الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(Ann gui zdam) : مرآتي الأولى.

سعيدي المولودي

2017 / 3 / 17
الادب والفن


(Ann gui zdam)*
مرآتي الأولى

هنا ينام التعب العريق، يولي وجهه النحيب، وتبدأ الحياة موتها على شوارع مأهولة بالأرق والنسيان. لا حياة لمن يناديك أو تنادي. لا سرير في الأفق، ممرات غريبة تفيض باليأس، والأحزان الصدئة المكسوة بالعي واللذة المشبوهة، لا تخطيء الشمس مواعدها، لا يغيب البؤس عن عينيها، أية لحظة، في كل لحظة يعبر القهر المفتول بمهارة، يروح الغاشون ويغتدون، ويتناثر الغبار السقيم كالغيم المتساقط، ويتواصل الهلع، يصغي لكل الخطوات المشبعة بالدم...
قطعة من الليل.
قطعة من اليأس.
قطعة من البؤس.
ولون ضياع لا ينتهي، يفترش حذر الأشواك، هنا حيث الأطفال يسبحون في حانات من الخوف، وينشدون أناشيد مكسورة ما في الجبة غير القهر، يأتي دوما ويمسح دموعنا، ويضعنا في قلب كل هذه الصحراء المؤلمة:
مايْ دِّي تَكِّينْ إيزمْ.؟ ( من يلعب دور الأسد؟)
أشلاء متناثرة، مواجع مرصوصة، وأحلام مكسورة كزجاج المحطات وأبواب مغلقة. الماء الذي يجري على السطح يرنو من ستائر طليقة لينشر رذاذه وقلقه على تلك الطريق المؤدية إلى بئر الذكريات.. كانت هنا تنام الضحايا ملء جفونها، تسير يومها، حيث يأوي التعب إليها كالأشباح،الصمت يسري قريبا من الأقدام والسماء تمشي لوحدها، تسند هواها لجدران من طين بلَدي وأحجار عابرة تتناثر، أحيانا تتهاوى وتفتح شهوة الرماد الآتي...
لا ساحل هنا غير بساتين جاهلية مغلقة، تلتف حواشيها مسبوكة كضفائر من شوك، وأنت تمضي، تأخذك مسالك ودروب أضيق من سم الإبرة، أضيق من فسحة العيش،وتمحي الآثار في سراديب من قش وظلال وقشور وأوراق حافية سوداء مقرورة ترسم وجه الأرض الكالحة..
الأسماء، الأشياء، شاحبة كأقفاص الليل.
الممرات كئيبة، سوداء كريش الغربان، يركض الأنين في ثناياها، حيث الغبار يتعالى شامخا، ويهاجر في الملامح القاحلة المشرعة للهباء. الرياح التي تصرخ في فيء الخطو دائما في الانتظار، تأخذ كل تلابيب المكان بعيدا عن السراب، الظاهر الغابر، يغمر السطوح الموشاة بالعرق والألم والحنين البعيد.
يهبط الليل فيها مدرارا. والطيور ترعى نسيمها وتنفخ في صور الشقوق، حيث الوادي العميق يكبر مثلما تكبر المأساة.يستدير الفقراء إلى الجحيم الأسفل، ذكريات من خبز بلَدي وشاي وخيام مبتورة وأنعام سائبة تسترق أعشاب الطريق المتوحشة.
عادة عند ساحل الحزن تأتي الصبايا بأحلامهن اليابسة كالصخر، يرسمن موج الضفاف وسرايا الأوهام على حافة " العنصر"** الكعبة، المرتبع، الهاذي الذي يفتح ذراعيه لمعادن الإغراء.
ديار متهدمة، تسقط آناء الليل والنهار، تصغي لأنينها وتأخذ قسطها الأكبر من الدمار. والأطفال الحفاة العراة الجائعون يلوذون بغيم الغبار والضياع الذي ينحدر إلى هناك.
قرية من بيداء.
رسم من اليباب.
وجه من الغياب.
قبضة من سراب، توشوش الريح الموبوءة في مرابضها، وتتفسخ الديموقراطية فوق سطوحها الخشبية الكبيسة، وتتحلل في هواها التنمية المستدامة كالثياب العريضة الرثة. شواهد من أعشاش لقالق أوفياء، غرباء، تطلق زفير القيامة وتحتمي بقارعة النسيان..
النسيان سيد الأرصفة.
هل هذه البلاد غريبة إلى هذا الحد، لتدفن وهجها في أسلاك القهر.
زرقة النهار أنصع من كل شبر، من كل إيماءة ، وخطوات الجموع الصغيرة تلتف بثقلها الأمومي باتجاه الرعشات، إن البؤس مُواتٍ، ملائم حتى الانطباق، والفقر في هدوء ليلها ينام على أجنحة من رهبة، تؤوي الهضاب البليلة جدرانها، وبيوتاتها المسلولة، وشساعة الغابات في البرية ترفع صداها حيث تخوم الدوم تقتنص لونها الغريق، وتلبس مداها..
الطقس مثقل، كالرهبة، كالرعب، كآخر قطرة من العياء تلتف بالسواعد، السواعد الصماء، الصاعدة ك" السَلاَّح" *** كتف الأرض المتكيء على صدرها العاري يقرأ أساطيره الغائرة في التراب.
مفتاحها الموعود:بدو بسطاء مغلقون يمضون لضباب أسير، رُحَّلٌ منتشون قلقون يقيمون في العراء، أطفال مهجورون، متخلى عن تاريخهم، وأسمالهم، مهووسون بالفرح المغتال، يأكلون نبض التراب ويخلدون للموت الدائر.
كان لها الليل وما يزال لها.
هي التي لا تعرف وجه النهار وتجاعيده الزاحفة، تصفر في سمائها الوعود اليائسة كأنفاس على صهوة الريح، ولا تراها العين الساهرة الحامية للملة والدين، والطريق إليها ما تزال غير سالكة..
انتطرناك كثيرا أيتها المرآة العارية، نحن الذين كنا نفرح بأتعاب الطريق، والسوق البعيد، نجر جراحنا سائرين نحو عالم مكسور يلملم مآسينا الطويلة.
أيتها الجنة العزلاء ، تجري من تحتها الأوهام. لقد أنهكتنا الوعود التي لا تأتي، نحن حطب هذا الوقت، مثلك، نمضي بلا هدف. هذا إرثنا الطويل.
لا أحد يصغي لأوجاعك، أو يقرأ جوعك.
سلام على غبارك الذي يتبعني وتتجمع فيه قوافل الشبوب،
يا تاريخا من شجر وحجر جليل ، وحطب جميل.

*"آنْ كِّي زْدَمْ": ( أمازيغية) مكان الاحتطاب/المكان الحطيب.( القرية: المرآة الكئيبة الأولى التي رأيت فيها وجهي وتضاريس الوجود)
** العَنْصَرْ: ": ( أمازيغية) مورد أو منبع المياه الدائم.
***السَلاَّحْ": ( أمازيغية) الصخرة الصلبة والصلدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا