الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حِكاية شُرطيٍ ظريف

امين يونس

2017 / 4 / 5
الادب والفن


" محمد سلمان " من أهالي ويرانيا ، كان شرطياً في منتصف أربعينيات القرن الماضي ، شاباً ذكياً ذرب اللسان .. نُقِل من الموصل إلى زاخو ، تلك المدينة المُحاذِية لتُركيا ، النشيطة في التجارة والتهريب ، شأنها شأن معظم البلدات الحدودية . بضعة أسابيع كانتْ كافية ، لكي يُعْرَف الشُرطي محمد ، في أسواق زاخو ومقاهيها وأزقتها ، بِمَرَحهِ وسُرعة بديهته ..
سّلَمَ محمد ، على الحاج إبراهيم ، التاجر الغني المعروف ، الذي رّحبَ بهِ طالباً منه الجلوس ليشربا الشاي معاً .. أخرج محمد من جيبهِ مظروفاً قدّمهُ للحاج قائلاً : .. هذهِ الرسالة وصلتْني من أهلي في ويرانيا ، وكما تعرف فأنني لا أجيد القراءة بصورةٍ كافية ، أرجو أن تقرأها لي . فتح الحاج الرسالة وقرأها أولاً مع نفسهِ وهو يهزُ رأسهُ متعجباً بين الفينةِ والفينة .. ثم بدأ بتلاوتها على صاحبنا الشرطي محمد ، وكانَ فحواها كما يلي : .. نحنُ عائلتك الكبيرة ، مشتاقين لك ونتوق لعودتك ، ولا سيما أننا في إنتظار قرارك ، في إختيار إحدى بنات أعمامك ، لنزفها إليك ونفرح معاً ونُقيم عُرساً ضخماً سيكون له صدىً في المنطقةِ كُلها . نتمنى ان تُفكِر في العودةِ الى أهلك والإستقرار هنا ، والإلتفات إلى أملاكك وبساتينك الواسعة .. فها مّرَتْ سنتان على غيابك ، فما ذنب بنات أعمامك الجميلات ، حتى تتركهُنَ مُعّلقات ، فلا أحد يجرؤ على خطبتهُنَ وأنتَ ما زُلتَ عازباً ! . بل أن دكاكينك ومزارعك ، مُهمَلة ، وأنتَ خير مَنْ تُجيد إدارتها .
نتوسلُ إليك أن تنسى الخلافات البسيطة والمشاكل التافهة التي حصلَتْ سابقاً .. وتعود إلى أحضاننا .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
كان صاحبنا محمد ، يُقّطِب وهو يستمع إلى الحاج إبراهيم يقرأ عليه الرسالة ، ويُبدي إنزعاجه الواضِح . فقال لهُ الحاج : .. ما قصتك يا أخ محمد ؟ إلتفتَ محمد إلى الأشخاص المتواجدين في المحل ، ثُم أجاب راسِماً على محياه القنوط والحُزن : .. ماذا أقول لك ياعم حاج إبراهيم ؟ أنا من عائلةٍ معروفة ثرية .. لكن بعض الخلافات ، دَفعَتْني إلى هجرة بلدتي وأهلي ، ولقد قررتُ أن لا أرجع .. أرجو منك ان تكتب الجواب الآن ، وتقول لهم بأنني لن أعود ، ولتتزوج بنات أعمامي ! . حاول الحاج إبراهيم أن يقنعه بمراجعة نفسه والتفكير مَلِياً .. لكن مُحمَداً أصّرَ على موقفه . وأخذ الرسالة الجوابية من الحاج ، ثُمَ وّدعهُ وغادَرَ .
لم يمضِ يومانِ بالكاد ، حتى كانتْ حكاية الشرطي محمد ، مُنتشرة في أنحاء أزقة زاخو وبيوتها وأسواقها ، كإنتشار النارِ في الهشيم .
بعد أسابيع جلسَ صاحبنا محمد ، في مركز الشرطة وأخرجَ ورقةً وقَلَماً ، وبدأ يكتُبُ رسالةً أخرى ، شأن التي كتبها سابقاً وأرسَلها إلى نفسهِ ! . أكّدَ في المكتوب الجديد ما وردَ في الأول ، مُضيفاً شيئاً من التوابِل والبهارات ، ألصقَ بعض الطوابِع وكتب العنوان ، ثم أخذ طريقهُ إلى دُكان الحاج إبراهيم .
قرأ الحاج إبراهيم الرسالة .. فترجاهُ محمد أن يكتب الجواب ، ويخبرهم أنهُ قّررَ ان يتزوج هنا في زاخو ويستقر نهائياً .. ثم طلبَ منهم أن يُؤجروا الدكاكينَ والبساتين ، ويرسلوا لهُ حصتهُ كُل بضعة أشهُر .
....................
تعّمَدَ محمد أن يستدين مبالغ من التُجار ، على أن يُعيدها بعد إسبوع ... وفي اليوم السادس ، يقوم بالإستلاف من تُجار آخرين بعيدين عن الأولين ، ويُرجع ما أستدانهُ من المجموعة الأولى ، وهكذا دواليك .. فوثق به الجميع تدريجياً ، لاسيما وكُلهم يعرفون أنه ثريٌ وصاحِب أطيان وأملاك ! .
بعد شهور ، تقدمَ صاحبنا محمد للزواج من إبنة أحد وجهاء المدينة ، الذي لم يتردَد في القبول ، وفعلاً اُقيمَ حفل زفافٍ مُعتَبَر إحتفاءاً بالصهر الجديد .
كانتْ العروس حاملاً في شهرها السادس ، عندما كان محمد مُنشغِلاً في المركز بفتح البريد الوارد من الموصل ، والذي تضّمنَ أمراً بالموافقة على طلبهِ الذي كانَ قَد قّدمه منذ مُدّة ، بالنقل إلى مسقط رأسه ويرانيا ! . هرعَ إلى مأمور المركز الذي كانَ صديقه وشريكه في بعض المقالِب والإحتيالات ، وطلبَ منهُ أن يبقى أمر نقله سِراً بينهما ولا يخبر أحداً ولا حتى زملائه من الشرطة ! .
في الأيام التالية وضعَ محمد خِطةً مُحكَمَة ... فإستدانَ من عشرات التجار الذين تعاملَ معهم سابقاً ومن ضمنهم صديقه الحاج إبراهيم ، على أن يُعيد المبالِغ في الإسبوع التالي كالعادة ... ودفع لمأمور المركز المتواطؤ معهُ ، حصتهُ . صّفى متعلقاته في المركز وودعه ! .
قالَ لزوجته الحامِل ، أنهُ مُسافِرٌ في مُهِمّة وسوف يعود قبل موعد الولادة ، وطلب منها الذهاب إلى بيت والدها والبقاء هناك لحين عودتهِ .
بعد مرور إسبوعَين وثلاثة ، سألَ تاجرٌ كانَ قد أقرضَ محمداً ، سألَ والد زوجته ، عنهُ .. فأجاب أنه مُسافِرٌ في مُهّمة . وبعد أسابيع اُخرى من إختفاءه ، توجهَ بعض التُجار إلى المركز للسؤال عنهُ ، فأخبرهُم مأمور المركز ، أنهُ نُقِلَ إلى ويرانيا ! . فأسقط في أيديهم ، وإكتشفوا المَطَب الذي وقعوا فيهِ . وشرحوا للمأموركيف أنهُ إستدان منهم مبالغ وقّدموا شكوى رسمية ضد الشرطي محمد سلمان .. كتبها المأمور بحماسةٍ وتعهدَ أن يبذل كُل جهوده كي يستعيدوا حقوقهم " وهو يضحك عليهم في سِرّه ِ ! " .
سافر بضعة أنفارٍمن الذين كانوا قد أقرضوا محمد ، إلى ويرانيا ، على أمل إسترجاع أموالهم .. لكن مسعاهم خاب ، لأن محمداً كانَ موفداً إلى قريةٍ جبلية نائية .. وظهرَ أن روايته عن الأملاك والأطيان مُبالغٌ فيها كثيراً ... فعادوا كما يقول المَثَل ( وأيديهُم أطوَل مِنْ أرجُلِهم ) ! .
....................
كانتْ الزوجة المسكينة قد أنجبَتْ طفلتها الجميلة ، منذ أكثر من شهر ، حين ظهرَ محمد فُجأةً .. شرحَ لِحَميهِ بلسانهِ البليغ وأسلوبه المُقنِع ، الظروف الصعبة التي مّرَ بها في الآونة الاخيرة ، طالباً الصَفح والتفهُم ، مُبدِياً تمسكه بزوجته وطفلته .
ثم ذهب إلى السوق ، وبادرَ فوراً إلى مُعاتَبة أولَ تاجرٍ ، عتاباً شديداَ وبصوتٍ جهوري ليسمعه الجميع .. مُمتعضاً من شكواهم عليهِ في مركز الشرطة ، ووبخهم بطريقتهِ المُقنِعة ، حتى جعلهم يخجلونَ من أنفُسهم ! . ثم دفع مبلغاً ضئيلاً لبضعة تُجار " على الحساب " واعداً بأنهُ سوف يُسّدِد ما عليهِ لاحقاً حين مَيسَرة . توجَهَ بعدها إلى دكان الحاج إبراهيم القريب ، الذي كانَ قد إستمعَ إلى خطبتهِ العصماء وعتابهِ على التُجار . رّحبَ بهِ الحاج وقّدمَ لهُ كيس التبغ ليلف سيجارة ، وقالَ لهُ مبتسماً : أيها الخبيث ... بالنسبةِ لي شخصياً ، قد عفوتُ عنك .. لكن قُل لي بربِكَ ، ما حكاية الرسائل التي قرأتُها لك ؟ أجاب مُحمد ضاحِكاً : .. عزيزي الحاج ، أنا الذي كتبتُها وأرسلتُها إلى نفسي ! .
بقيتْ الزوجة في بيت والدها ... وغادر محمد الى ويرانيا ، وكان يأتي إلى زاخو بين حينٍ وآخر ليزور زوجته وإبنته ، حتى بعد زواجهِ من إمرأةٍ أخرى في ويرانيا ... ونسي أصحاب الدكاكين ديونهم ، تدريجياً .
رغم كُل الذي فعلهُ ، محمد ، في زاخو ... فأن أسلوبه المُقنِع ومَرحه ، جعلاه ، محبوباً ومقبولاً !! .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نظرة الغرب للثقافة السعودية تغيرت في السنوات الأخيرة


.. بدء امتحان اللغة الأجنبية الأولى للثانوية العامة..التعليم: و




.. عمرو الفقي: التعاون مع مهرجان الرياض لرعاية بعض المسرحيات وا


.. ثقافة البرلمان تشيد بتفاصيل الموسم الثاني لمهرجان العلمين وت




.. اللهم كما علمت آدم الأسماء كلها علم طلاب الثانوية من فضلك