الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فضاء لطيور الموت - قصّة واقعيّة بحلقات (11)

محمود الخطيب

2017 / 3 / 19
الادب والفن


(11)
بموجب العقد المبرم ذهبت الى العمل في أول الشهر. ولدى وصولي رأيت مجموعة من النساء يقفن في الصف على الرصيف قرب الباب. وجندي مسلّح وضعه الجيش اللبناني بذريعة الحراسة يقوم بمراقبة الداخلين والخارجين دون أن يوقف أحدا. وعلى مسافى قصيرة منه حارس من عندنا يقف بلباس مدني وبلا سلاح لمنع وقوف السيارات بمحاذاة الرصيف. وداخل باب المركز، توجد قمرة بحجم صندوق قاطع التذاكر في دور السينما، لها شباك مفتوح يجلس وراءه موظف أمامه "سجلّ دوام" ومهمته مراقبة الداخلين والخارجين من العاملين وغير العاملين على السواء. وهو، أيضاً، بمثابة موظف استعلامات. ولضبط الدوام، على موظفي المركز، بلا استثناء، أن يسجّلوا في السجلّ أوقات دخولهم وخروجهم ويوقّعوا عليها. وفي حال نسي أحدهم، أو تعمّد عدم التوقيع، يقوم موظف الإستعلامات بإدراج الوقت مع ملاحظة "لم يوقّع".
كان من المفترض أن تكون دائرة "اليوميات الفلسطينية" في الطابق العلوي من المبنى. لكن تغييرات أُجريت، فأُعطيَ الطابق بأكمله لفريق من موظفي م. ت. ف. برئاسة الحاج طلال أبو غزالة (سفيرنا في قبرص لاحقاً) كلّفه "أبو عمّار" بالبقاء مؤقتاً لصرف رواتب لأُسر الشهداء ولأُمهات المقاتلين الذين غادروا ولم يقبضوا رواتبهم، ورواتب الشهر الأخير للمدنيين الذين بقوا في لبنان. والنساء اللواتي رأيتهن في الطابور لدى وصولي، وغيرهن لم يتوافدن بعد من مخيمات صيدا وصور وبيروت، هنّ المعنيات باستلام مخصصات أبنائهن، أو أزواجهن.
قيل لي إن دائرة "اليوميات ..." نُقِلت الى الطابق السادس من البناية المقابلة للمركز على الرصيف الآخر فوق الوكالة الليبية للآنباء، فذهبت الى هناك. وتبيّن لي لدى وصولي أن هناك دائرتين أخريين للمركز في الطابق ذاته، هما دائرة الطباعة التي يرئسها محمد النصر، ودائرة "رصد إذاعة اسرئيل" (نشرة يومية) التي يرئس تحريرها أحمد شاهين. وبقي في المركز الرئيسي، بالإضافة الى الحاج طلال ومجموعته، الطاقم الإداري وعلى رأسه المدير العام، ودائرة مجلة "شؤون فلسطينية" التي كان مدير تحريرها آنذاك فيصل حوراني، وضمنها يندرج الباحثون العاملون في المركز، ثمّ المكتبة التي نهبها الغزاة، وعلينا أن نعيد بناءها وتأهيلها من جديد.
على الصعيد الإداري، كان صبري رجل نظام في ما يتعلق بالدوام الذي يبدأ في الثامنة صباحاً وينتهي عند الثانية بعد الظهر، وانضباطياً في تنفيذه، وترك للموظفين هامش خمس دقائق لا أكثر من حريّة التأخر في الوصول بعد الثامنة، ومثلها في المغادرة قبل انتهاء الدوام، إذا سمح لهم رؤساء دوائرهم بذلك. وقد استغلّ معظم العاملين هذا الهامش لصالحهم، وضمنهم زوجته الباحثة حنّه شاهين، التي كانت تنزل ،أحياناً قبل خمس دقائق لتتسوق من المحلات الموجودة في الشارع، ثمّ تنتظر زوجها عند السيارة الى أن يترك مكتبه ويلحق بها.
وأنا، بدوري، ألتقي معه في الإنضباط، وبدوت لمن يعملون في ،دائرتي أكثر حزماً، إذ أخبرتهم أن هامش الدقائق الخمس لا يشملهم وعليهم أن لا يتأخروا عن الثامنة في الحضور، وأن لا يغادروا مكاتبهم قبل الثانية بعد الظهر، الأمر الذي أشعلاهم بالغبن وأثار في نفوسهم بعض التذمّر، لا سيّما عند الرجال, غير أن تذمرهم لم يسعفهم في شيء.
تصدر "اليوميّات ..." بتسلسل زمني مرّة كل ثلاثة أشهر، وبحجم كتاب من القطع الكبير. ويتضمّن العدد منها ملخّصاً لكل ما ينشر حول القضية الفلسطينية، ياللغات العربية والإنكليزية والفرنسية، في أهمّ الصحف العربية والعالمية، خلال الأشهر الثلاثة. ومهمّة هيئة التحرير هي ترجمة ما يستدعي الترجمة، ثمّ تلخيص المواد على نحو يحافظ على جوهرها، ويعاد تحريرها، وتوثّق حسب تاريخها ومصدر نشرها، وترسل بعد ذلك الى دائرة الطباعة. وحسب كميّة المواد يكون حجم العدد، وقد يفوق، أحياناً، الألف صفحة. وتعتبر "اليوميات..." مرجعاً هامّاً من المراجع في ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينية والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
باشرت العمل بالعدد المستحق عن الفترة السابقة الذي لم ينجز بسبب الرحيل واجتياح المدينة وتخريب محتويات المركز. كان طاقم عملي قليل العدد، لأن بعض أفراده غادر المدينة، ومع ذلك تابعت بالموجودين على أمل أن يتاح لي زيادتهم لاحقاً.
ثمّة نظام معمول به في المركز يقضي بأن لا يتمّ تعيين أحد في أي دائرة من الدوائر إلاّ إذا قبل به رئيس الدائرة. ولا أدري إن كان ذلك النظام قانوناً، أم عرفاً متفقاً عليه، وإن كنت أرجّح الأول، لأن المدير العام متشبث به ولا يتجاوزه، فهو، في الأصل، رجل قانون، مارس المحاماة لسنوات في فلسطين المحتلة قبل أن تبعده سلطات الإحتلال الى الخارج على خلفية نشاطه الوطني.
وذات صباح، دخل الى مكتبي رجلان طويلا القامة، فطرحا عليّ تحيّة الصباح، وصافحاني، وعرّفني كل منهما بنفسه: "أبو العبد يونس"، عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (عرفت فيما بعد أن اسمه الحقيقي يونس طه)؛ و"أبو هشام" مسؤول برج البراجنة في الجبهة الشعبية (لغاية الآن لم أعرف اسمه الحقيقي)، فرحّبت بهما، ودعوتهما الى الجلوس. قال أبو العبد:
جئنا الى الأخ صبري نطلب عملاً في هذا الوضع الصعب، فأرسلنا - الى رئيس دائرة الطباعة، محمد النصر، لعلّه يقبلنا مصححين أو مدققين، لكنه رفضنا.
قاطعته:
- هل أبدى لكما سبباً لرفضه؟
- قال إنه لا يريد فدائيين في دائرته.
- أحقاً قال هذا؟!
- نعم، هذا ما قاله لنا.
- غريب! بعلمي له جذور في حركة القوميين العرب، وكان، في فترة - سابقة، مدير تحرير صحيفة "الطليعة" الناطقة باسمها في الكويت، والحركة هي، لاحقاً، الجبهة الشعبية!
ردّ أبو هشام:
- لمّا وصلت للوظيفة نسي جذوره.
أكمل أبو العبد:
- المهم، عدنا الى صبري، وأخبرناه بما حصل معنا حرفياً.
- حسناً. وماذا قال صبري؟
قال لدينا فدائي مثلكما، اسمه محمود الخطيب، فاذهبا اليه لعلّه .يقبلكما عنده في "اليوميّات ..."، وها نحن عندك.
وصمت لحظة، ثمّ تابع:
- نحن لسنا محرريْن، ولكن يمكننا أن نكون.
في قرارة نفسي قدّرت، نظراً الى موقعيهما التنظيميين في الجبهة، أن تقدُّم كل منهما بطلب العمل يتجاوز، في الواقع، وضعهما المعيشي الى حاجة ملحّة لإيجاد غطاء وظيفي في مؤسسة فلسطينية موافَق عليها من الدولة يبعدهم عن عيون الملاحقة الأمنية اللبنانية مستقبلاً، لا سيّما بعد دخول
وحدات الجيش اللبناني الى الشطر الغربي بما فيه المناطق ذات الكثافة السكانية الفلسطينية. ورأيت أن الظرف الراهن يستدعي عدم التوقف عند "الخبرة المهنية" ومدّ يد العون لهما واجب. أمّا الخبرة، فيمكن انتظارها الى أن تتحقق مع الوقت، والرجلان، كما يبدوان لي، على قدر عالٍ من الثقافة، ولن يألوا جهداً في سبيل تحقيقها.
ورفعت سمّاعة الهاتف وقلت لصبري: الفدائي يقبل بالفدائييْن في دائرته، وسأعيدهما اليك لإجراء اللازم.
قال: أنا في الإنتظار.
أغلقت السماعة، وقلت للرجلين أن يذهبا الى المدير العام لينجز معهما اجراءات التعيين، وأضفت قائلاً: سيكون مكتبكما في الغرفة .المجاورة لدائرة الطباعة، لكي تلقيا التحية على رئيسها كل صباح.
فضحكا، وودعاني شاكريْن.

(يتبع)

*








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟