الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزيارة التي تأخرت نصف قرن

عبدالله المدني

2006 / 1 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


يقوم العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز هذا الشهر بجولة آسيوية تقوده إلى الصين والهند و ماليزيا و باكستان، هي الأولى من نوعها منذ تسلمه مقاليد الحكم. و ما يهمنا هنا هو زيارته إلى الهند بالتوافق مع احتفالات الأخيرة السنوية بعيدها الوطني.

هذا حدث تاريخي بكل المقاييس، ليس فقط بسبب طبيعة الزيارة و مستواها وتوقيتها ودلالاتها، وإنما أيضا بسبب ما للدولتين من مكانة و نفوذ و ثقل ضمن محيطهما الإقليمي على الأقل.

فمن ناحية طبيعتها و مستواها، هي الأولى لزعيم سعودي إلى هذا البلد الذي تربطه بمنطقة الخليج روابط ضاربة في أعماق التاريخ. ذلك انه منذ الزيارة الرسمية اليتيمة للملك سعود بن عبدالعزيز إلى نيودلهي في ديسمبر 1955 لم يزر الهند أي من خلفائه، بل لم يزرها أي مسئول سعودي كبير باستثناء وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل في عام 1981 . وقد انطلق الكثيرون من هذه الحقيقة للقول بأن علاقات البلدين، لئن اتصفت منذ تأسيس الروابط الدبلوماسية الكاملة في عام 1954 بالهدوء و التواصل، فإنها تحمل في طياتها الكثير من الهواجس والشكوك النابعة من اختلافات تحالفاتهما الإقليمية و الدولية على نحو ما سنفصله لاحقا.

ومن ناحية توقيت الزيارة، فإنها تأتي في وقت يحفل بالكثير بالمستجدات المحلية و الإقليمية والدولية من تلك التي تفرض إعادة صياغة الدول لعلاقاتها الاستراتيجية مع الآخر و فق مفاهيم وأسس جديدة للشراكة. بل إنها تأتي في ظل ما يبدو انه نهج سعودي و خليجي جديد للانفتاح على قوى آسيا الكبرى وفق سياسة "التوجه شرقا" التي لطالما نادت بها النخب الخليجية منذ أوائل تسعينات القرن الماضي و سخرت لها الكثير من مؤتمراتها و ندواتها. كما أنها تأتي في ظل حالة من الطفرة الاقتصادية في المملكة و عموم أقطار مجلس التعاون، ترافقها سياسات و خطط رسمية للمزيد من التنمية المدروسة و الاستثمار بعيد المدى ، لا سيما في مجالي التنمية البشرية والعلمية التي حققت الهند فيهما نجاحا مشهودا. و يقابل هذا اهتمام متزايد من قبل الهند و بقية الأطراف الآسيوية بإقليم الخليج و أمنه و استقراره و رخائه لاعتبارات كثيرة، لعل أهمها ضمان تدفق الطاقة التي تتزايد حاجة آسيا إليها يوما بعد يوم بسبب ما يدور في الأخيرة من حراك و نمو اقتصادي باعث على الدهشة. و أخيرا فان الزيارة تأتي بعد عام و نصف تقريبا من الاتفاقية التاريخية التي وقعتها دول مجلس التعاون جماعيا مع الهند لتأسيس شراكة اقتصادية متعددة الأوجه و الأغراض كمقدمة لإطلاق منطقة تجارة حرة بينية. هذه الاتفاقية التي سبقها مؤتمر فريد في مومباي لوزراء الصناعة و رجال الأعمال و مسئولي غرف الصناعة والتجارة من الجانبين، وأثمر عما سمي ب "إعلان مومباي". في هذا الإعلان اعترف الجانبان صراحة بأن روابطهما التاريخية العميقة و قربهما الجغرافي و تواصل شعوبهما منذ أقدم الأزمنة والطبيعة اللاتنافسية لاقتصادياتهما لا يتناسب إطلاقا مع حجم ما هو قائم بينهما حاليا من تعاون، مما يتطلب المزيد من العمل المنهجي الجاد.

أما من ناحية الدلالات، فان الزيارة كما تبدو تأكيد على أن علاقات البلدين لم تعد تتحكم فيها أو تحدد معالمها و مداها سوى المصالح المشتركة، بمعنى أنها تجاوزت نهائيا آثار المراحل الصعبة السابقة، حينما كانت محكومة بالعاطفة و الايديولوجيا أو كانت الشكوك و الهواجس السياسية تخيم عليها بسبب عوامل خارجية مرتبطة بأطراف ثالثة صديقة لأحد طرفيها و معادية للطرف الآخر، و ليس بسبب وجود قضايا خلافية مباشرة بين الجانبين.

إن أجواء التفاؤل التي تحيط اليوم بزيارة الملك عبدالله لديار العملاق الهندي، شبيهة بتلك التي سادت زيارة الملك سعود المطولة قبل نصف قرن بالتمام و الكمال، و كأنما التاريخ يكرر نفسه. يومذاك انتعشت الآمال حول ما يمكن أن يضيفه التقاء و تعاون البلدين الكبيرين إلى قضايا الأمن والسلام و التنمية و التحرير في المنطقة، لتتعزز أكثر بعد صدور البيان المشترك عن المحادثات والذي تضمن إشادة كل طرف بمواقف الطرف الآخر و عزم البلدين على "التعاون الثنائي في شتى المجالات و بأقوى الصور، بعثا لروابطهما التاريخية القديمة، و خدمة لمصالحهما و مصلحة السلام العالمي". و كانت سعادة الهند أكبر بخطاب ارتجله الضيف السعودي في حفل عشاء و قال فيه ما نصه: "أود أن أقول لأشقائي المسلمين أينما كانوا أن أني واثق من أن مصير مسلمي الهند في أيد أمينة". إذ مثل هذا التصريح العلني لزعيم الدولة الراعية لأقدس مقدسات المسلمين من وجهة نظر المسئولين الهنود، أفضل رد على الدعاية الباكستانية وقتها و التي كانت تتهم الهند باضطهاد مسلميها و التمييز ضدهم.

وهكذا توطدت العلاقات السياسية بين البلدين، و خاصة بعد زيارة الزعيم الهندي جواهر لال نهرو إلى الرياض في سبتمبر 1956 و الاستقبال الرسمي و الشعبي الحافل الذي اعد له كمحرر للهند وتلميذ نجيب للمهاتما غاندي و صديق للعرب و داعم لقضاياهم في فلسطين و السويس. غير أن كل هذا الانسجام السياسي انتكس لاحقا (وهو ما لا نتمى أن يكرره التاريخ) بسبب التطورات المتلاحقة في المنطقة العربية و انقسام العرب ايديولوجيا إلى معسكرين ووقوف الهند إلى جانب المعسكر المعادي للسعودية بقيادة مصر الناصرية بسبب ما كان بين نهرو و عبدالناصر من صداقة شخصية و ما نجم عن ذلك من قيادهما لحركة عدم الانحياز. و لم يكد هذا العامل المباعد بين البلدين يرحل بهزيمة مصر في حرب حزيران و انتهاء الحرب اليمنية و أيلولة قيادة الهند للسيدة أنديرا غاندي بسياساتها الواقعية و الجديدة للتقارب مع بلدان الخليج تحت ضغط العوامل الاقتصادية، فضلا عن مبادرة الرياض لإشراك الهند في أول قمة إسلامية في الرباط عام 1969 (رغم معارضة باكستان و نجاحها لاحقا في إقصاء غريمتها الهندية)، حتى طرأت عوامل مفرقة جديدة. فإضافة إلى ضغوطات العلاقة المتأزمة بين نيودلهي و إسلام آباد و التي وقفت فيها الرياض إلى جانب الأخيرة انطلاقا من مباديء التضامن الإسلامي )مثلما تجسد عمليا أثناء حرب البنغال في 1971 وقبلها في حرب 1964 حول كشمير( جاءت الشراكة الاستراتيجية بين نيودلهي و موسكو و تعاونهما الوثيق عسكريا لتخلق أجواء جديدة من الشكوك في الرياض التي كانت تتبنى سياسة محاربة الشيوعية والقطيعة مع سدنتها في الاتحاد السوفيتي، لا سيما و أن هذه الشراكة جاءت في وقت كثر فيه الحديث عن مخططات سوفياتية لمد النفوذ نحو مياه الخليج الدافئة. ثم جاء الغزو الروسي لأفغانستان و موقف نيودلهي المهادن له و لتبعاته ليزيد من هذه الهواجس.

غير انه في مختلف هذه الحقب و تطوراتها الدرامية ظلت القنوات الدبلوماسية مفتوحة بين الرياض و نيودلهي، و التعاون الاقتصادي قائما، و أبواب المملكة مفتوحة أمام العمالة الهندية، والنفط السعودي و معه بعض القروض الإنمائية متدفقا صوب الهند، الأمر الذي عكس حكمة الطرفين ورغبتهما في المحافظة على روابطهما تحت كل الظروف. ويمكن القول أن المصالح البينية المشتركة الكثيرة، و الروابط الروحية بين مئات الملايين من مسلمي الهند و أخوتهم في الخليج، ومسائل التجارة و النفط و العمالة، و مواقف الهند المشرفة من القضايا العربية، و ثقل الهند في المحافل الدولية، لعبت كلها دورا مهدئا، و حالت دون نجاح أطراف ثالثة (رغم جهودها الدءوبة في استثمار عوامل الفرقة المشار إليها آنفا) في إحداث القطيعة بين البلدين.

د. عبدالله المدني
*باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية
تاريخ المادة: 22 يناير 2006
البريد الالكتروني:[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية بفرنسا.. ما مصير التحالف الرئاسي؟


.. بسبب عنف العصابات في بلادهم.. الهايتيون في ميامي الأمريكية ف




.. إدمان المخدرات.. لماذا تنتشر هذه الظاهرة بين الشباب، وكيف ال


.. أسباب غير متوقعة لفقدان الذاكرة والخرف والشيخوخة| #برنامج_ال




.. لإنقاذه من -الورطة-.. أسرة بايدن تحمل مستشاري الرئيس مسؤولية