الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخروج من سجلماسة

محمود يعقوب

2017 / 4 / 17
الادب والفن


الخروج من سجلماسة *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


كل ذلك تلاشى ..
في رمشة عين اختفى وتلاشى .
كُنتَ غارقاً في لغطهم الماجن ، حينما غطّـت كف مساعدك الأول ظهرك ، ودفعت بك إلى جوف غرفة العروس بفظاظة .
دفعتك بعبارة لا تستحي ، حين كان يصيح عالياً :
« الآن ادخلْ واذبحْ البطّـة » .
كانوا داعرين ، تمعّجت الكلمات الفاحشة بين شفاههم . وقفوا برهة من الوقت يردّدون أهزوجة ، أرادوا أن يكون لها مفعول يضارع مفعول حبّـة الفياغرا الشهيرة .
« لماذا هم لحوحون هكذا » .
تساءلتَ في نفسك ، وأنت تفكّـر بأنهم يسعون لاستثارتك في هذه المهمة ، كما يستثيرونك في المهام القتالية الأخرى .
كنت حسّاساً حيال الكلمات البذيئة ، ولكن الأقدار رمت بك بين نفر لا يتخاطبون إلّا بسقط الكلام ، وقد أعدمت الحيلة . وعلى الرغم من استيائك المكتوم فقد أهاج لغطهم حوافزك ، وزيّنت لك مخيّلتك تذوّق العسل .
« إنّ بطّـتكم ذُبِحَت عشرات المرّات » .
ابتسمتَ بأسنانك البارزة وأخبرتهم بذلك ، وأنت تدلف إلى الغرفة متلهفاً ، وتوصد الباب في وجوههم .
كانت الغرفة ليلاً أبيض .. ليلاُ نضّ عنه غلالته السوداء ، فأخذ يتفصّد منك عرق الرغبة . وفي طلاقة غمرت الغرفة بكلامك الفصيح :
« مساء الخير ( أم وليد ) » .
كانت ( أم وليد ) بطّـة مرحة . شغلت بجسدها الممتلئ ، معظم السرير الذي جلست فوقه . بدت شبه عارية ، وكانت آية جمال . وقد تأكّـد لك أنها تزوّجت ثلاث مرّات قبل أن تؤول بها الأمور إلى شغل منصب المسؤولة عن سجن النساء .
أنت تعشق السمينات ، وتطاوع هواهن من غير تورّع . بين ( الرقة ) و ( الموصل ) كنت تصول وتجول ، وفي أي مكان ، بين هاتين المدينتين نزلت فيه ، لم تكن ترغب إلّا في السمينات .
دخلت عليها بحرارة ، وكانت تجلس برفقتها إحدى صديقاتها ، التي نهضت في الحال ، لتغادر الغرفة . إلّا أنّ ( أم وليد ) استوقفتها برهةً وهي تخبرها قائلة :
«تعالي أنظري إلى عينيه العسليتين ، كم هما جميلتان » .
وفي جرأة أحنيت لها رأسك ، وراحت تقبّـل عينيك ، غير أنّ صديقتها اعترضت على هذا النمط من الأشواق ، فقالت محذّرة :
« كفى تقبيلاً من العينين ، ألا تعلمين أن قبلة العين تقود إلى الفراق ؟ » . وعندما اشرأبت برأسها إليك واللّهفة تغمرها ، تقدّمت منها وطبعت قبلة على فمها .
كلاكما كان يمثّـل دور العريس ، ولكنها كانت امرأة ذات خبرة . نهضت وخلعت عنها بعض الأردية ، لتجعل خدود الليل تتورّد خجلاً .
وقفت خلفها حابساً أنفاسك ، وكان جو ( الموصل ) ساخناً . وحينما رفعت ساقها إلى حافّـة السرير ، لتخلع جواربها ، اغرورقت عيناك بالذهول . كنت سواداً في سواد . انطلقت كالغيمة إلى زاوية من الغرفة ، ورحت تنزع عنك لزوجة العرق من دون تريث . ولكنها سارت إليك حافية ، ولسعتك من الخلف نيران جسدها . التفتّت إليها ، وضممتها بين ذراعيك ، ودفنت وجهك في وسادة صدرها ؛ ثم شهقت بوسع منخريك عبيراً قاتلاً كأنّه السم الزعاف .
كنت أكثر طولاً منها ، وفي الحال رميت برأسك إلى الخلف ، أغمضت عينيك قليلاً ، ثم فتحتهما مصوّباً نظراتك إلى المجهول . أمسيت تحت تأثير هزّة عنيفة ، مفاجئة سَرَت إلى أعماقك ، كأنها صعقة كهرباء .
انثالت عليك الذكريات الدفينة مباشرةً ، واعتصرت مرارة الألم المبرّح أحشاءك ، وفي ثوان معدودات انهار عرسك .
أبهرتك رائحة التفّـاح الأحمر عندما ضممت المرأة بين ذراعيك ، وخطر في أعماقك أصدق خاطر .. خاطر عظيم جعل قوامك يتخلّـخل ويتبدّد في الحال . اختلج قلبك ، وارتخت يداك ، وهاض الحزن روحك .
إثر تلك اللمسة الحسية الصغيرة ، لم تَعُد أنت أنت . أمسيت خيط دخان نحيل يتلوّى متوارياً في منتهى الصمت ، في سماوات الضياع .
تلك اللمسة كانت ناراً في شوك .
في لحظات خاطفة غمرت صورة حبيبتك ( ريما ) ، ابنة ( سنجة ) المليحة ، أفق نظرك ، بشذاها العشبي الأخضر ؛ فاصطبغ الليل الأبيض بلون زمردي عطر .
في الحال لم تعد عابئاً بعروسك ( أم وليد ) ، ولا بأولئك الذين يتراهزون خلف الأبواب .
كل شيء تلاشى آنئذٍ ..
كل ذلك تلاشى .
كانت ( ريما ) حلم شبابك السوداني الجميل ، التي أخلصت لك العواطف والمشاعر ، وظلّـت تعيش لأجل حلمك المرّ ، الهارب و المغترب أبداً . إلّا أنّـك كنت حبيباً عاقّـّاً ، سرعان ما رميت بنفسك في دروب الحماقات من غير رويّة ، ولا حسبان . ما أن تلقّـيت مكالمة هاتفية من ابن عمّـك ، الشقي الذي كان يقاتل في ( الرقة ) السورية ، حتى اهتزّت بك أرض السودان ومادت .
ما أسرع سقوطك في لجّـة أوهام ( سجلماسة ) ! .
في أعقاب تلك المحادثة التلفونية أمسيت تتخايل الرحيل إلى هناك : حريّة بلا حدود ، مال منهمر ، ونساء وفق الذائقة ، وإمرة وسلطنة ، ورصاص لا يقف في وجهه أحد .
كنت معتقلاً في سجن مدينتك ( سنجة ) ، مضى عليك أكثر من عام في هذا السجن ، قبل أن تنجح في الهرب منه بمعونة ، وتدبير أحد القريبين من سلطة السجن .
سال كل ذلك من تحت الأقدام باسم الجهاد الموهوم .
رحت تمشي ليلاً ، وتكمن نهاراً .. مشيت على امتداد النيل الأزرق حتى مدينة الخرطوم .
في هذه المدينة لم تطلْ الإقامة . استرحت قليلاً ، وحزتَ جواز سفر مزيف ، وثمة معونة سرعان ما أوصلتك إلى ميناء ( سواكن ) .. ميناء الأساطير ، وجن سليمان .
في غاية اليسر استطعت أن تلتقي أحد مهربي البشر في هذا الميناء ، واتفقت معه على كل شيء .

وفي غضون ثلاثة أيام ، كنت على متن زورق محلّـي الصنع يشق بك مياه البحر الأحمر نحو شواطئ السعودية .
وفي مدينة ( جدة ) تسلّـحت تسليحاً كافياً بكل ما يحتاجه الإرهابي من ذخيرة روحيّـة .
كانت رحلتك الوعرة إلى ( الرقة ) محفوفة بكل ألوان الخطر ، ولكنّـك عبرتها جذلاً ، تهدّهدك أحلام ( سجلماسة ) الآسرة .

لحظة طوّقت ذراعاك ( أم وليد ) ، وامتلأت أحضانك بجسدها البض ، هاجت مدينة ( سنجة ) في عروقك كالدم الفوّار ، وأفغمت صدرك روائح ( ريما ) الحبيبة .
في لحظات ذبل كل شيء من حولك ، كل شيء .. فقد نضارته ، وشحبت خضرته ، وآل إلى يباس .
في تلك اللحظة صحوت صحوة الموت . أفقت مذعوراً على صدر عروسك . تلفّـت يميناً ويسارا في حيرة ، وصرخت بصمت جريح :
« أين أنا ؟ .. أين أنا ؟ .. في أي ركن من أركان الأرض رمى بي جن ( سواكن ) ؟ » .. فجأة تشرّعت أبواب عينيك ، واندلق الماء والهواء مندفعاً إلى جذور روحك ، التي توشك أن تموت .
أحسّستَ بحركة الأنفاس في صدرك ، وأدركتَ أنّـك تحيى .
غبتً في دوّامة الصور برهةً وأنتَ تضمّ عروسك ، ثم فتحت عينيك ورحت تحدّق في هذا الجدار اللحميّ ، البض ، الذي يريد أن يحجب عنك ذكرياتك ، في مثل هذه الأوقات .
هكذا رحتَ تغيب وتتلاشى سريعاً . وشعرتَ بالألم ينزل في صدرك أكثر مضاءً .

ما لبثت أن وهنت أعضاؤك ، وتدلّـت يداك على جانبيك بتعاسةٍ ، وفقدت كل أثر للهاث رغباتك .
الحب النائم طلّ عليك مثل ملك الموت .. الحب النائم استيقظ في أول الليل ، وجفاه النوم .
« ما بك ؟ » .
سألتك ( أم وليد ) .
« هل أنت على ما يرام ؟ » .
كانت تحاول ، في غاية التعثّر ، أن تجاريك في فصاحة اللسان .
ولأجل أن تداري ورطتك وضياعك سارعت تطبع على ثغرها الحائر قبلة لا معنى لها ، جعلت المرأة تتراجع إلى الخلف قليلاً ، وهي تحدّق فيك ذاهلةً :
« هل أنت خجول إلى هذه الدرجة ؟ إذن دعني أنا أتولّـى الأمر » .
احتقن وجهك الأسمر ، وعلته دكنة ضاربة إلى السواد ، وتفصّدت حبّات العرق على صفحته في تمام الروعة والجاذبية . ضمّتك إلى صدرها ، وارتشفت عرقك بشهوة عجيبة .
دفعت بك إلى السرير وطرحتك سريعاً ، وهناك قادتك ، بخبرتها المتقنة ، حتى التخوم القصية من ( سجلماسة ) .
حالما فرغت منها ، رميت جسدك الصلب جانباً ، من غير أن تحرّك ساكناً ، وكنت مثل تابوت أفريقي من الأبنوس الأسود ، الممطور .

تكالبت الأفكار الموحشة عليك ، وافترستك الهموم . كنت تحسّ بصحوة جسد ومشاعر عاصفة ، انتفضت من القعر المظلم ، الخانق ، وطفحت إلى الهواء . وكانت عيناك تحلّـقـان في سقف الغرفة ، وذهنك شارداً . تطوف من سماء إلى سماء ، وما تلبث أن تتوقّـف فوق بساتين ( سنجة ) وشواطئها الحالمة .
هامت ( أم وليد ) بك . كنت تحظى بآيات الإعجاب منها طوال المدّة التي عملت فيها قريباً من سجنها . سحرتها بفتوّتك ، وجرأتك الاقتحامية التي أقامت لك منزلة لا ينازعك فيها منازع .
كانت هذه المرأة تعشق الوحوش الكاسرة ، وبذلت غاية جهدها للظفر بك .

جرّبت ( أم وليد ) في موهن الليل أن تعيد الكرّة معك ، ولكنها فشلت ؛ كنت جثة هامدة ، لا رجاء فيك .
تبتسم ، وتسألك :
« هيا يا رجل هذه ليلة عرسك » .
وتردّ عليها بابتسامة متخشّـبة ، وأنت تقول :
« ليس الآن .. ليس الآن على الأقل » .
ذبل الليل ، واسودّت بشرته ، وتصاعد في طيّاته دخان الهواجس .
« سألّتكَ هل أنت على ما يرام ولم تجبني ؟ » .
وكانت تداعب صدرك العاري .
« كلا ، أنا متعب قليلاً لا غير . لنخلد إلى النوم ، ونترك كل شيء إلى الغد » .
كانت تريدك أن تفترعها ، أن تنالها افتراساً ، أن تكون سبيّـتك في تلك الليلة .
عندما نال منها اليأس لاذت بالصمت ، واستسلمت لخدر النعاس .
دفنت وجهها في الوسادة ، وكانت أشبه بسلّـة فواكه قُلَبَت فوق ملاءات السرير .
تأملّـت عريها المثير ، وندبت حظّـك المنحوس .
لم يعد الليل أبيضَ ، تهاوى البدر ، وانكسرت الأضواء .
لم تنم لحظةً واحدة ، حَرَقَت تلك الصعقة كلّ أثر للنعاس في محجريك .
شبكّـت كفيك لتسند بهما رأسك فوق الوسادة ، وهمت ضائعاً بين شتّـى الفكر . لم تعد أنت أنت ، بل كنت كل النقائض .
ما عادت كتلة اللحم الأبيض ، المستكينة معك في السرير ، تعني لك شيئاً . كنت تتأمّلها من شعر الرأس حتى أخمص قدميها ، وهنالك ، عند قدميها ، تتوقّـف ملياً ؛ لشدّ ما أبهرتك الأظافر الصقيلة في قدميها ، كانت أظافر بيضاء يشرق فيها اللون الوردي كالشفق . وأكثر ما أثارك هو أظفر إبهامها الأيمن ، الذي لاح لك مثل وجه رجل شديد المكر ، يبتسم في عينيك مباشرةً ابتسامة قاتلة ! .
بعد ذلك لم تعد تقوى على النظر إلى أية قطعة من جسدها .
« كيف سرقتني أوهام الدواعي وبريق المغريات ، وانتهيت إلى هنا ؟ » .
« ما الذي جئت لأفعله بين هؤلاء الأشقياء ؟ » .
« لم أثقلت رقبتي بدماء أناس غرباء ، هل كنت أعرفهم حقّـاً ، وهل كانوا أعدائي في يوم من الأيام ؟ » .
مثل مسامير حامية كنت تطرق هذه الأسئلة في عظام رأسك .
في مدينتك ( سنجة ) كنت شابّـاً متهوّراً . تخاصمت مع بعض الشبّان ، وأسلت دماء خصومك . إلّا أنّ تهوّرك لم يدفع بك إلى ارتكاب جرائم قتل ، فماذا دهاك الآن ؟ ..
عكفت تخوض طوال الليل في مستنقع أفكارك الموحلة ، وتعاني من حلكة ورطتك ، التي تشبه سجناً من البلوى في بطن سجن من الشقاء .. أحسسّت بورطتك المهولة على الرغم من تشبّعك بتلك الأفكار الدموية ، الحمراء ، التي مخرت لأجلها البحر الأحمر .
كانت عيناك مثل نجمتين محتقنتين ، تحبسان الدمع . ورحت تردّد في أعماقك المضطربة :
« كيف سمحت لتلك الأوهام أن تخدعك .. كيف سمحت ؟ » .
بين ساعة وأخرى كانت ( أم وليد ) تفزّ من نومها ، وتشملك بنظرة حائرة ، وأنت ساهم لا تعي بها . كانت تنظر إليك بخالص الشكوك والريب ، وعدا ذلك لم تكن لأعذارك أيّة قيمة في تفكيرها. عند أعقاب الليل كنت أنت الصيّاد ، وأنت الطريدة .
كنت أنت السهم ، وأنت الدم ! .

في أول الصباح ، خرجت من تابوتك الأبنوسي نصف حي ، واهن الأنفاس ، تنشد حياةً جديدة . وكانت الحيلة تعقد حاجبيك .
ارتديت كامل ثيابك الحربية ، قبل أن تتناول فطورك . وكانت ( أم وليد ) تبصرك بريبة . ولم تصبر طويلاً حتى سألتك :
« إلى أين تذهب ؟ » ..
« سأزور أحد أخوتي السودانيين في ( تلعفر ) » .
نظرت إليك في غضب ، وقالت في سريرتها إنّك تكذب . كنت تكره الكذب ، وارتحت حقّـاً إذ أخبرتك بأنّك تكذب . كانت تنظر في عينيك بانكسار ، أشفقتَ عليها ، وودّدت لو تخبرها بما تفعله رائحة التفّـاح الأحمر بقلب رجل مشتاق ؛ ولهذا السبب وحده دنوت منها وطبعت على خدّها قبلةً تحمل كل معاني الرثاء . ثم أخبرتها قائلاً :
« لا تقلقي سأعود عصراً » .
وقبل أن تمضي عنها أطلقتَ حسرة خافتة ، حاولتَ بصبر أن تكتمها ، ولكنّها كانت حسرة فاضحة ، بأي حال من الأحوال ، إن كانت تنمّ عن شيء فإنها تنمّ عن جيشان عواطف في فؤادك المصدوع .. عواطف ترفرف تائهةً بعيداً عن موطنها .
وذهبتَ ..

كانت تعلم .. تلك الشيطانة التي لا يخفى عنها شيء ، والتي خالطت الكثير من أمثالك ، كانت تستشعر كل ما كنت تفكّر به ، وتخبّئه في رأسك . أدركت ، بكل يقين ، أنّـك راحل . قرأت التصميم النافذ في عينيك على اللاعودة ، وأنّ قدميك ستمضي في اتجاه واحد لا غير . ما أن هرعت مسرعاً من الدار ، تريّثت قليلاً ثم تبعتك مقتفيةً خطواتك .
في مركز القيادة فاجأت الجميع ، حين تقدّمت بطلب إذن للذهاب إلى مدينة ( تلّـعفر ) ، في أول يوم من أيام عرسك . سافرت بالفعل إلى تلك المدينة من دون إبطاء . وقد أورث سفرك هذا في نفوسهم الكثير من الارتياب .
على أعتاب مدينة ( تلّـعفر ) ترجّـلت ، ووقفت على جانب الطريق الرئيس تنتظر مركبة أخرى ، لم يستغرق وقوفك الكثير من الوقت ؛ إذ استوقفت شاحنة كانت تقصد الأراضي السورية ، وركبت إلى جوار السائق .
انطلقت بك الشاحنة عبر الآكام الرملية والدروب المتصحّرة التي يزوبع فيها الغبار حتى يكاد يغشي البصر . لم يكن الأفق جليّـاً لك . كان الطريق حزيناً ، والأرض جرداء يغيب عنها الفرح . طرق لا تفضي لغير الموت ، وكانت الريح تخوت حائرة . غير أنك كنت مسافراً في رياح من أمل .
بعد مسير قليل ، وقبل أن تقتربا من أية قرية أو ناحية ، لاحت لكما على الطريق نقطة تفتيش ، تعترض الدرب وتسدّه عليكما . كانت مباغتة ، ولم تكن موجودةً من قبل .
توقّـفت الشاحنة عند النقطة . سألوا السائق عن وجهته فأخبرهم أنه ذاهب إلى سوريا . ثم سألوك عن وجهتك أنت فأخبرتهم أنّك تقصد ( الرقة ) .

أمروك بالترجّل . كانوا يعرفونك تمام المعرفة ، وبنبرة امتعاضية ، غاضبة قالوا لك :
« هيا أنزل إلى الأرض أيها السوداني » .
ترجّـلت ورأيت الموت في عيونهم ، ولم تجسر على حمل سلاحك الراقد في حجرك . جرى تفتيشك فوراً ، ثم انتزعوا سلاحك من داخل الشاحنة ، بطحوك أرضاً . وراحوا يقيّدون يديك . وأمروا سائق الشاحنة بمواصلة سيره .
سألوك وهم يمرغونك بالتراب :
« كيف تخون خلافتك ودولتك ؟ » .
وأخبرتهم بما يشبه التوسّل أنّـك مهاجر وتروم زيارة أحد المهاجرين في الشام .
ولكنهم ردّوا عليك بصرامة قائلين :
« هل باعتقادك أن الجهاد مزاجٌ يميل بك هنا وهناك ؟ » .
لم يُضَيع أولئك الرجال وقتاً طويلاً معك ، سحبوك إلى ركن من الدرب الترابي المقفر ، الكئيب ، وهناك أخبروك بمنتهى الصراحة من أنّك هارب من ميدان المعركة ؛ وقد خدعت إحدى نسائهم المجاهدات ، إذ تزوّجتها لبضع ساعات ، قبل أن تولّـي عنها هارباً . ولذلك أنزلوا بك قصاصهم . وقبل أن تتفوه بكلمة واحدة ثقبوا رأسك برصاصهم . لم تبدِ لهم أي استغراب ، ولم تجب بكلمة واحدة ؛ هكذا هي الحياة معهم دائماً . كل ما ندّ عنك هو أنّ عينيك الجميلتين جحظتا مباشرةً ، وانشقّ فمك عن صرخةٍ ميّتة . ثم هويت إلى الأرض مرتطماً على أديمها بعنف . وفور ارتطامك بالأرض علا صوت انشقاق قلبك المترع بالأشواق .
كنت تحاول أن ترفع صدرك المدمي عن التراب ، وأنت تشد بجسدك إلى الأعلى .
خلال ذلك أحسسّت بنفحة هواء بارد ، تسري عبر فتحة أعلى قميصك إلى جسدك المبلول .. أحسسّت بانتعاش لم تحس بمثله من قبل ؛ مشى سريعاً إلى روحك المتعبة .. أحسسّت بذات الارتجاج الذي تركته اللمسة الأولى من جسد ( أم وليد ) في أعماقك . حاولت آنذاك أن تعبّر عن عمق عواطفك بكلمة واحدة .. كلمة واحدة فقط ، تهيأت شفتاك لنطقها ، ولكن رأسك سرعان ما هوى في التراب ، ليضيع كلامك الفصيح في تلك الهيماء ؛ كما ضاع اسمك وعنوانك ! .
كل ذلك تلاشى ..
في رمشة عين اختفى وتلاشى .

ربما كانت نهايتك مألوفةً ، لا تثير ذهولك ، أو ذهول المغامرين في ( سجلماسة ) . ولكنها بالتأكيد سوف تكون ذات معنى عنيف بالنسبة لفتاة حسناء ، سودانية ، تعيش على أمل لقائك ، وتعدّ الأيام بصبر يفوق طاقتها ، وأنت ثاوٍ في لحدٍ مجهول . بينما سيبقى اسمك مطلوباً إلى سجون ( سنجة ) لعشرات من السنين المقبلة ! .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سجلماسة : مدينة إسلامية ، تاريخية ، أثرية ، تقع في المغرب العربي . عُرِفَت بغناها وثرائها ، وبلوغها أعلى درجات الرقي والتقدم . وكانت قبلة الحالمين بالمال والرخاء . ما لبثت أن اندثرت عقب تحوّل خطوط القوافل التجارية عنها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع