الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لم أصل بغداد الا أمس!

دعد دريد ثابت

2017 / 4 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


بعد خمسة عشر يوماً من قدومي لبغداد، وصلتها أمس. ولأول مرة بحياتي أزور شارع المتنبي.
أوصلني خالي الحبيب خليل الى بداية شارع المتنبي بسبب حاجة كان عليه أن يقضيها وأدلني كيف أصل وأوصاني أن أسير ببطئ حتى يلحق بي بقهوة الشهبندر وهي قهوة قديمة قدم الذاكرة المنفية، للقاء أصدقاء الفيس كما تمنيت.
وأنا أسبح وأغوص بجموع الناس وروائح عرق كدحهم وآلامهم وخيبات ظنهم وآمالهم، فقر المعتازين. إمرأة بعباءتها ملتحفة رصيف يبكيها وحدتها في وطنها وعازتها في شيخوختها، ولايخفف عنها غير سيكارتها وقنينة الماء، رجل مسن مقطوع الساقين، لن تقيه فيئ النخلات من حرمانه من أبناء لربما أستشهدوا بإحدى الحروب وماأكثرها في وطني، وإنما كرسي بلاستيكي يفترش كتبه، لعلها تقيه خواء البشر قبل المعدة. لا أعلم أكنت الغريبة أم هذه الجموع هم الغرباء، أم كلنا المنفيون.
سؤالي المكرر عن القهوة المقصودة، بالرغم من أنني لو تتبعت أنفي لكنت وجدته، لكن طبيعتي الحريصة على السؤال لمقتي الضياع، والذي علمت أمس ربما سبب هذا الخوف والمقت من الضياع. وصلت أخيراً لغايتي، ولكم أن تتخيلوا بمظهري وإمرأة تدخل لوحدها لقهوة يملؤها الرجال وإن دخلتها إمرأة فبصحبة رجل.
لم أتوان، بالرغم من صعوبة الموقف وأنني لا أعرف شكل الصديق العزيز ابو علياء الذي أتفقت معه باللقاء به هناك. ففكرت أن أدخلها وادور بين كراسيها وعيون الفضول والتعجب التي رافقتني. تفكرت لربما سيناديني، فهو يعرف شكلي. وحين لم أسمع أحداً، خرجت من القهوة، ليناديني رجل وقور، بإسمي ويعرفني بشخصه فعرفته، وتعرفت على حفيديه، لندخل القهوة ونشرب الشاي، ونستمتع بالأحاديث الرائعة، لحين مجئ خالئّ جليل وخليل. وصدف أنهم جيران وأصدقاء الطفولة والشباب، بالإضافة لمعرفته بعائلة والدي وبيتنا الأول في الأعظمية قبل ولادتي، خمسينات بغداد، حكايا جدي شياع، شارع الأمين، سعاد الصيدلانية، فلان فتوة السينما، وهكذا لتنهال الذكريات كمطر بغداد اليوم بعد قيظ وعواصف ترابية، فأبردت القلوب والأرواح بعد جفاف هذه الأرواح من حنان والفة الصديق والجار والنخوة ومبادئ الإنسانية التي لم تسأل سابقاً عن دين أو طائفة أو مركز أو ماتملك. فأغوص تارة وأخرى أحلق بعوالمهم، لأعيد لروحي التوازن الذي أضاعه شعبي بأكمله لتمتصه جزيئاتي بشغف، كجوع النحلة لرحيق أول ثوب ترتديه الزهور بمقدم الربيع.
وأختتمنا يومنا الفريد المتميز الأليف، بأكلة شعبية وهي كبة السراي، بمطعمه البسيط المتواضع وصور القدماء المعلقة في أنحائه وطعم الكبة واللبن الرائب المدخن لايزال عالقاً بتلابيب روحي، وذاكرة خالي خليل المميزة بتذكره الوجوه للشخوص وتعرفه عليهم، بالرغم من مرور عقود من السنوات على مفارقته لهم. كفاك أيتها الذاكرة أو ربما زيدينا من غذاء عذابك فهو مايجعلنا نحتمل مر واقعنا.
لا أعلم مدى وعمق مشاعري، أأضحك وأقفز كالطفلة أم أبكي الماً لما فقدناه. هذا كثير جداً عليّ. لأقرر الإستسلام والتخلي عن قوتي وعنادي وتكبري على الألم، فأتركني والأمواج لتغرقني إن شاءت، أو تصل بي لشاطئ أمين وإن كان مجهولاً. فمقاومتي لن تجدي نفعاً مع كل الحسرة ووجع الحرمان لأرض ومبادئ وشعب كان يوماً. ريما سيعود ولكننا بغير الإرادة والوعي والحرية لن نرى النور والكرامة ثانيةَ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس: ما مبرّرات تكوين ائتلاف لمناهضة التعذيب؟


.. ليبيا: ما سبب إجلاء 119 طالب لجوء إلى إيطاليا؟ • فرانس 24




.. بريطانيا: ما حقيقة احتمال ترحيل مهاجرين جزائريين إلى رواندا؟


.. تونس: ما سبب توقيف شريفة الرياحي رئيسة جمعية -تونس أرض اللجو




.. هل استخدمت الشرطة الرصاص المطاطي لفض اعتصامات الطلاب الداعمة