الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كفى نواحاً يا هوراكي موراكامي

محمود يعقوب

2017 / 4 / 22
الادب والفن


كفى نواحاً يا هوراكي موراكامي

قصة قصيرة : محمود يعقوب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



الشمس تنحدر من جبال الشرق أبداً .. تنحدر هوناً ، مفعمة بالوقار ، وعلى متنها عباءة بيضاء تخفق بأنوار الحكمة البوذية .
على امتداد عشر سنوات لطيفة ، مرّت بخطوات أنثوية متّئدة ، واظبت أمضغ علكة الجمال الياباني برحيقها البرّي الأخضر ، ونكهتها الروحيّـة العطرة . العلكة التي طالما عثرت عليها بين أوراق الكتّاب اليابانيين القديمة أو الحديثة . ليس بدافع التوصيف أعمد إلى هذا القول ، لكنما طقوس الكتابة اليابانية ، التي لا تختلف كثيراً عن طقوسهم الروحانية ، قد جعلت من كتاباتهم علكة حقيقية ، سائغة لي .. علكة تساعدني على هضم الكثير من الطعام والهموم .. وحتى هضم الورق مهما كانت ألياف الأفكار فيه متخشّبة . ولا أخفي أنّها كانت تساعدني في فرز عصّارات المشاعر والعواطف فتنسكب بغزارة ، وترطّـب أعضائي وتجعلها كالعجين .
تلك المصادفة المحظوظة التي أوقعتني في فخاخهم جعلتني أتلذّذ بهذا المصير . ولكنّ جميع أولئك الكتّاب انتحروا .. في حبٍ مبهم للموت انتحروا تباعاً . خلـّفني موتهم راكساً في بركة الأسف ، حيران بشأنهم ، متيّماً بهم إلى درجة تمنيت لو أنني انتحرت برفقتهم . مرّوا كالأحلام الرقيقة ، كالأشباح ، في ليالي البشرية ، وما انفكوا يترعون منامات الناس برفيف همساتهم المثيرة :
( يوكيو ميشيما ) : الفخور بعضلاته وبالموت المسرحي .
( ناتسومي سوسيكي ) : بصورته المطبوعة على ورقة الألف ين النقدية .
( كنزابورو أوي ) : بصرخته الصامتة .
( ياسوناري كواباتا ) : العجوز الداعر ، الذي عاش ومات بلا لحية مسرّحة ..
كلهم استحوذوا على مشاعري وأفكاري مدّة طويلة ، وقلبوا حياتي رأساً على عقب .
كان ولم يزل هوى قلبي لا يميل إلّا ناحيتهم . عبثوا بحياتي ، حتى وجدت أخيراً أنّني ضحية من ضحايا نسيج هذيانهم ألعنكبوتي الجميل ..
اللعنة على قلوبهم جميعاً .

واحد فقط من هؤلاء الأبالسة لم تحن منيته بعد .. واحد ليس له شغل في عالم الأحلام ، ما زال يصول ويجول في عالم اليقظة ، كأنّه مندوب شركة تجارية ، طائرة تذهب به وأخرى تأتي به . إنّه تلميذهم الذي تمطر سماؤه أسماكاً على الدوام ، وخَلـَفهم الذي يواصل العيش باسم ( هوراكي موراكامي ) ؛ بهذا الاسم المتجانس كاللؤلؤ لم يزل يعيش ، ويركض في الماراثونات بسرواله الأحمر . نحن جميعاً معجبون به ، نمضغ علكته باستمراء وتلذّذ ، أليس كذلك ؟ ..

على الرغم من عطائه الثر لكنّـني لم أجد تفسيراً منطقياَ بعد يجعله متخلفاً حتى اليوم عن بقر بطنه بضربة سيف .
أصبح ثرياً بالتأكيد ، إنّ الأموال التي كسبها من أدبه لا يمكن أن تمنعه من الانتحار ، يستطيع هذا الرجل أن يقتني أجمل مجموعة من سيوف الساموراي .. يستطيع ذلك في غاية السهولة ؛ لكنه لم يفعل شيئاً من هذا القبيل .. حتى هذه الساعة لم يفعل ، يا لوقاحته . وفوق كل ذلك ما فتيء يرتدي أجفاناً مستعارة ، منقوعة بخمر( الساكي ) ، يرخيها عادةً ليجعلها كالشرفات وهي تصدّ بخار الشاي المتصاعد من لحيته النابتة ..

تجمّعت حبّات حسرتي على فقد أدباء اليابان ، وحنيني الدائب إليهم .. تجمّـعت في هيئة عنقود إعجاب ولهفة انفرط فوق ملامح التعاسة لوجه ( هوراكي ) . منذ أن صدرت روايته ( الغابة النرويجية ) وتوهّجت ألسنة صيتها ، صارت عيني مسدّدة على كل ما يترجم له .
في الواقع لم يسعفني الحظ بقراءة هذه ( الغابة النرويجية ) ، تأخرت ترجمتها طويلاً . انتظرت ، وانتظرت ، ولكنها لم تأتِ ، حتى انتابني شعور بأن من يتصدّى لترجمتها في لغتنا لم يخلقه الله بعد ، وهكذا كنت أنتظر مشيئة الله .

في منتصف الربيع الماضي قرأت في الصحف خبراً يشرح الصدر ، ويسر الفؤاد ، عن صدور رواية ( هوراكي ) بترجمتها العربية . وكالعادة دعوت ربي راجياً أن يعين مترجمها ويطيل في عمره . جعلني الخبر أوسع صدري انشراحاً ، وأتنفّـس الصعداء ، بل في الواقع رحت أتنفّـس هواءً لطيفاً مشبّـعاً بطعم ملح البحر الياباني ، هكذا كنت أحسّ كلما حصلت على كتاب ياباني جديد كأنّـني أطوف حافياً على سواحل الجزر اليابانية وغاباتها حاملاً طاسة الاستجداء ! .

بعد ما ينيف على شهر من الزمن رحت أبحث عن الرواية في أسواق الكتب . بدأت بمكتبات أقرب المدن إليّ وهي مدينة ( الناصرية ) *، وهي مكتبات متواضعة لم أتوقع أن أعثر على بغيتي فيها ، وهذا ما حدث بالفعل . لذلك التمست أحد الشبان الجامعيين وكان يدرس في جامعة ( واسط ) * أن يتحرّى عن الكتاب في مكتبات مدينة ( الكوت ) *. وبعد بضعة أيام اتصل بي هذا الشاب ليخبرني بأنّـه لم يحظَ بأثر لرواية ( هوراكي ) . كانت المتابعة لم تزل في بدايتها ، وكنت متفائلاً بشأن العثور على الكتاب . وبالفعل ما أن مرّ أسبوع من الأيام حتى طرأ لي أمرٌ يدعوني للسفر إلى مدينة ( البصرة ) *، وتلقفّـت الأمر في راحة وانشراح تامّـين . قلت هناك في ( البصرة ) سأعثر على ضالّـتي بلا شك ، فهذه المدينة الكبيرة مدينة تقرأ وتكتب وليس من المعقول أن تعدم مكتباتها من ثمار ( الغابة النرويجية ) .
ولكن في واقع الأمر ، صُدمت في هذه المدينة ، عندما فشلت في العثور على الكتاب .. صُدمت لأن الشكوك هجمت علي بغتة وأحبطت مساعيّ وانطلاقتي . كانت أنفاس ( البصرة ) لاهبة
على الرغم من الربيع ، وأمام باعة الكتب ، الذين افترشوا الأرض ، تلاحقت أفواج من البشر تمرّ مروراً لا يكاد ينقطع .. تمر من أمام الكتب كأنها تمر بألواحٍ طينية لا تنفع ولا تضر! . وقفت أحدق بالكتب تارةً ، وبأفواج الناس تارةً أخرى ؛ وخاطبت نفسي في مرارة وخيبة حقيقية :
« هل هناك أحد في هذه الجيوش السابلة يعرف ( هوراكي ) ، وهل هناك من يعشق كتاباته ؟ )
كنت أخاطب نفسي وحسب ، وكنت عارفاً بمقدار حماقتي يوم سلـّمت قلبي لهوى أولئك اليابانيين الغامضين .

من ( البصرة ) إلى ( بغداد ) ، أخذت أزحف من مدينة إلى أخرى وأنا أشقّ طريقي خلف غابتي الساحرة من دون أن أصل إليها .
تَرَكَ انعدام تلك الرواية في مكتبات هذه المدن أثراً ممضاً في نفسي هو ذات الأثر الذي تورثه أحاسيس الوحام لدى الفتاة الحامل ، وبتّ أهيم بهذه الرواية مسبقاً ، قبل أن تقع عيناي عليها .
وفي مآل الأمر بات لزاماً علي أن أقصد ( شارع المتنبي ) ** في بغداد ، حيث لا مفر لمثل ذلك الكتاب من مكتباتها العامرة .
بدأت أعدّ العدّة لأجل السفر إلى العاصمة البعيدة عن مسكني . خطّـطت تخطيطاً لا يخلو من الفطنة لأجل تحقيق رغبتي المتعطشة . عزمت على اصطحاب صديق شغف بمطالعة الأدب ، تخطو به الرغبة إلى أسواق الكتب دائماً . شدّدتُ على أن لا يفلت الكتاب من أيادينا . وزيّنت الأمر لصديقي بألف حيلة وحيلة ، حتى نجحت باصطحابه .
منذ اللحظة التي قرعت فيها أقدامنا ( شارع المتنبي ) باشر كل منّـا بالعمل كما لو كنّـا رجال مباحث . وبين آنٍ وآخر كنت أطالع ملامح صاحبي من أجل أن أتأكد من روح الإقبال والحماس فيه على المضي في متابعة البحث ؛ وأسعدني أن يكون مغموراً بالطلاقة والبشاشة ، بل أسعدني أكثر أن أسمعه يهمس في أذني همساً واثقاً :
« أريد أن أعرف كيف يمكن لهذا الكتاب أن يخفي نفسه عنّا ؟ » ..
طبعاً فكّرت بأن أثنين من القرّاء الحريصين يبحثان عن الرواية أفضل بالتأكيد مما لو كنت لوحدي . كلانا معاً يعني ، بلا شك ، أنّ البحث سيكون أيسر بأي حال من الأحوال . إنّ ما يغيب عن عيني لا يمكن أن يغيب عن عيني صاحبي ، وإن تلكأت بالسؤال ، تردّداً أو خجلاً ، فإنّـه سيسعفني بلا ريب . على وفق هذه الرؤى سافرنا معاً ، وكنت في منتهى السعادة . لأنّـني أرى أنّ الرحلة لأجل الكتب ، تشبه رحلة الحج عند المؤمن المتعطش . هذا ما جعل أغلفة الكتب الملونة ، المرصوفة في واجهات المكتبات بساتينَ وغاباتٍ تلقفتني سريعاً ، ووارتني تحت الظلال الوارفة لأفنانها وأوراقها الكثيفة . وهكذا تهت في ظلمة الأشجار وأمواج خضرتها .

شرعنا نبحث في مكتبات ( المتنبي ) بشيء من المهنية . قبل كل شيء كنّـا متمهلين ، تجنّبنا السرعة ومخاطرها . أخبرت صديقي بأنّ البحث السريع في الكتب يشبه التهام الطعام بسرعة فائقة ، إذ يسبّب عسر الهضم وتلبّـك المعدة . ولكنّـنا كنّـا نلج المكتبات كرجال التحرّي المقتحمين ، ونضع صاحب المكتبة بيننا ، ونمطره بوابل من الأسئلة المباغتة :
« أين موضع روايات ( هوراكي موراكامي ) على الرفوف ؟ » ..
« ما الذي يتوفر لديك من رواياته ؟ » ..
« هل تتوفّـر روايته الجديدة ( الغابة النرويجية ) ؟ » ..
« كيف لا تتوفّـر ؟ .. لقد مضى على صدورها أكثر من شهر ونصف الشهر » ..
« هل تستطيع أن تدلّـنا أين يمكن أن نعثر عليها بالضبط ؟ » ..
وإذا ما لمسنا أي تردّد في إجاباته ، أو أي غفلة تندّ عنه فسرعان ما نتوزّع على جوانب رفوف المكتبة ونبدأ التقصّي الدقيق . كنا نلاحق ( هوراكي موراكامي ) كمشتبه به جنائياً في عموم ( شارع المتنبي ) .

عندما فرغنا من تمشيط المكتبة الأولى كنّـا لم نزل في أوجّ معنوياتنا ومرحنا ، على الرغم من فشلنا في العثور على الرواية . وكان هذا هو الحال أيضاً في المكتبة الثانية والمكتبة الثالثة على التوالي . ولكن بعد ساعتين من العمل الدؤوب ألقى الكلل والإجهاد بظلاله الشهباء وروائحه الحريفة علينا ، تلك الروائح التي كانت تزداد سوءاً كلما طال أمد البحث والدوران . بدأت أشعر بالجوع على غير عادتي .

توجّب علينا أن نبحث في منتهى الصبر ، كان عدد المكتبات في ( شارع المتنبي ) كبيراً . بدا صاحبي أكثر تعباً مني ، اختلطت ملامحه بالوهن ولم يعد راغباً بالكلام . كان ينضح زيتاً ، أضحت بشرته فائقة اللمعان ، وراح يتجمّع الرماد في نظراته التي كانت مشتعلة قبل قليل من الوقت .

فاجأني بتراجعه المباغت ، وانكفائه ، حين خرجنا لتونا من المكتبة الخامسة ، إذ توقّـف عند باب المكتبة وأمسك بيدي ، أوقفني بصورة المنكسر وقال لي :
« ألا تصلح دنيا المطالعة إلا بكتب ( هوراكي ) ؟ » .
« ماذا ؟ » .
واحمرّ وجهه وبرق الضوء في وجنتيه ، فعاد يفسر كلامه بتردّد واضح وهو يقول :
« أعني هل ترى أنّ ( هوراكي ) هو الكاتب المجيد الوحيد في عالم اليوم ؟ » .
أحسست به كأنه تسلّـح بسيوف الساموراي ضدّي ، وكنت منزعجاً وأنا ألمس تخلخل إرادته ، ولم يزل الطريق طويلاً بعد . لاح لي كأن هيكله بأكمله يغطس في بخار غائم ، وأنّـه يوشك أن يتوارى عن ناظري . وخطفت في رأسي فكرة أنّ الرجل راح ينظر إلى إصراري بصورة مشوّهة ويجد فيه انحرافاً مزاجيّاً ، هذا إذا كان البحث عن شيء ثمين ونادر يعد انحرافاً . فقلت بما يشبه التوبيخ :
« إنني اعتمدت عليك ، وكنت واثقاً من مساعدتك لي في البحث عن الكتاب ، حاول ْ أن تهبني قصارى جهدك بهذا الصدد . أرجو أن لا تفترّ همّـتك ، مازال أمامنا وقتٌ كافٍ » .
ثم لزمت الصمت برهة ، ورحت أفكر بشأن رغباتي ومزاجي ، وحاولت أن أكون أكثر وضوحاً معه فقلت له أيضاً :
« بغض النظر عن جودة الكتاب أو رداءته فإنّ ما يثير حماستي في كتبه هو الكلام .. كلام ( هوراكي ) وحسب » .
« كلا ، لم أعنِ التقليل من شأنه ، ولكنني يئست من العثور عليه » ..
لعلّـه كان غاضباً منّي بعض الشيء .
كان من المفترض أن تكون ظهيرة الربيع لطيفة في ( شارع المتنبي ) ولكن غياب صاحبنا ( هوراكي ) عكّـرها بعض الشيء .

في أقصى درجات اللؤم فاض في دخيلتي الإصرار على التقصّي والبحث عن الكتاب . عند حدود الساعة الثانية عشرة بان علينا التعب والجوع معاً بصورة سافرة ، لم يعد بوسعنا الاستمرار في البحث . اقترحت على صديقي أن نقصد مطعماً يتوسط ( شارع المتنبي ) ، لنرتاح فيه قليلاً ونحصل على شيء من الطعام . وعلى طاولة مشتركة جلس برفقتنا رجل يعمل في تلك المكتبات . سرعان ما تبادلنا حديثاً عن تجارة الكتب ، وعن رغبات القرّاء عموماً في الآونة الأخيرة . .
كان رجلاً لطيفاً ، أخبره صديقي عن اسم الكتاب الذي حضرنا لأجله ، وجاء ردّ الرجل سهلاً وواثقاً :
« إلى جوار المطعم توجد مكتبتان هما مكتبة ( ............ ) و مكتبة ( .......... ) ستعثران على الكتاب في واحدة منهما بالتأكيد ، إن كان الكتاب موجوداً في بلدنا فعلاً » ..
« ولكنّـنا تقصينا أمر الكتاب في هاتين المكتبتين ، ولم نعثر عليه » ..
« وهل تحدثتما بشأنه مع صاحبي المكتبتين ؟ » .
« نعم أحد هذين الرجلين حاورناه بالتفصيل ، ولكن الرجل الآخر كان مشغولاً » .
« الأجدر بكما أن تعودا وتستفسرا منه أيضاً ، فهو أكثر معرفة من غيره بشأن هذه الروايات في سوق المتنبي » .
ثم ما لبث أن علّـل كلامه ، وهو يشرح الأمر :
« إنّه رجل يعمل في مجال النشر والتوزيع كذلك ، وهو أكثر اطلاعاً على ورود الكتب وصدورها من غيره » ..

بعد الانتهاء من غدائنا عدنا مسرعين إلى مراجعة هاتين المكتبتين . ولجنا مباشرةً إلى مكتبة ( ....... ) وسألنا الشاب الذي كان يديرها عن رواية ( هوراكي ) . كانت دهشتي لا توصف حينما أخبرنا الشاب بأنّ الرواية صدرت بالفعل ، لكنّـما مكتبته تسلّـمت عدداً محدوداً من نسخها ، وقد نفدت جميعها . لم يكن بمقدوري استيعاب مجمل كلامه الصادم ، فتساءلت بنوع من البله :
« كيف يمكن أن تنفد جميع النسخ ؟ » .
« عدد النسخ محدود كما قلت ، وروائي في حجم ( هوراكي ) سرعان ما تنفد نسخ روايته هذه من السوق » ..
محدود .. محدود ، بقيت ألوك هذه الكلمة مثل لبان مسموم ، وأنا أحدّق إلى فم الشاب منتظراً بفارغ الصبر أن يندّ بكلمة أخرى .
« ماذا تعني بمحدود ؟ » ..
ابتسم الشاب في وجهي المتجهم وقال :
« محدود ، يعني خمسين نسخة ، أو ربما مئة نسخة أيضاً ، لم أعد أتذكر عددها بالتحديد ، إلا إذا عدت إلى قوائم الورود » .
« قل غير ذلك يا رجل ؟ » .
« ............... » .
لم ينطق بشيء ولكنّه لوى كفّـه اليمين في إشارة امتعاض بيّنة .
« خمسون نسخة فقط ، أو حتى مئة نسخة ، لروائي في سمعة ( هوراكي ) ، وفي بلد ينيف تعداده على الثلاثين مليون نسمة ؟ » .
« يا لتعاستك يا ( هوراكي ) إنّها القسمة الضيزى والله » .
« وعلامَ الاندهاش من ذلك ، الكثير من الكتب يردنا منها نسخ قليلة عادةً ، ومتى ما يتبين أنّ هنالك طلباً عليها ، في هذه الحالة ينبغي لنا استيراد المزيد منها تبعاً لحجم الطلب . هذه هي حال التجارة » .
« هل هذا يعني أن الكتاب الذي لم يرد طلب عليه سوف يندثر ويَنسى ؟ » .
« ربما ، أغلب الكتب مصيرها على هذا النحو » .
« هل تعلم ماذا تعني خمسين أو مئة نسخة بالنسبة لدولة كاملة ؟ إنها أشبه بشظية ثلج تُرمى في وسط نهر ، وتروح تذوب من دون أن يراها أو يحسّ بها أحد » .

ابتسم صاحبي في وجه الشاب محاولاً أن يختبر معارفه الحقيقية بأحوال السوق فسأله على الفور :
« تصوّرْ الأمر معكوساً يا أستاذ ماذا لو كان ( هوراكي ) عراقياً وأصدر ( الغابة النرويجية ) هنا ، كم من النسخ تتوقع أن يبيع منها ؟ » ..
غير أنّ الشاب كان بادي البرود ، نظر إلى السؤال بكثير من التعالي ، ومن دون أدنى محاولة للتفكير بالجواب قال مباشرةً :
« أنا قلت إنّـنا بعنا مئة نسخة من هذه الرواية ، ولو كان ( هوراكي ) قد أصدر روايته هنا فعلى الأرجح أنّـه لن يبيع أكثر من هذا العدد ، ولكن عنواناً جميلاً مثل ( الغابة النرويجية ) قد يساعده في بيع مئة نسخة أخرى » .
التفت إلى صاحبي وأنا أقول بصوت خفيض :
« مئة نسخة فقط ؟ إنّـها أشبه بالإهانة . يا لبؤسك يا ( هوراكي ) بالفعل تأخرت كثيراً على الانتحار » .
« نعم ؟ » ..
تساءل المكتبي كالمُستَفَز ، ويبدو أنه تَـنبّـه لكلمة ( الانتحار ) التي نطقت بها بدقة حادّة .. وبطريقة قدرية ، كأنني أشير إلى أمر محتوم في وقت ما بعد الثانية عشرة ظهراً .. في وقت لا يتساوق نهائياً مع أفكار الانتحار ..
« قصدت من كلامي أن شيئاً لا يشبه شيئاً في هذا الموضوع المحدّد ، هل تعلم أن ( هوراكي ) باع من روايته هذه ثلاثة ملايين نسخة في بلده اليابان فقط ، فور صدورها ؟ .. وهل تعلم أنّها وفّـرت له ثروة طائلة جعلته يستغني عن حانته وخموره ، ويتفرّغ نهائياً لحياة الأدب ؟ ، أين وجه المقارنة بين الثلاثة ملايين وبين المئة يا ترى ؟ » .
« ليس ذلك بالكلام الجديد ، أنا شخصياً استنسخت كتاب سيد الطوخي ( السحر الأسود ) ونجحت في بيع وتوزيع مئات الألوف منه ، هنا في بغداد وفي جميع المحافظات ، ربما بعنا ما يربو على المليون نسخة منه ، وحتى اليوم ما زلنا نواصل طبعه وبيعه » ..

أحسست أنه دثـّرني بلحاف سميك من الازدراء حين راح يقارن ويقارب بين السحر والشعوذة وبين كاتب مثل ( هوراكي ) ، فقلت :
« إذا شئت التحدث عن السحر فإنّ ثلاثين مليون نسمة ينبغي أن تطبع لهم ثلاثين مليون نسخة من هذا السحر العجيب . بالتأكيد يتلهف الجميع لاقتناء نسخهم » .
في واقع الأمر استدرجتني فكرة ( السحر الأسود ) ، وقلت في سرّي ربما أقتني نسخة منه أيضاً .
ما لبث أن استدرك المكتبي ، الشاب كمن برقت بين عينيه فكرة طارئة ، وأشار بإصبعه إلى الرصيف المحاذي لمكتبته وسأل :
« هل بحثتما بين كتب باعة الأرصفة ؟ قد تعثران عند هؤلاء على نسخ مقروءة للبيع من أي كتاب يخطر في بالكما » .
وقبيل أن نغادر مكتبته طاب لي أن أسأله ثانيةً :
« إثر نفاد نسخ ( الغابة النرويجية ) هل أتاك أحد يسأل عنها ؟ » .
« لا أعتقد ، لا أذكر أن جاء أحدهم يسأل عنها » .

هرعنا على الفور نواظب البحث بين أكداس الكتب الحديثة والقديمة التي رُتِبَت على امتداد أرصفة الشارع . وقبل أن نبدأ البحث أوقفني صاحبي وقال :
« هل قلت أنه باع ثلاثة ملايين نسخة في اليابان ؟ » .
« نعم ، وكانت سبباً في شهرته الهائلة » .
« أولئك اليابانيون لا يتوقفون عن مضغ الورق المطبوع لحظةً واحدة ، ولكن مهلاً .. مهلاً ، يستطيع كاتبك ( هوراكي ) أن يبيع ثلاثة ملايين نسخة هنا أيضا لو أنّه كتب كتاباً في السحر الأسود وضَمّنه أسراراً ، وأوفاقاً ، وطلاسمَ جديدة » .

كان يفترض بكتب الأرصفة أن تكون سوقاً للكتب المستعملة فقط ، ولكنّـنا وجدناها سوقاً لكل الكتب . مزيجاً غريباً لم يكن البحث في لجتها أسهل من البحث بين رفوف المكتبات . الكثير من الكتب لم تكن معروضة بصورة لافتة ، بل إنّ الكثير منها كان مكدّساً فوق بعضه ، فكان بعضها مختفياً عن الأنظار . الأغلفة الصقيلة كانت تعكس نور الشمس في العيون ، وسرعان ما عشيت عيناي من جراء التحديق فيها . بدأ التعب ينال من رفيقي ، واحتدمت رائحة تعرّقه . وأخذت رغبته في مواصلة البحث تشحّ حتى أمسك بيدي مرّةً أخرى ، وأعلن عن رغبته في مغادرة ( المتنبي ) ؛ غير أنّـني ألحفت عليه بالاستمرار لوقت قصير آخر ، لعلّـنا نعثر فيه عن ضالّـتنا ، وقلت له :
« إنّ سفرتنا ، وحضورنا إلى بغداد ليست سفرة تفاخرية ، ولا استعراضية . نحن هنا من أجل
( هوراكي ) ، أرجو أن تفهم وتقدّر هذا من أجلي » ..
غير أنّ صديقي لاح بلا مبالاة ، وجعلتني هذه اللامبالاة محبطاً ومهموماً ، تمنيت في تلك الأثناء لو أنّـني جئت لوحدي ! ..
بدأنا البحث مرّةً أخرى بصورة سريعة ، كلانا كان على عجلة من أمره . وتناءى المرح عن مزاجينا معاً .
في تلك الظهيرة أضفت الروائح السيئة ، والشمس الساكنة مسحة كئيبة على الشارع ، بدا لعيني أنه ليس شارع المتنبي وإنما شارع شاعر آخر ، من الشعراء المغمورين . ولسوء الحظ ارتطم نظري بغتة ، في أثناء بحثي فوق الأرصفة ، بكتاب ( السحر الأسود ) فتأجّجت أحاسيسي ، وغدا مشهد الكتب برمته يثير غضبي ..
كانت بعض أغلفة الكتب قد تلوّحن وطُمِسَت عناوينها بفعل وطأة الشمس والأنواء ، أخذت أتخيل أنها كتب درداء لا تمضغ شيئاً بين دفتيها .
أمسيت متوتراً في الواقع ورحت أفقد الثقة في العثور على الرواية ، وافتقد البحث الكثير من معانيه ، ووجدتني في نهاية المطاف أفقد حتى جديّـتي في المواظبة على البحث . وأمسيت واثقاً من أنني لن أعثر على الرواية حتى لو واصلت المشي إلى بيروت الطباعة نفسها . كان صاحبي شارد الانتباه ، لم يطل به المطال حتى أشار إليّ بقوله :
« إذا شئت أن تنتقي رواية جميلة من هذه الروايات ، وإن لم تشأ فهلم بنا نعُد أدراجنا . لم تعد بي طاقة على تحمّل البقاء هنا » ..
« عن أية رواية تتحدث ؟ » ..
« هذه الروايات الجميلة » .
وأشار بإصبعه على امتداد خطٍ مستقيم من الكتب المرصوفة .
انتبهت جيداً إلى سبابته وهي تشير إلى خط الكتب . كانت سبابة منحنية وذابلة جعلت أحاسيسي تنحني وتذبل تماماً ، ولاحقت نظراتي سبابته إلى نهاية الخط وسقطت هناك في غاية الإعياء والإحباط ..
قلت له وأنا أنحني إلى الأمام ، وأكاد أدفن رأسي في أكداس الكتب :
« هلم بنا ننصرف » .
« ألا تبتاع لك واحدة من هذه الروايات الممتازة ؟ اخترْ ما يحلو لك ، لست في أرض جرداء » .
كانت لدي أفكاري الواضحة ، وأخبرته بأننا لم نأتِ لالتقاط الكمأ من البريّة ، بل الأكثر من ذلك أنني أجبته بشكل قاطع قائلاً :
« أنا لا أمضغ هذا النوع من الورق » .
« وما قيمة كتابك بين هذا البحر المتلاطم من حواليك بكتبه الزاخرة ؟ » ..
« كتابي قد يكون قطرةً في هذا البحر ، ولكنه قطرة جنون تكفي لاصطخاب البحر واضطرامه ، ورجرجة أمواجه » ..
مطّ ّ شفتيه ، وتمتم بكلامٍ منزعجٍ وهو يقول :
« كفاك نواحاً يا ( هوراكي موراكامي ) ، تعال أنظر إلى هذه الأسماء الرهيبة : أوليفر ساكس ، ايزابيل الليندي ، ميلان كونديرا ، إليف شافاق ، ماريو بارغاس يوسا ، امبرتو إيكو ...... أليس هؤلاء كتّـاباً جميلين ؟ ألا يجذبك كتاب من كتبهم العظيمة ؟ » ..
« يستسيغ الإنسان بعض أنواع الفاكهة ، وليس جميعها » ..
رددّت عليه كالهامس .
كنت في غاية التجهم ، وكان ظلي في تلك الظهيرة نحيفاً وجائعاً ، على الرغم من أنني تغديت وشبعت ، كنت أنظر إليه كيف غدا متجعّداً ، افتقد كل تفاصيله حتى صار مكوّماً بأكمله تحت حذائي ؛ وفي سواده توارى كل ما بقي من مرح السفرة . صرفت النظر عنه ، ولم أبالِ به . كانوا بالفعل كلهم جميلين .. كتّاباً رائعين .. رواياتهم آسرة ، وعلى امتداد خط الكتب المرصوفة كان تألقهم الفذ يتوقد في ظهيرة ( المتنبي ) ؛ ولكنّـني أشحت بوجهي بعيداً عنهم ، وأحسست بأنّ قلبي وحيد ، وهواه غريب . فقلت لنفسي بصوت كاد يسمعه صاحبي :
« اللعنة عليك يا قلبي .. اللعنة » .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ( الناصرية ، الكوت ، البصرة ) : مدن عراقية .
** ( شارع المتنبي ) : شارع المكتبات الرئيس في بغداد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف


.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس




.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في


.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب




.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_