الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإمتحان الشفاهي

عبدالله البقالي

2006 / 1 / 19
الادب والفن


هاهو يكسب نصف جولة و ينجح في اجتياز الإمتحان الكتابي في انتظار أن يخسر الجولة بكاملها
في كل السباقات التي خاضها ، كان دائما ذلك المتسابق الدؤوب لكنه بعد أن يقطع عشرات الأميال كان يفاجأ دوما بأن الإشارات مصرة على مغالطته . كل الشواهد التي نالها وجدها لا تصلح سوى لتغطية الثقوب و التصدعات التي تشكو منها جدران غرفته . لكن هاهو الآن ربما يجمل التأشيرة التي ستسمح له بمغادرة الحلقة المفرغة التي ظل أسيرها .
دفتر من فئة أربعة و عشرين صفحة ضمت سير أهم رواد الأدب الفرنسي . و أفكارا عامة عن أهم مميزات بعض المدارس الأدبية . لم يكن يعرف ما سيفعله لولا مساعدة ذلك الأستاذ . فخبرته العلمية بدت بلا جدوى و لا نفع
حل يوم الإمتحان . دخل القاعة . حاول أن يعطي انطباعا إيجابيا عنه من خلال مظهره . لم يجلس إلا حين طلب منه ذلك . تطلع إليه الممتحن ثم سأله بلغة فرنسية رشيقة : هيا عرفنا بنفسك .
حاول أن يكسب صوته طابع الثقة و الإتزان ثم أجاب : الفقير عبد الغني من مواليد بني وليد 1970
صمت الممتحن مدة ثم قال : أهذا كل شيء ؟ ... بالمناسبة لماذا لا يذكر جل المغاربة يوم مولدهم و يكتفون فقط بذكر السنة ؟
لم يتوقع عبد الغني سؤالا كهذا ووجد نفسه بعيدا عن دفتره السحري فرد متلعثما : أعتقد أن المرء حين يجد أن حياته لا قيمة لها ، ماذا يجديه أنذاك ذكر تاريخ بدايتها ؟ بل ماذا سيضيف هذا أو ينقص ؟
ــ لكن هذا أمر غريب بالنسبة لنا . فهذا اليوم مهم بالنسبة لنا لحد أننا نخصص لها عيدا كل سنة
ــ ربما يرجع ذلك إلى موقف المجتمع من الإنسان كقيمة
ــ طيب ، دعنا من هذا الآن ، هل تقرأ الكتب ؟
أحس عبد الغني بالفرحة وهو يحس أنه صار قريبا من صفحات الدفتر الذي يحفظه عن ظهر قلب و أجاب : بغزارة يا أستاذ
ــ حين تكون في مكتبة ما ، ما الذي يجعلك تختار كتابا دون آخر ؟
أحس عبد الغني أن الممتحن قد نحا بعيدا عن الدفتر . فكر لحظة ثم قال : أشياء كثيرة ليس أقلها أن أحس و أنا أقرأ الكتاب أني أحلق في فضاءات حرة لا أحتاج فيها إلى جواز سفر أو تأشيرة .
ــ وما هي أقاصي تلك الحدود ؟
فكر عبد الغني لحظة ثم أجاب مستفسرا الممتحن : هل قرأت قصة عنزة السيد "سوغان" ؟
رد الممتحن بحماس واضح : جميل ...ا أظن أن كل من مر بالمدرسة في الخمسينيات و ما بعدها لا بد أن يكون قد قرأ هذه القصة الرائعة . لكن لماذا ؟
ــ أتذكر حين فرت العنزة إلى الجبل و أطلت منه على بيت السيد سوغان ؟
ــ نعم . لقد بدا لها بيت السيد سوغان صغيرا جدا لحد أنها بدأت تتساءل كيف كانت تدخله
ــ هل تعتقد أن العنزة كانت مخطئة فيما ذهبت إليه ؟
ــ وهل في ذلك شك ؟
ــ ما رأيك إن أكدت لك العكس ؟
ــ هذا غير ممكن ...أ
ــ طيب . العنزة كانت في بيت السيد سوغان مربوطة بحبل . وحين كانت تتحرك فهي كانت ترسم دائرة . كم قطر هذه الدائرة يا ترى ؟ عشرون مترا ؟ أربعون ؟ خمسون مترا ؟ . الآن وهي في الجبل قد صارت حرة . ومعنى ذلك أن المعمور بامتداده هو ملك لها ، إذن إن قارنا فضاءها الجديد مع ذلك الذي كانت تتحرك فيه ألن يبدو الأخير أصغر مما بدا لها ؟
ــ آه ... من هذه الناحية فتحليلك أجده منطقيا . لكن ما علاقة هذا بما كنا نتحدث عنه من قبل ؟.
ــ أنا أريد أن أقول أني عشت مسارا معاكسا لذلك الذي سارت فيه العنزة . فهي انتقلت من فضاء ضيق إلى فضاء واسع ، وأنا انتقلت من فضاء واسع إلى فضاء ضيق
صمت الممتحن مدة ثم قال : صراحة أنا لم أفهم قصدك
ــ ببساطة يا سيدي حين كنت و أقراني على المقاعد في المدرسة ، كنا نعتقد أن مسؤوليات جسام تنتظرنا في المستقبل ، و أننا مطالبون برفع شأن هذا الوطن . من خلال تطوير الإقتصاد و رفع مستوى التعليم وغير ذلك . لكن بعد تخرجنا ضاق ذلك الأفق و ضاق ، وتركز كل تفكيرنا حول نقطة بسيطة ما كان يجب أن تكون هي المشكل الذي يجب أن نعاني منها
ــ هل لي أن اعرف هذه النقطة ؟
ــ إيجاد مصدر للعيش . وهكذا إن كنت أنت مختارا حين فضلت القدوم إلى هنا من أجل امتحاننا و كان أمامك خيارات أخرى غير هذه ، فأنا لم يكن أمامي أي خيار آخر
تأمل الممتحن وجه عبد الغني في صمت ، ثم قال مستفسرا : هل يضايقك وجودي هنا ؟
ارتبك عبد الغني قليلا ثم قال : لا ... ليس كليا .
ــ ما الأمر إذن ؟
ــ حين كنت صغيرا لم أعرف ماذا كان يعجبني في الأجانب أمثالك . هل احترامهم لبعضهم ؟ هل هي طريقة حياتهم ؟ هل هو التزامهم وجديتهم ؟ ... تصور أني كنت أتمنى لو كنت منهم .
قال الممتحن بانشراح واضح : ولما كبرت ؟
اختلط علي الأمر . ففي الوقت الذي لا زلت أقدر فيهم بعض الأشياء ، صرت أدرك أنهم مساهمون بقسط وافر فيما نعيشه الأن -
ــ وهل لا زلت تتمنى أن تكون واحدا منهم ؟
قال عبد الغني بتلقائية : لا ... لقد تغيرت الأمنية
ــ ماذا صارت ؟
ــ أن أجلس أنا حيث تجلس أنت ، و أن تجلس أنت حيث أجلس أنا . وعوض أن تسألني عن ألبير كامي و إميل زولا ، أسالك عن ابن خلدون و سيدي قدور العلمي . ألست الآن في بيتي ؟
امتقع وجه الممتحن فجأة ، ونظر إلى عبد الغني و كأنه لا يصدق ما يسمعه . أزاح نظارته عن عينيه وقال بازدراء واضح : أمؤهل أنت لبلوغ هذا ؟
أحس عبد الغني أن الأمر قد نحا به بعيدا . ومتأخرا حاول أن يستدرك الأمر فقال : عذرا أستاذ . أنا لم أقصد الإساءة إليك . على العكس من ذلك أنا كنت فرحا جدا حين علمت أنك أنت من سيشرف على الإمتحان لأنك قادم من بلاد الآفاق الواسعة و الأفكار الحرة
قاطعه الممتحن بلهجة صارمة : أسمعت سؤالي ؟ هل أنت مؤهل لامتحاني ؟
أخس عبد الغني أن النتيجة قد حسمت ، و أن كبراءه في الميزان فقال : طيب . ألم تقل في البدء أن العنزة كانت على خطأ ؟
ــ بلى
ــ ألم توافقني في الأخير على أنها كانت على صواب ؟
ــ بلى
ــ من الذي جعلك تغير رأيك ؟
رد الممتحن بتعال : أنا لم أغير رأيي ، أنا فقط وافقت أن أنظر للأمر من الزاوية التي نظرت أنت منها . وفي مسائل من هذا النوع لسنا مضطرين لاستعمال مقياس موحد
وقف عبد الغني و قال بأسى : فعلا أنتم لا تقسيون الأشياء بقياس موحد . ولطالما تمنينا أن تقيسونا بالمقياس الذي تقيسون به أنفسكم ولو مرة واحدة . ثم اتجه نحو الباب و عين الممتحن تلاحقه








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ


.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين




.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ


.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت




.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر