الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التقدمية وخيبة الامل الحديثة

ساطع هاشم

2017 / 3 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


نعيش اليوم في مجتمع عالمي قائم على المال والنقود والاسغلال والابتزاز المنظم , ولا يوجد اي امل في امكانية تغيير هذه الحالة لاقريبا ولابعيدا او على الاقل في خلال الاجيال الحالية , لقد تسمر العالم في نظام العملة والنقد الذي اسسه الغربيون كمعيار ثابت لكل فعل اوعمل ، وقد غابت والى الابد طموحات الثوريين الاوربيين في خلق عالم مثالي تسيطر عليه طبقات العمال والصناعين الفنيين والعلوم والفنون والاداب الانسانية , هذه الافكار التي كانت منتشرة بقوة قبل مئة سنة , عندما كانت نظرية ماركس (كلية الجبروت لانها صحيحة) كما بشر وكرر لينين وردد الرفاق من حوله في كل مكان , وكانت انذاك فعلا صحيحة لانها لم تكن قد جربت بعد ولم يختبر احد قدراتها وواقعيتها , وبعد التجارب في عشرين دولة , خاب الامل , وانطوت النفوس كالافاعي على نفسها , بعد افلاس العقائد والايدلوجيا التي كانت قد اوجدتها ذات يوم , وزاد تأثير الجشع والاستغلال وحروب الامم القوية على الضعيفة , واصبحنا اشهر ضحاياه.
الثورة الصناعية التي انطلقت في اوربا اوائل القرن التاسع عشر هي التي خلقت الراسمالية وهي التي خلقت الاشتراكية والفوضوية والاشتراكية الديمقراطية والقومية والفاشية والنازية وعشرات اخرى من الايدلوجيات المختلفة , وخلقت جيوش من العمال والصناعيين والفنيين والعلماء والاف المهن الصناعية الجديدة ورفعت مستوى التعليم بين عموم طبقات المجتمعات الاوربية وقادت مجتمعاتهم نحو الازهار ، ولم تتحقق إلى الآن عندنا , وإنما ما تم في المئة سنة الأخيرة هو استيراد للتكنولوجيا الغربية بفضل الاستعمار وليس إنتاج لهذه التكنولوجيا وهناك فرق شاسع بين الاثنين , وهكذا فقد اصبحنا بفضل نظام النقود العالمي المنظم واندحار نظرية ماركس (كلية الجبروت) , مصدرا للعبودية وللمواد الخام , ومنتجين هامشيين نعيش بعقلية ماضينا المتخلف ونستخدم احدث المكائن .
واذا نظرنا الى هذه الافكار والنظريات من وجهة نظر افكار ماركس وانجلز ولينين فيمكننا القول بأن
الماركسية استندت في بحثها الى العلم الاول (الكلاسيكي – النيوتني) فكان ذلك سببا رئيسيا في تحقيقها النجاح الدولي المعروف , بينما استند اعدائها ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الشق الثاني (العلم الحديث - النظرية النسبية وفيزياء الكم) في محاربتها وقد حققوا النجاح ايضا – وهذه مشكلة ايدلوجية متشعبة اكثر منها علمية مختبرية ومن الصعب البحث فيها في مقالة قصيرة كهذه , والاتفاق على ايهما الغالب والمغلوب اصعب من ذلك بكثير , لان نظريات العلم الحديث من التنوع والسعة بحيث لايمكن لاي عقل ايديولوجي مهما بلغ من العبقرية والنضوج استيعاب او تأويل ولو بعض من هذه النظريات باجزائها الرئيسية بعمق ,وقد تنبه الى ذلك ستالين بشكل مبكر عندما وافق على التضحية بالنظرية الماركسية في سبيل القنبلة النووية ,التي تصمم وتنتج ليس على اساس المادية الديالكتيكية وجدليات انجلز والنزعة القومية والنزعة الايدلوجية في العلم لرئيس اكاديمية العلوم السوفياتية لينسكو الذي عرف عن طريق الدوغما كيف يوفق بين المادية الديالكتيكية والنظريات البيولوجية والفيزيائية , وكل من عارضه فهو مهرطق وعدو للاشتراكية , بل على اساس فيزياء الكم والنظرية النسبية ,هتين النظريتين التي اعتبرهما ستالين لاغيره من النظريات البرجوازية والتي تعارض المادية الديالكتيكية ومبادئ لينين المادية وتشككان في صحتها ,ولهذا السبب الايدلوجي فقد امر بايقاف الابحاث العلمية الخاصة باليورانيوم والانشطار الذري والفيزياء الذرية عموما في مختبرات اكاديمية العلوم السوفياتية منذ بداية الثلاثينات ثم عاد وتراجع بعد ذلك عندما وصلته الاخبار السرية من داخل مشروع مانهاتن الامريكي لانتاج السلاح النووي مع بداية الحرب العالمية الثانية عن طريق العالمين الشيوعيين الالماني كلاوس فوخس والعالم الايطالي برونو بونتيكوفو ,وقال في اجتماع للمكتب السياسي : لقد بدأو بالعمل فعلينا ان نبدأ نحن ايضا - وقد قصد في كلامه هذا الامريكان والانكليز - وعندما ذكّره العالم ايكور خورجاتوف المؤسس الحقيقي للبرنامج النووي السوفياتي , بان ذلك قد يتعارض مع النظرية الماركسية قال له : ايها الرفيق نحن في حالة حرب , في هذه الحالة فان القنبلة اهم من النظرية .
وقد اكتشف الامريكان والانكليز هذين العالمين (العميلين ) سنة 1951 وقامت المخابرات السوفياتية بتهريب بونتيكوفو وعائلته الى الاتحاد السوفياتي وبقي يعمل هناك حتى وفاته سنة 1993 اما كلاوس فقد قضى تسعة سنوات بالسجن واطلق سراحه سنة 1959 وغادر الى المانيا الديمقراطية بعدها ولعب دورا كبيرا في مساعدة العلماء الصينين على انتاج القنبلة النووية , وقد مات سنة 1988, وقصة ستالين مع القنبلة النووية والعلماء السوفيات , جديرة بان تعرف بتفاصيل اكثر , نظرا للتناقض الذي احدثته في بنية العقل الماركسي السوفياتي , ومن ثم تاثيرها اللاحق على السلطة والدولة وانهيار الاتحاد السوفياتي
هذه هي بعض ملامح الثورة الصناعية والعلمية والتكنلوجية الحديثة ببعديها القديم والجديد كما نراها اليوم مجسدة في الصراع الدولي العاصف في عالم ما اصطلح عليه دوليا بالعولمة . واليوم حيث يتفاخر كل عصر مر على الانسانية الحديثة خارج شرقنا المتخلف , بانه يختلف عن بقية العصور وانه افضل من سابقيه , فان واقعا اخر يقول ان بعض العصور التاريخية رغم تباعدها الزمني الا انها تتشابه بشكل كبير , خاصة في اوقات انحطاطها وهمجيتها , وتاريخ العراق الحالي والشرق الاوسط عامة نموجا لهذا التشابه مع ماضيه .
فخلال هذه الالاف من السنين التي مرت على بلادنا فقد ترسخت التقاليد في كافة ميادين الحياة عبر احياء مستمر وتوسيع وتطوير للاشكال والافكار القديمة البالية , لهذا فان استمراية التقاليد واعادة انتاج الصفات والاشكال القديمة للازمنة القديمة , وقدرتها على المحافظة والثبات , ورفض القبول بالتاثيرات الجديدة والمرونة مع الحضارة المعاصرة , والتحرر من اسر الخرافات والامية والجهل والاساطير التي تعج بها ادمغة هذا الخلق الاعزل هي اهم مايميز مجتمعنا في الحاضر , وكما يتجلى في الاتحاد القائم اليوم بين الدين ورجاله والميليشيات والجيش والاستبداد والسلطة , فهذا هو اصل المصائب القائمة اليوم في مجتمعاتنا التي ركبها الفقهاء الاسلاميون واستغلوا كل شئ لتحقيق سفالاتهم.
هذا هو تراثنا وتاريخنا وهويتنا الوطنية في ظرف عالمي غريب , يستعمل الان لاغراض السياسة الرجعية وتكريس التخلف , على يد الطغاة الجدد والمدعومين من اقوى الامم والصاعدين على اشلاء موتانا , بعد ان شوهوا التاريخ وحرفوه بما يتناسب مع ايدلوجيتهم الرجعية المستمدة من النازية والفاشية الجديدة والقديمة .
يرجع الباحثون اصل هذا الداء الى الفرق بين عقلية الافراد في المجتمعات الزراعية / الفلاحية , وعقلية الافراد في المجتمعات الصناعية /التكنلوجية , في الاولى يميلون دائما الى اليقين والتقليد والافكار السرمدية المتوارثة وتأجيل الحلول وايداعها لدى قوى علوية لاحول لهم ولاقوة في تحديها , حيث كل شيئ يبدو لغزا لعقل ماقبل عصر العلم , لان الناس لا يستطيعون الاستغناء عن فكرة وجود اله خالق , فيناضلون بلا هوادة وحتى الموت في سبيل هذا اليقين , مفضلين الركود والجمود والتعاسة , اما في الثانية يعني في المجتمعات الصناعية فهم يناضلون بلا هوادة ضد هذا اليقين وتلك العقائد والتقاليد الازلية , واحدى اهم علامات المجتمعات الصناعية هو النفور من الغيبيات والخرافات , فتحرير الانسان لم يتحقق عندهم عن طريق انواع الايات الرحمانية ودجل المعممين والصوم والصلاة والصلاح وكتابات وخطب كما يجري على قدم وساق عندنا , بل تم عن طريق خلق قوى عاملة ومالية وصناعات وتكنلوجيا ضخمة , وهذه ليست قاعدة تنطبق على الجميع بدون استثناء طبعا بل على الاكثرية , فالولايات المتحدة الامريكية مثلا التي تعيش في عصر مابعد الحداثة , فان سبعين بالمئة من سكانها يؤمنون بوجود الرب ويذهبون الى الكنائس والمعابد والجوامع ولايعتقدون بقانون داروين للتطور , لكن ذلك لم يمنعهم من التقدم وقيادة العالم لاكثر من سبعين سنة لحد الان , فلهذا اسباب ليست موضوع حديثنا هنا , يتعلق بخصوصية تلك الدولة ذات القوانين المختلفة
ولقد قيل مرارا , بان الباعث على الهمجية الجديدة والمتجددة في العراق والتي اصبحت مثل ملامح لاتتغير في شخصيتنا وبناءنا العقلي والنفسي وكانها بديهيات واشياء بالطبع , هو سجون البعثيون ومجازرهم وحروبهم التي ادت في النهاية الى هزيمتهم وتدمير العراق , وهذا هو اكثر الاراء شيوعا وقبولا لحد الان لانه لايمزج بين ماض عتيق لايمكن اثباته , وحاضر غامض ملئ بالدسائس والمؤامرات الدولية الحديثة , ولكن ايضا يجب ان لاننسى فقد تجاوزنا الان ثلاثة عشرة سنة منذ ان سلم المجرم بول بريمر رقابنا الى رجال الدين ، من حثالة حزب الدعوة وقوات بدر والحكيم والمجلس الاعلى وغيرهم الكثير ، وجعلنا نرضع عار هزائمهم ومخازيهم والمحن التي جلبها علينا حكمهم الجائر

لقد اصبحت زيادة المفكرين العلمانيين واضحة في تشكيل العالم الحديث منذ منتصف القرن التاسع عشر وما بعده ولايمكن ايقافها ابدا , فهم يشكلون بنية التفكير التقدمي في كافة المجتمعات حول العالم , فهم ظاهرة مرتبطة بالثورة الصناعية والعلمية التكنلوجية ودورها التنويري منذ اكثر من مئتين سنة , وهي تكتسح بقوتها الان كل مجتمعات التخلف , لان حياة البشر على الارض تفرض عليهم التطور والتقدم المستمر , وهذا يعني ان الرغبة المتأصلة في الانسان نحو التجديد في هيكل المجتمعات , بل وفي جوهر الوجود الانساني ايضا , لابد لها من يوم للانعتاق من اسر الواقع الحالي وفساده العميق , وستنجح مستقبلا اية حركة حقيقية في سبيل الحرية في بلادنا , عندما يحين الوقت الذي يجب فيه ان تنجح , يعني ربما يكون زماننا هذا مازال بحاجة الى الاستمرارية وتكديس الخبرات وغير ناضجا للانتصار والنجاح بعد , وان شعلة برومثيوس مازالت في طريقها الينا ولم يصلنا منها سوى بصيص ضوء خافت , وهذا يتطلب وقف رجال الدين عن ايذائهم ونهبهم للناس اولا وقبل كل شئ , فهؤلاء ليسوا الا نموجا لصفات الازمنة القديمة التي مازالت تؤدي دورها الرجعي والهمجي القديم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل