الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فضاء لطيور الموْت - قصّة واقعيّة بحلقات (10)*

محمود الخطيب

2017 / 3 / 12
الادب والفن


(10)

في الجبل، الوضع هادئ، والتحرّك الإسرائيلي ينحصر باستخدام الآليات للطريق العام من، وإلى، بيروت بدون التوقف، أو التمركز، في القرى التي تمرّ فيها. وبدا لي كأنَّ ثمة "تفاهماً" في هذا الشأن فيما بين القوات الغازية وأعيان القرى ومسؤولي قوات الحزب التقدمي الإشتراكي الذي وقف الى جانبنا منذ بداية الحرب الأهلية، ولا يزال.
وعلى ذلك، شوهد التواجد العسكري الإسرائيلي على الروابي والتلال ومحاور الطرق الخارجية الرئيسة في المنطقة. أمّا القرى، فكانت خالية من أي تواجد عسكري، باستثناء مدينة عاليه التي حوّل العدو ساحتها الى نقطة تمركز. وكان خلوّ عرمون والفساقين منهم يبعد عيونهم عنّي وعامل اطمئنان بالتسبة اليّ، ولكن مشوباً بالحذر من أن يدلّهم أحد ما ممّن يعرفونني أيام عملي في بيروت.
وأتاح لي الهدوء، والضجر، الإنخراط في قعدات الرجال، التي تعقد عادة في العصاري حول أباريق الشاي أو "قرعات المتّي" للتسلية ولتبادل الهموم والشكوى من البطالة العامّة التي فرضتها الحرب على الرجال دون أن يعثروا على إجابة تنبئ بفَرَجٍ قريب.
ولم أكن أقل منهم همّاً، بل أكثر. فهم، في أسوأ الظروف، ما زالوا في ممتلكاتهم ويموِّنون من أرزاقهم ما يسدّ احتياجاتهم الأساسية طوال فصول السنة, أمّا أنا، فيا حسرتي! بيتي على بوليفار طيّرته الحرب من بين يديّ: نهب الجيش السوري محتوياته قبل رحيله، وبعده قامت المليشيات المسيحية باحتلاله. والشقة في الفاكهاني، التي اشتريت خلوّها من رجل كان يحتلها، سيعود صاحبها قريباً، بعد أن رحل الثوّار، ليطردنا من البناية ويستردها بالقوة دون أن يوقفه أحد. وبيتي الذي أسكنه حالياً هنا سينتهي عقده بعد شهرين، وينبغي أن أدفع ايجاره في أول كل شهر إذا أردت البقاء فيه، وأنا الآن بلا عمل، وتوقف راتبي مع رحيل "فلسطين الثورة"، فماذا سأفعل؟
وعحضر في ذهني مركز الأبحاث الفلسطيني الذي اتُفق على بقائه واستمراره في العمل من بيروت، لكنه توقّف عن العمل حتماً في أثناء اجتياح المدينة؛ ولا علم لي بالعاملين فيه إن كانوا لزموا بيوتهم، أو غيروا أماكن إقامتهم، أو ربما تعرضوا للإعتقال. وطالما بقي الإحتلال جاثماً على المدينة وعلى صدور أهلها، فلن تتاح لهم العودة الى المداومة في العمل، ،ولن تقوم للمركز، بعد اليوم، قائمة. وفيما بعد، سمعت في الأنباء أن قوّة إسرائيلية اقتحمت المركز باسلوب الخلع والكسر، وقامت بإتلاف محتويات المكاتب، ونهبت كامل محتويات المكتبة والإرشيف من كتب ومراجع ووثائق وأفلام، وحمّلتها في الشاحنات. وقبيل مغادرتها، قام الجنود بملء الجدران بالشتائم المقذعة والكلمات البذيئة التي يخجل المرء من سردها.
بتاريخ 1982/9/27، بدأت القوات الإسرائيلية بالجلاء عن بيروت الغربية وعن مرفئها، وحلّت مكانها وحدات من الجيش اللبناني. وانتشرفي مخيّمي صبرا وشاتيلا وبعض المناطق المحيطة الجنود الفرنسيون والإيطاليون المشاركون في القوات متعددة الجنسية.
أمّا إخلاء المطار، فقد استدعى عقد اجتماع ثنائي بين المبعوث الأميركي موريس درايبر، وقائد القوات الإسرائيلية، امير دروري، اتُفق خلاله على ان يتمّ الجلاء في اليوم التالي (1982/9/28) بعد أن اشترط الجانب الإسرائيلي بقاء "وجود رمزي" و"جهاز فنّي" مع "الحق" في استخدام
المطار عند الحاجة. كما طالب بالإحتفاظ ب"مركز سياسي" و"مركز اعلامي" و"مركز عسكري" في بعبدا.
بعد الإنسحاب الإسرائيلي، عادت الحركة والأعمال تدريجياً الى المدينة التي أصبحت، جغرافياً، موحّدة غير مشطورة نصفين، غربي وشرقي. وخلال شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1982 جرى ترميم مركز الأبحاث، وأعيد تأثيثه، وبوشر العمل فيه من جديد.
كان المركز مؤسسة من مؤسسات منظمة التحرير، يخضع لقوانينها، ويموّل من خلال الصندوق القومي، والعاملون فيه يدرجون على ملاكها، ويتم توظيفهم بموجب قانون المحاصصة بين التنظيمات، والحصة الأكبر ل"فتح". أمّا "فلسطين الثورة" التي كنتُ أحد كوادرها، فهي صحيفة فتحاوية قلباً وقالباً وخارج ملاك م. ت. ف. ولا علاقة بينهما. وليست عبارة "الصحيفة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية" التي كانت تلازم عنوان الصحيفة في كل عدد من أعدادها، إلاّ حاصل "عملية سطو" قمنا بها برضى، أو بتشجيع، "أبو عمّار"، وتبقىعلى ما هي عليه طالما .بقي هو راضياً علينا.
وكان التواصل المهني بيننا وبين المركز شحيحاً، وبالنسبة اليّ كان، حتى تاريخه، معدوماً. لم أدخله ولا مرّة بسبب بعده في "راس بيروت"، ونحن في مربع الطريق الجديدة والفاكهاني. كنت أسمع باسماء بعض العاملين فيه وأقرأبحاثهم، ولكن دون أن ألتقي بأحد منهم.
قرابة آخر تشرين الأول (أكتوبر) ذهبت الى المركز والتقيت، لأول مرّة، بمديره العام الباحث صبري جريس. قدّمت نفسي اليه للتعارف، فوجدت ترحيباً، وسألني لماذا لم أرحل مع الراحلين؟ فأجبته بأنني أحمل الجنسية اللبنانية وأفضل البقاء طالما لي حق البقاء في ،لبنان. واستطردت: "ولكنني أصبحت بلا عمل، وهذا سبب مجيئي، لأرى إن كان لي مكان عندكم؟"
قال:
- جئت في الوقت المناسب. لدينا شاغر ملائم إن كنت ترغب فيه.
سألت:
- وما هو؟
أجاب:
- رئيس تحرير ل"اليوميات الفلسطينية". رئيس التحرير السابق اضطر، مثل غيره، للمغادرة الى الأردن.
- ومن هو؟
- هي، انعام عبدالهادي، زوجة ماجد أبو شرار.
فخطرعلى بالي دون تقصّد المثل القائل "مصائب قوم عند قوم فوائد."
- ها؟ موافق؟ سأل.
لست بحاجة الى السؤال، موافق.
- إذاً، سنوقّع عقد العمل الآن، ويبدأ في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) 1982، ويظل صالحاً الى أن يأتينا قرار تعيينك على ملاك المنظمة من "أبو عمّار"، ولن يأخذ ذلك وقتاً طويلاً.
واستدعى السكرتيرة، فجهّزت العقد، ووقعناه معاً، ثمّ أخذت نسختي، .وتصافحنا على أن نلتقي في أول الشهر.
وقبل أن أغادر، قال:
- سيكون مكتبك في انتظارك.
وهكذا صار. دخلت المركز مستكشفاّ عاطلاً عن العمل، وخرجت منه رئيساً لتحرير "اليوميات الفلسطينية".
___________________
* التواريخ والأرقام تمّ اعتمادها من "لبنان 1982: يوميات الغزو الإسرائيلي، وثائق وصور"، المركز العربي للمعلومات، توزيع دار الأندلس،بيروت، لبنان، 1982.

(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟