأضواء بحجة المرض أو السفر. لقد صارت اللدغات التلفزيونية للفساد موضع تنافس بين المحطات؛ فقد أعد فريق صحفي من محطة أخرى مقلبا جديدا لستة برلمانيين باسم مؤسسة تنموية وهمية وكان أحد البرلمانيين المساكين متورطا في الفضيحة الأولى أيضا!
كان النجاح حليفا للصحفيين في توريط السياسيين المذكورين في أسئلة سخيفة وحمقاء أثارت ضحك الجمهور المشاهد.
إن ما أراد المقال التعبير عنه هو القلق من ردود فعل الناس، التي تميزت بالاستخفاف نظرا لشيوع الفساد السياسي؛ فإذا كانت الفضيحتان قد أثارتا الاشمئزاز والصدمة، فإن من بين المشاهدين من فوجئوا بضآلة مبالغ الرشوة أكثر من صدمتهم بالفضيحة نفسها. المكافأة النقدية كانت أحيانا بحدود 200 دولارـ بس!
قارنت مبلغ المائتي دولار رشوة للبرلماني بمبالغ الفساد عندنا. أي سياسي متورط في الفساد يرضى حتى ب200 ألف دولار اختلاس ونهب؟ أليس المليون نفسه قليل عندهم؟؟ ال200 دولار تكفي لشراء شرطي أو موظف عراقي صغير، أما الموظف الكبير والسياسي الملوثان بالفساد عندنا فليس لطمعهما حد.
إن الفساد العراق أصبح في رأس هموم اللجنة الدولية للنزاهة حيث تبين أن العراق هو أول دولة عربية في نسبة الفساد ومن الدول الأولى على الصعيد الدولي. ويقول تقرير اللجنة الصادر في العام المنصرم إنه لو استمرت هذه الحالة العراقية، لكان الفساد العراقي سيصبح "أكبر فضيحة دولية." تصورت من جانبي، لغرض الفكاهة ليس إلا وللتسرية المؤقتة عن الهم، فريقا تلفزيونيا عراقيا يفكر في مقالب مشابهة لبعض البرلمانيين العراقيين. طبعا أعني مجرد فرضية خيالية أرجو أن لا تزعج أحدا. أولا كم المبلغ الذي سيقبل به السياسي أو المؤول المعرض للفساد؟ ولو افترضنا أن الفريق الصحفي منتدب من جهة دولية كبرى لتمويل العملية ثم استقرت المكافأة على نصف مليون دولار مثلا، فأي نوع من الأسئلة يمكن التوريط بها؟ سألت صديقا لي من الظرفاء فاقترح أسئلة من طراز:
" يقولون إن الجراد الأسترالي وصل جلولاء. فهل اتخذت الحكومة تدابير مناسبة؟"، و "لماذا لا تحققون في أسباب إفلاس مصرف الحمراء؟"، و "متى تمنعون عرض الفيلم الإباحي [ ليالي الأنس] سرا في أحد صفوف كلية الشمس في البتاوين؟"
بعيدا عن الفكاهة والسخرية، المطلوبتين لفضح العيوب السياسية الفادحة كضرورة الكاريكاتور البارع، فإن قضية الفساد في العراق هي بحد ذاتها إحدى أكبر مآسي الوضع الراهن.
إن الفساد قد انتشر في مفاصل الدولة والدوائر وبين الشرطة خلال المرحلة الأخيرة من عهد صدام، أما الفساد من أعلى، أي العائلة الحاكمة والحاشية المرفهة، من نهب المليارات والممتلكات، فقد رافق كل مراحل النظام البعثي المنهار، كما انتشر أيضا في سوريا البعث. لكن المرحلة الأخيرة لذلك العهد شهدت انتشار الفساد على أوسع نطاق بحيث ما كان ممكنا تسجيل دعوى سرقة لدى الشرطة إلا برشوة، ولا تمشية معاملة في دوائر الدولة بغير رشوة تطلب علنا. أما فضيحة الكوبونات، التي رشت حكومات وسياسيين وبرلمانيين وصحفيين من العرب والأجانب، فإن ذيولها مستمرة رغم جهود كوفي عنان للطمطمة الملتوية.
ترى كيف عالجت المسألة حكوماتنا المتعاقبة منذ سقوط ذلك النظام؟
لقد استمر الفساد وانتشر، وصارت أشكال منه "قانونية"! وأصبحت ملايين الدولارات بل المليارات تختلس وتبذر، والقصور والمباني الحكومية تنهب. إننا نسمع ضجة عابرة مرة ضد هذا السياسي أو ضد آخر، ولكن بلا تحقيق قضائي محايد ومتابعة، وأصبحت قضية النزاهة، الموضوعة لجنتها تحت سيطرة المجلس الأعلى، مجرد لعبة وأداة في المناورات والخصومات السياسية وتستعمل لتصفية الحسابات وليس للتحقيق النزيه وتقديم المسيئين للقضاء، كما يجري في كل الدول الديمقراطية، رغم أن حالات الفساد المالي هناك محدودة والمبالغ المتلاعب بها تبدو شديدة التواضع بالمقارنة مع الفساد في بلدنا الغني والمدعوم بالمليارات الأمريكية والدولية السخية؛ هذا البلد الذي خربته الحروب والقهر والقمع والإرهاب، وما يزال محروما من الكهرباء، وإذ القمامات تملأ الشوارع، والمجاري الفائضة تكتسح كل مكان.
سمعنا مثلا الكثير جدا عن قضية السيد وزير الدفاع السابق والضجة حولها. ولكن هل جرى تحقيق صارم ونزيه؟ ولو صحت التهم، فكيف لم تجر محاكمة للمتهم؟ قلت لصديق صوت للائتلاف إن الحكومة البولندية تشكو رفض الحكومة تسلم الطائرات المتعاقد عليها زمن السيد الشعلان. فهل صحيح؟" كان جوابه " إنها سكراب"، فطلبت منه دليلا على دقة التهمة فلم يحر جوابا. لست في معرض نفي التهمة، فمعلوماتي قاصرة جدا، ولكنني في معرض كيفية الأداء والممارسة في هذه القضية التي هي من أكبر القضايا المثارة عن الفساد حيث نسمع ضجيج اتهامات وتصريحات نفي دون أية متابعة قضائية على حد علمنا.
يا ترى عن أية ديمقراطية برلمانية يتحدثون بينما طاعون الفساد منتشر، والخدمات منهارة، والمليشيات الحزبية منفلتة، والمناورات والخلافات الحزبية والمذهبية ملتهبة؟! نعم في الهند فساد ولكن الهند وإن لم تكن من الرقي الديمقراطي كدول الغرب فإنه لها قضاء وحكم مؤسسات وسيادة قانون وذات صحافة حرة. فعن أي عراق نتحدث، وهو الذي مطلوبة له معالجة مخلفات النظام البائد، والسير التدريجي في حل مشكلة الخدمات والتعمير، ووضع أسس الديمقراطية العصرية المدنية وليس "الديمقراطية" الإسلامية في عهد يسوده طاعون الطائفية المزدوجة، السياسية، والدينية من المذهبين؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية بفرنسا.. ما مصير التحالف الرئاسي؟


.. بسبب عنف العصابات في بلادهم.. الهايتيون في ميامي الأمريكية ف




.. إدمان المخدرات.. لماذا تنتشر هذه الظاهرة بين الشباب، وكيف ال


.. أسباب غير متوقعة لفقدان الذاكرة والخرف والشيخوخة| #برنامج_ال




.. لإنقاذه من -الورطة-.. أسرة بايدن تحمل مستشاري الرئيس مسؤولية