الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فضاء لطيور الموت - قصّة واقعيّة بحلقات (13)

محمود الخطيب

2017 / 4 / 10
الادب والفن


(13)

كيف عرفت القوّة الأمنية اللبنانية بتوقيت الإجتماع لتشنّ عملية الدهم؟
سؤال راودنا غير مرّة دون أن نجد إجابة قاطعة عنه. كان لدينا شكوك ليس أكثر: لربما كان لها عيون بين صفوفنا! أو ربما لا نزال تحت مجهر "الشعبة الثانية"، لا سيّما بعد أن ترددت معلومات في أوساطنا بانها هي من يقف وراء السيارة المفخخة، وليس "الموساد" الإسرائيلي.
مهما يكن الأمر، كان يقيننا، في حينه، أن المداهمة استهدفت وضع نهاية لوجود المركز - المؤسسة في بيروت، وليس الأفراد العاملين فيه، بدليل عدم اعتقالنا، والإكتفاء بطردنا من المكان فقط.
غير أن الأفراد جاء دور ملاحقتهم بعد ذلك بوقت قصير. فقد جاءت لزيارتي، على غير العادة، "ع. ك." المحررة في دائرتي، من بيروت خصيصاً لكي تخبرني بأن الجيش يتعقبني، وينبغي أن أكون حذراً. سألتها من أين جاءت بالخبر؟ فقالت:
- قوّة من الجيش دهمت منزل "أ. ه." لاعتقاله، فلم يعثروا عليه. وبعد أن فتّش الجنود المنزل، سألوا زوجته عن عنوانك، فقالت لهم: لا أعرف. ولمّا انصرفوا، اتصلت هي بي وطلبت مني أن أحضر اليك لأبلغك بالأمر.
- شكرا لحضورك، وابلغيها، نيابة عنّي، جزيل الشكر على ما فعلت.
لم يكن الجيش حتى ذلك الحين في وارد الإقدام على إقامة حواجز له على شوارع ما كانت، الى وقت قريب، تعرف ب"بيروت الغربية" خشية الإصطدام بأحزاب الحركة الوطنية التي لا تزال مليشياتها قادرة على أن تكيل له الصاع صاعين وتطرده من مناطق تواجدها، فحبل الودّ مقطوع بين الطرفين منذ بداية الحرب الأهلية بسبب مناصرته للمليشيات المسيحية ودعمها.
لكن شهيّته انفتحت، مجددا، على الفلسطينيين إنطلاقاً، على الأغلب، من الإعتقاد بأن قوّتهم الضاربة قد ضُرِبَت الى غير رجعة، وحان وقت ملاحقتهم وإذلالهم مثل أيام ما قبل الثورة.
وعلى الرغم من أن عدم وجود حواجز طمأنني بصعوبة الوصول اليّ إلاّ في محض "صدفة نادرة"، فقد آثرت عدم النزول الى بيروت بعد ذلك اليوم، والبقاء حيث أنا في الجبل، الى أن أقرر أين سيؤول بي المقام. فهنا تخضع المنطقة بكاملها لسيطرة الحزب التقدمي الاشتراكي الحليف، ومحرّم على الجيش اللبناني دخولها.
في أيار (مايو) احتدم الصراع الفلسطيني، في سهل البقاع، بين حركة الإنشقاق (التي أطلقت على نفسها اسم "فتح الإنتفاضة") وبين حركة "فتح" الأُم، إذ بادر المنشقون بشنّ هجوم على قواتنا وتمكّنوا من السيطرة على كتيبتين من قوات اليرموك ومحاصرة مجموعات أخرى. ثمّ سيطروا بعد
ذلك على مقرّ قيادة القوات. وقد آزر المنشقين في حربهم علينا منظمة "الصاعقة" والجبهة الشعبية - القيادة العامّة (أحمد جبريل) التابعتان للنظام السوري، بالإضافة الى دعم القوات السورية النظامية المتواجدة في المنطقة.
وعلى الرغم من الوساطات العديدة التي بُذلت لحقن الدماء بين الطرفين، الاّ أن كل الجهود التي بذلت على هذا الصعيد لم تحقق غير هدنة هشّة، ما لبثت أن انهارت بعد فترة وجيزة، وعاد الاقتتال ليستعر أشدّ من ذي قبل، ممّا اضطر قواتنا الى الإنكفاء شمالاً نحو مدينة طرابلس.

* * * .
كان صيفي طويلاً ينوء بالإنتظار والضجر والحيرة، وبلا أفق ولا خيارات. وعندما كنت، في خلواتي، أسائل النفس "وماذا بعد؟" ينكفئ السؤال أمام تعذُّر العثور على إجابة.
سمعت في الأخبار أن "أبو عمّار" وصل طرابلس على نحو مفاجئ، وجعل من مخيّم البدّاوي مقرّاً له. خطر في ذهني: " لماذا لا أنتقل الى طرابلس وأخلص من كل هواجسي الأمنية هنا؛ فهناك قواتنا، والبيئة الحاضنةحليف لنا وآمنة؟"
قلت لزوجتي:
- أفكر بالإنتقال الى طرابلس.
فسألت:
- أيكون الوضع هناك أفضل.
حتى الآن، أجل. في أسوأ الأحوال، لا ننام بعين مفتوحة!
- حسناً، إن كنت ترى ذلك، فلنذهب.
- ذهب، أولاً، وحدي لأجد مكاناً نقيم فيه.
- وتتركنا هنا وحدنا ؟!
لزوجتي شقيقة، تصغرها سنّاً، متزوجة من ضابط فلسطيني في منظمة "الصاعقة"، وتقيم في درعا. قلت:
- لا. آخذك الى درعا، فتقيمين عند شقيقتك الى أن أستأجرمسكناً، ثمّ أعود لاصطحابك. فسرّت لهذا الإقتراح.
ولم ننتظر طويلاً. فخلال يومين حزمنا بعض الأمتعة وتوجهنا الى سورية، غير آسفين على ما تركناه وراءنا في منزل الفساقين، ولا في شقّة الفاكهاني.
كانت الطريق بعد "ضهر البيدر" خالية من الحواجز حتى الحدود اللبنانية - السورية. غير أننا شاهدنا تحركات عسكرية ل"فتح الإنتفاضة" والتنظيمات الأخرى المؤازرة لها بعد أن أصبح سهل البقاع تحت سيطرتها.
مكثت في درعا يومين، ثمّ عدت وحدي الى البقاع، ومن هناك توجهت شمالاً نحو الهرمل. على الطريق، توقفت على ثلاثة حواجز للمنشقين. على الحاجزين، الأول والثاني، كان توقفي قصيراً، مجرد سؤال: "من وين الأخ؟ ولوين رايح؟" وجواب: "فلسطيني من سكان مخيم نهر البارد". أمّا الحاجز الثالث، فقد أقامته على الطريق الساحلي مجموعة من المقاتلين في تمركز ثابت، وتبدو كأنها طليعة لقوات اقتحامية. وعلى الحاجز، فوجئت بزميل من وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) اسمه "أبو حاتم" يقف وبيده سلاح. وكما فوجئت به، فوجئ هو بي، وصافحني بحرارة. سألته:
- أراك صرت من جند "أبو موسى"؟
أجاب:
- أجل، التحقت به. وأراك لم ترحل مع الراحلين؟
- كلا، باقٍ في لبنان.
- صُفّ السيارة على جانب الطريق، وانزل نسقيك كبّاية شاي؟
- لا وقت لدي الآن.
- الى أين أنت ذاهب؟
فضّلت أن أكون حذراً معه، رغم معرفتي الطويلة به، فاختلقت من عندي:
- زوجتي تزور أهلها في "البدّاوي"، وذاهب لأخرجها من هناك قبل أن تحتدم معركتكم مع "فتح" عرفات.
- لا تتأخّر. ساعة الصفر لا تؤجّل. سلام.
- سلام.
وتابعت طريقي. في "البدّاوي"، سألت أحد المقاتلين عن مقرّ القائد :العام. فسأل بدوره:
- تقصد "الختيار"؟
- أجل.
مدّ ذراعه، وأشار لي باصبعه:
- أنظر هناك. أعلى بناية تواجهك، هي المقرّ.
فذهبت اليها مباشرة. وعند وصولي، فوجئت ب"راتب" الذي تركته في برّ الياس قبل عودتي الى بيروت المحاصرة حينذاك. كان يتجوّل أمام المقرّ وحيداً. صافحته:
- ها نحن نلتقي مجدداً!
- الحمد لله على سلامتك.
- ماذا تفعل الآن؟
- عدت الى "فلسطين الثورة".
- سمعت انها تصدر في قبرص.
- المجلة تصدر هناك. أمّا الجريدة اليومية، فهي تصدر هنا منذ وصول "أبو عمّار".
وأشار الى بيت أرضيّ عتيق بالكاد يبعد عشرة أمتار عن المقرّ.
- ومن يتولّى إصدارها؟
.رئيس التحرير، أحمد عبدالرحمن، هنا.
- وأين أحمد الآن؟
- فوْق، في الطابق الرابع. يقضي معظم يومه في مكتب "الختيار".
- حسناً، أنا صاعد اليه. انتظرني، لا تغادر. أريدك أن تساعدني في ايجاد مسكن.
صعدت الطوابق الأربعة. ولمّا رآني أحمد من قاعة الإنتظار نهض وتوجه نحوي، ومعه رئيس تحرير وكالة "وفا" زياد عبدالفتاح، فسلّم عليّ وأخذني الى الشرفة. قلت لزياد:
- لو تعرف بمن التقيت على حاجز للمنشقين.
= بمنْ؟
- ب"أبو حاتم"، مسلّح ويوقف السيارات.
- أين؟
-على الطريق الساحلي. فصار يضحك.
بعد الإستفسار المقتضب عن أحوالي خلال السنة التي باعدت بيننا منذ رحيلهم الى تونس، سألني أحمد إن كنت استأجرت بيتاً لأُقيم فيه، قلت:
- لا، فقد وصلت للتوّ. سوف أصطحب "راتب" معي الى المدينة، لعلّه يساعدني في ايجاد شقّة.
حسناً. وبعد ترتيب أمورك، تعال واستلم مدير تحرير الجريدة،وتولّى الإشراف عليها.
- ليس قبل الغد. وداعاً.
وأخذت "راتب" معي، فقادني الى محل تجاري في أول طرابلس يعرف .صاحبه، وسأله عن شقق للإيجار في المنطقة.
- لمنْ؟ سأل التاجر.
- لصديقي. وأشار راتب اليّ.
- تفضّلا بالجلوس. لحظة، وأعود اليكم.
وذهب الى المحل المجاور، وعاد ومعه رجل آخر. سألني الرجل:
- معك عائلة؟
- نعم. عائلة صغيرة.
- لديّ شقة في البناية التي أسكن فيها في حيّ الراهبات. الشقة قريبة من هنا، مؤلفة من غرفتين وصالون وغرفة طعام وفيها بعض الأثاث، ولكن .يمكنك استخدام الأثاث دون مقابل.
- هذا من حسن حظّي!
- كم ستطول إقامتك؟
- حسب الظروف والوضع الأمني. أدفع لك عن شهر مقدّماً، ويجدد مقدماً كل شهر طالما بقيت في المدينة.
اتفقنا على قيمة الإيجار، فدفعت له، واستلمت المفاتيح.

(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟