الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بغداد الحرية في ظل الاحتلال

حسني أبو المعالي

2006 / 1 / 25
الادب والفن


حملت أمتعتي باتجاه طابور المغادرة في بهو مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، حيث يتم إيداع الحقائب وختم تذاكر السفر، لم أنتظر طويلا حتى وجدت نفسي وجها لوجه أمام موظفة المطار وهي تتصفح جواز سفري وبطاقة العبور. تتسارع دقات قلبي شوقا إلى الوطن الذي فصلني الزمن الغادر عنه، لأكثر من ربع قرن، كان السفر إلى الوطن قبل الاحتلال يعتبر بالنسبة للملايين من العراقيين المغتربين حلما بعيد المنال، وهو مشروع كان مؤجلا إلى ما لا نهاية لكن دوام الحال من المحال.
- آسفة، قالت الموظفة "العراقيون ممنوعون من السفر إلى عمَّان"- البوابة الأقرب إلى بغداد-، انقلب الشوق في ثوان إلى قلق غريب، أحالني فجأة إلى (كابوس) سبق وأن مر علي في أكثر من حلم، كان آخرها قد شهد أحداثه – في المنام بالطبع- مطار محمد الخامس ذاته، حاملا حقائبي وبطاقة السفر قاصدا الوطن، ولكن سرعان ما أتراجع عن قراري وأعود أدراجي بعد أن يحاصرني الظلام بأسئلة الرعب وأدوات التعذيب. سكننا الخوف من السفر إلى الوطن حتى في الأحلام، فكيف لنا أن نتوق إليه سكنا آمنا ونحن في اليقظة ؟
وبينما كنت أعيش لحظات عصيبة بين الحلم والحقيقة، انتشلني نداء الموظفة من جديد ليخبرني عن إمكانية سفر العراقيين خلافا لما كان لديها من معلومات خاطئة، تنفست الصعداء، وحملتني الفرحة جوا إلى عمَّان بعد حوالي سبع ساعات من الطيران.
الرحلة إلى بغداد براً تنطلق من عمَّان ليلا، وعند حلول الخيط الأبيض تطأ مركبتنا الحدود العراقية، كان الشروق لا يزال في مهده وقرص الشمس يبزغ رويدا رويدا وهو لم يكمل دائرته بعد، تنهض الشمس وتطلق بوهجها الوضاء ألوانا ساحرة، ترسم بواسطتها صباحا عراقيا يعانق خضرة الأشجار والنخيل، ويصنع ظلالا دافئة تفترش أرض الوطن، إنها ظلال فائق حسن، عاشق الطبيعة والمرأة والخيول. تنهض الشمس ألمح بنورها طيف بدر شاكر السياب، أستنشق عبق شعره الذي طالما أسكرني في الغربة وأطربني وأنا في الوطن.
"الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام، حتى الظلام هناك أجمل حيث يحتضن العراق"
في الوقت الذي كنت أتأمل شمس بلادي راودتني مجموعة من المشاعر المتناقضة بين الحزن والفرح وبين القلق والتحدي، فرح بلقاء الأهل والأحبة بعد طول غياب، وحزن لزيارة الوطن في عهد الاحتلال وقلق بمواجهة ما لم يكن في الحسبان، وتحد لكل النتائج المترتبة على هذه الرحلة.
تنهض الشمس، شمس العراق المحتل، لتشغل حيزا واسعا من سمائه وقد بدا حجمها أكبر لسعة الفضاء الممتد إلى أرض الوطن الحبيب. المركبة تقطع بنا الطريق وتحرق المسافات الطويلة وصولا إلى "بغداد الحرية" في ظل الاحتلال.
لم أتعرف على بغداد في اللحظات الأولى، كانت عيناي تعانق سماءها المثخنة بدخان القصف وهي دامعة، وتستقبل شوارعها الموشومة بآثار الدبابات الأمريكية بفرح حزين، وتقبل معالمها المتعبة وبناياتها الشاحبة بشوق أليم، تلك مدينة غطتها ألوان كالحة أفرزها تعب السنين الظالمة كأنها ولجت عمر التاريخ، تاريخ ليس له علاقة بالعصر الذهبي ولا بألف ليلة وليلة، إنه تاريخ توقف فيه الزمن عن بغداد لأكثر من ألف عام وانقطعت به جسور الاتصال بين ماضيها الجميل وحاضرها المر، مدينة شهدت مأتمها وهي خارج الأصالة، وعاصرت عرسها الدموي وهي خارج المعاصرة، انتهت من حربها مع الأهل والأصدقاء، لتبدأ للتو في صراع مع الغزاة والأعداء.
بين بغداد الأمس وبغداد اليوم ثمة قاسم مشترك يضع الإنسان العراقي بين أمرين أحلاهما مر، وكأنه يستجير من الرمضاء بالنار.
لقد ركبت بغداد بحر الحيرة بين فرحة الانعتاق من النظام السابق الذي أطفأ كل شمس حاولت أن تشرق على الوطن وتمنحه نور الحرية والسعادة، وتوفر له فرص الأمن والاستقرار، وبين عبء الاحتلال وثقل قيوده وتسويف وعوده إلا من هامش الحرية الذي تجلى في الإعلان عما كان محظورا سياسيا، ولكن في حدود ما تسمح به قوات الاحتلال الأمريكي بعيدا عن الخطوط الحمراء التي تمثل الاستقلال التام واحترام حقوق الإنسان العراقي في تقرير مصيره.
وبالرغم من أن الحرية في ظل الاحتلال تبقى ناقصة وأن شمسها لا تلبي للعراقيين دفئا حقيقيا، إلا أن الأمل في استثمارها لصالح العراق وشعبه يقع على عاتق ومسؤولية الأحزاب السياسية والمذاهب الدينية وبالأخص قادتها، وكذا فعاليات المجتمع المدني والشخصيات المستقلة، مع ضرورة التزامهم بشروط تعزيز أهداف المصلحة الوطنية على حساب أهداف المصلحة الشخصية بغية أن يحول هذا الالتزام دون إيجاد العذر للمحتلين البقاء في الوطن فترة أطول. ذلك الوطن الذي أنهكته الحروب والحصارات ولم ينهزم، وأثقلته الأنظمة المتعاقبة بالانكسارات ولم ينكسر، لكن الخطر الحقيقي الذي يتهدده- فضلا عن الاحتلال- يتمثل في محاولات تصعيد الصراع العرقي والطائفي بين أبناء الشعب الواحد من جهة، وعمليات تصفية الحسابات انتقاما لما فات من جهة أخرى، خصوصا مع رجالات الإبداع والفكر والعلم الذين لابد أن نرفع من أجلهم شعار التسامح باعتبارهم ثروة وطنية لا غنى عنها، وليس لنا سوى أن نعلن جميعا ولاءنا وحبنا الكبير أولا وأخيرا للوطن وحده بعيدا عن المبالغة في الو لاءات الطائفية والعرقية والحزبية خدمة للأهداف الرئيسية وهي إنهاء الاحتلال وإحلال الحرية وإرساء مبادئ الديموقراطية.
كان الحب بلقاء الأهل والأحبة على أرض الوطن سيد اللقاء، وكانت حرارته في القلب قد أنعشت من حرارة الطقس اللاهب في صيف بغداد، وأحيت بعيون الأبناء والأحفاد الذين أتعرف عليهم لأول مرة ذكريات الطفولة والصبا والشباب، واختزلت عذابات خمسة وعشرين عاما من الغربة والحنين بخمسة وعشرين يوما مفعمة بصلة الرحم لهفة وشوقا وأملا بغد عراقي أفضل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب