الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة بعنوان الكنز

جمانة القروي

2017 / 4 / 15
الادب والفن


الكـــــنــــز



حينما ادخل الغابة القريبة من بيتنا، في النزهة اليومية مع كلبنا الابيض الصغير، الذي لاينفك انفه عن شم الوحل وما تحت الاغصان اليابسة، التي تساقطت من الاشجار في فصل الخريف، ولا يكف عن نبش تلك الارض التي ذابت عنها اكوام الثلج بحوافره.
ثمة بقع من ازهار بيضاء وصفراء وبنفسجية تقف بالكاد على سيقانها الغضة في تلك الغابة بعد ان اخذت تعيد دورة حياتها في الربيع لتلوح لي بالفرح والتفاؤل. ما ان تطأ قدمي ارضها حتى اتخيل اشجارها كما لو انها بشراً، لا اعرف بالضبط ما الذي يدعوني لذلك! فاشبه الاشجار التي مازال عودها ضعيفاً لم يقوَ بعد كما الاطفال، واماثل من هرم وانحنت اغصانه الا انه ما فتيْ يكابد النوائب بهامته مثل الشيوخ، واضاهي بمن سقط على الارض وتحطم ولم يحتمل الاعصار او الرياح القوية كما بعض الناس الذين تلويهم المصاعب، وانظر باعجاب للاشجار اليانعة الباسقة واوازيها بالشباب الذين يقفون في مواجهة الحياة لا يهابونها ابداً.
إلا ان ما يثير ذكرياتي وشجوني، كلما رايت تلك الجذوع المتقطعة الاوصال، المتناثرة الاغصان، باشكالها المتنوعة واحجامها المختلفة، والارض تحتضنها احطاب يابسة، لا استطيع كبت مشاعري ورغما عني ياخذني الحنين، فاقلب البعض منها بين يديّ وابتسم او حتى اضحك بصوت لايسمعه سواي وبمسحة من حزن، فترغمني الذاكرة للعودة الى ثلاثين عاما مضت.
كان الربيع قد حل على وادي الخيول (كلي هصبة)* وانتشرت على سفحه الاخضر زهور الاقحوان الحمراء، كانها قطرات دم اينعت وروداً. عندما وصلناه اثر انسحابنا من ( كيشان)* وبعد نجاتنا باعجوبة من موت محقق، لم تكن تانيا ضمن من استقبلنا في غروب ذلك اليوم الذي كنت اجر فيه اقدامي جرا، بعد ان انهكتني صعوبة ومشقة الانسحاب لايام طويلة. حالما استعدنا عافيتنا ونلنا قسطاً من الراحة، توجهت مع باقي افراد سرية كيشان الى مقر (قاطع بهدنان)،* في مهمة استغرقت بضعة اسابيع، لنعود مرة اخرى الى كلي هصبة مقر الفوج الثالث.
كانت شمس الغروب قد كست قمة جبل متين بلونها الارجواني، وشارفت على لملمة اشعتها والرحيل خلف ظلمة الليل وحلكته، حينما وطأت اقدام مفرزتنا ارض الوادي، حيث ماء النبع الذي شق له طريقاً بين الصخورالصغيرة والتربة القاسية والدروب الملتوية، ليمد الموقع بالزلال الصافي. عند قعر السفح الذي بنى الانصار عليه موقعهم، رايت تانيا وهي تنزل منحدرة مرحبةً بي، فقد كنت قد تعرفت عليها قبل سنوات.
منذ تلك اللحظة اصبحنا صديقتين حتى ان البعض من الرفاق كان يدمج اسمينا كتعبير عن صداقتنا القوية. كثيراً ما كنا نتجاذب الاحاديث الطويلة، نستعيد ذكريات سنوات الدراسة، نساعد بعضنا في اوقات الحراسة او المبادرات الرفاقية.
اشتد الحر ولم يعد بالامكان المكوث في الغرف الطينية، عندئذ اقترحت تانيا ان تكون لنا كبرة* خاصة بنا نحن الرفيقات. تجولنا معاً لاختيار المكان المناسب لنا والبعيد نسبياً عن الفصيل، وما ان انتقينا المكان الملائم حتى شرعنا في اليوم التالي بتشييدها مع عدد من الرفاق الذين لم يهن عليهم تركنا لوحدنا، فساعدونا في تقطيع اغصان الاشجار وتركيبها بشكل صحيح فكنا انا وتانيا ننقل الاغصان الثقيلة والخفيفة الى المكان الذي اصطفيناه. حينما انتصف النهار كنا قد انهينا فرش الكبرة واصبحت جاهزة للسكن والنوم.
كعادتنا مساءا وبعد وجبة العشاء اجلس وتانيا عند الصخرة الكبيرة في اعلى الفصيل بانتظار سماع نشرة الاخبار وقراءة جدول الواجبات، يومئذ كان اسمي قد ذيل القائمة كحرس اخير والمناوب على الخدمة الرفاقية لليوم التالي. نظرت اليّ تانيا بتعجب وهمست لي "كيف ذلك، لا يمكنكِ ان تكوني في الخدمة الرفاقية غداً وانت لاتملكين حتى حطبة واحدة"! كلماتها الضنينة التي صبتها في اذني حيرتني، لم افهم قصدها فانا اجهل تماما متطلبات الخدمــة الرفاقية،لانها المـرة الاولى لي. لذا ســالتها بصوت خفيض" ماذا افعل اذن "؟ نصحتني بان اطلب من امر الفصيل ان يغير اسمي لليوم الذي يليه وبذلك يكون لي متسع من الوقت لجمع كمية وافرة من الحطب، وابدت استعدادها لمساعدتي، وهذا ما كان.
صباح رائق سماؤه صافية الزرقة،شمس تظهر وتختبئ خلف قمم الجبال ،عادت تانيا الى كبرتنا بعد انتهاء ساعة حراستها وهي تبتسم، تلك الابتسامة التي تدل على الارتياح والفوز بشئ ما! فقد ظفرت بكيسين كبيرين من اكياس الرز الفارغة . حثتني على النهوض والاسراع وهي تلوح لي بهما،وشبح الابتسامة مازال يطوف على وجهها الاسمر الهادئ. لم اكن اعلم ماذا تريد لكني نهضت ولحقت بها،دون حتى ان انبس ببنت شفة فثقتي بها كبيرة، اذ سبقتني بسنوات الى حركة الانصار، وعاشت كارثة (بشت اشان)* وخاضت معارك عديدة وقطعت مسـافات طويلة في المفارز. تبعتها وهي تتسلق امامي سفح جبل متين، في ذلك الطريق الملتوي والمتعرج والذي انتشرت حوله نباتات شوكية و صخور باحجام واشكال غريبة كما لو ان يدا نحتتها.
لا اعلم كم مر من الوقت ونحن نسير نحو افق مغلق بقمم الجبل الشاهق،كانت تانيا تغني وهي تتسلق تلك السفوح وتضحك بمرح اكثر كلما ابتعدنا عن الفصيل! لم يكن الخوف يعرف طريقه الى قلبها، وانا مثلها لم تكن تلك الكلمة قد دخلت قاموس حياتي. استمريت بالسير وراءها دون سؤال، لما اجتزنا مسافة اخرى التفت الى الخلف لارى ان موقعنا بات بعيدا جدا، عند ذاك سالتها مازحة" الى اين نحن ذاهبتين؟ أ لزيارة السماء "؟ رمقتني بنظرة من ركن عينيها،وندت عنها قهقهــة لم اتعودها منها وهـــي تقول" الى مكان الكنز"! ازددت حـيرة، اي كنز هذا في مكان تطغى عليه العزلة والوحشة، إي كنز هذا بين الصخور الكبيرة وجذوع الاشجار واغصانها الميتة؟ الا انني اقنعت نفسي بان الكنوز غالباً ما تكون في مجاهل الارض. توغلت تانيا اكثر بين مقبرة الاشجار تلك، غير ابهةً بثعبان يكمن خلف الاحراش، او ذئب جائع ينتظر بفارغ الصبر وليمة له ولقطيعه، او دبُ يتحين الفرصة حتى ينشب مخالبه في لحمنا، بل وقفت هناك كما لو انها آلهة ذلك المكان وسيدته.
خيم الصمت فلا شئ يخترقه سوى زقزقة عصفور بائس ضل طريقه، او سربُ من الحمام حلق بعيداً. تسمرت قدماي امام اكوام من جذوع الاشجار اليابسة المتساقط بعضها على بعض، واغصانها االمتشابكة والمتداخلة الواحدة بالاخرى. انتشلني ندائها لي وهي مازالت على مرحها قائلة " اقتربي فهنا يكمن الكنز"!
دفعني فضولي الى التقدم خطوات اخرى لرؤية الكنز الذي تخبئه، او ربما عثرت عليه هنا وخصتني انا بمعرفة سره، استفحلت الهواجس والشكوك في نفسي وانا ادخل ذلك المكان متوقعةُ ان ارى اللؤلؤ والالماس والذهب في صندوق من القطيفة الزرقاء او الحمراء كما في الحكايات والقصص.
عندما اصبحت قربها تماما ادرت راسي يمينا ويسارا، كي ارى الكنز، ولما لم اجد ما يدل على وجوده سالتها عنه، واذا بها تنحني وتجمع حزمة من اعواد يابسة صغيرة،وتلتقط قطعة من جذع جاف، ثم تشير بيديها الى تلك الاكوام من الحطب الممدد على الارض، وهي تقول " إلا ترين ؟ هذا هو الكنز، هذه هي الجواهر والمرجان "!.




*كلي هصبة ، وادي الخيول :يقع تحت جبل متين وكان موقع الفوج الثالث لانصار الحزب الشيوعي في عقد الثمانينات من القرن الماضي.
*كيشان: مقر للانصار الشيوعيين يقع على الحدود التركية العراقية، بمثابة نقطة عبور لهم،وقد جرت فيه مصادمات مسلحة في 2/ نيسان /ابريل من عام 1985 ، مما اضطرنا للانسحاب لايام عديدة في مناطق وعرة وغير مأهولة، وقد كاد ان يباد الفصبل كله من العطش والجوع والتيه.
*قاطع بهدنان : قاعدة عسكرية لقيادة الانصارالشيوعيين، كان يقع على نهر الزاب.
*الكبرة .. هي بناء صيفي متكون من اغصان الاشجار يستعمله الفلاحون في كردستان للهروب من الحر .
* بشت اشان : مقر للقيادة السياسية والعسكرية للحزب الشيوعي العراقي يقع في حوض جبل قنديل .

















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا