الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مستقبل التبادل التجاري الحر

ماجدة تامر

2006 / 1 / 25
العولمة وتطورات العالم المعاصر


بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق عام 1991 ، فتحت مجالات واسعة أمام التبادل التجاري الحر ، فقد نجح دعاة التبادل الحر في تحقيق مآربهم .
فقد وقعت العديد من المعاهدات الإقليمية المهمة ، كمعاهدة التبادل الحر لأمريكا الشمالية " ألينا " أو النافتا والتي ضمت كلا من كندا والولايات المتحدة والمكسيك .
وأدت مفاوضات دورة الأوروغاي إلى تتويج معاهدة " الغات " وهي المعاهدة الخاصة بالرسوم الجمركية والتجارية والتي كانت قد أقرت في مراكش في العام 1994 وأفضت بالتالي إلى إنشاء منظمة التجارة العالمية عام 1995 .
وحتى الآن لم تتخذ هذه المنظمة صفة الاتفاق المتكامل فيما يتعلق بموضوع التبادل التجاري الحر ، لكنها تمكنت من توجيه النظام التجاري العالمي الى جهة التبادل الحر عبر خفضها بشكل ملموس الرسوم الجمركية ومنعها تقديم المساعدات لقطاع التجارة.
ومع أن النجاحات المتحققة كبيرة جداً إلا أن دعاة التبادل الحر لم يكتفوا بذلك وفي مقدمهم ممثلو الدول المتطورة ، مستمرون في ممارسة الضغوط من أجل خفض الرسوم الجمركية بشكل أكبر وأسرع ومن أجل توسيع صلاحيات هذه المنظمة لتطال مجالات لم ترد في مهمامها الأساسية كالاستثمار في الخارج والمنافسة وغيرها. وفي مجال المعاهدات الإقليمية ترتسم في الآفاق خطوط منطقة تبادل حر تغطي عملياً كامل القسم الغربي من الكرة الأرضية، أي منطقة التبادل الحر لدول القارة الأمريكية .
ويعتقد دعاة التبادل الحر أنهم في مسيرتهم تلك ، يواكبون حركة التاريخ . ففي رأيهم أن سياستهم هذه هي أساس غنى الدول المتطورة، ومن هنا انتقاداتهم للدول النامية التي ترفض التكيف مع أطروحاتهم الثابتة ، مع أن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة ، لأن الوقائع التاريخية دامغة إذ عندما كانت الدول المتطورة حالياً في طور النمو لم تعتمد عملياً أياً من السياسات التي تبشر بها الآن . وما من مكان تنكشف فيه الهوة بين الوهم والحقيقة التاريخية بشكل فاضح كما في حالة بريطانيا والولايات المتحدة.
ولو أخذنا على سبيل المثال بريطانيا ، فإنها لم تكن في أي حال نموذجاً للتبادل الحر الذي طالما نادت به من قبل . بل أنها وبالعكس تماماً ابتكرت سياسات توجيهية بغية حماية صناعاتها الاستراتيجية وتطويرها. وهذا النوع من السياسات، وإن كان في حجم محدود يعود الى القرن الرابع عشر مع الملك " ادوار الثالث " والقرن الخامس عشر مع الملك " هنري السابع " في ما يتعلق بالصناعة الأهم في تلك العصور، وهي صناعة الصوف .
باختصار، وبعكس الأفكار المكونة، فإن تقدم بريطانيا التكنولوجي الذي سمح لها بالتحول الى نظام التبادل الحر، قد تحقق في ظل القيود الضرائبية المرتفعة والتي ظلت تطبق لفترة طويلة بحسب ما كتب المؤرخ الاقتصادي الكبير " بول بايروك " وكان يؤيد نظرية " حماية الصناعة في مهدها "، وقد بيّن أن المواعظ البريطانية الداعية الى التبادل الحر تذكّر بذاك الذي ما إن يصل الى القمة حتى يرمي السلّم الى الأرض كي يمنع الآخرين من اللحاق به .
وإذا كانت بريطانيا الدولة الأولى التي أطلقت وبنجاح استراتيجية تنمية صناعاتها في المهد على مستوى واسع ، فإن الولايات المتحدة التي تعتبر موطن نظام الحماية الحديث ومعقله بحسب تعبير المؤرخ " بايروك " ، هي التي تولت تبريرها بداية على يد " ألكسندر هاملتون "، أول وزير خزانة في تاريخ البلاد من العام 1789 الى العام 1795، ومع عالم الاقتصاد المغمور الآن " دانيال ريمون " . وهناك العديد من المفكرين والمسؤولين السياسيين الأمريكيين في القرن التاسع عشر كانوا يدركون تماماً أن التبادل الحر لم يكن ملائماً لبلادهم ، حتى وإن تعارض ذلك مع رأي كبار علماء الاقتصاد في تلك الحقبة أمثال " آدم سميث " و "جان باتيست ساي "، ممن كانوا يعتبرون أن الولايات المتحدة يجب ألا تحمي صناعاتها الحرفية، وإن مصلحتها الفعلية هي في التخصص في الزراعة.
ولم تعمد الولايات المتحدة الى تحرير مبادلاتها التجارية إلا بعد الحرب العالمية الثانية وذلك بعد أن تثبتت بشكل جازم من تفوقها الصناعي ولكن في درجة أقل وضوحا مما فعله البريطانيون في أواسط القرن التاسع عشر . وبدأت تتباهى بوضعها وتحمل راية التبادل الحر مضفية على دورها المصداقية. وكان " أوليس غرانت " ، بطل الحرب الانفصالية ورئيس الولايات المتحدة من العام 1868 الى العام 1876 قد استبق هذا التطور حين قال: "على مدى قرون اعتمدت إنكلترا على مبدأ الحماية ومارسته الى أقصى الحدود وحققت به نتائج مرضية ، وبعد عقدين من الزمن رأت أنه بات من الأنسب اعتماد مبدأ التبادل الحر لأنها ارتأت أنه لم يعد لمبدأ الحماية ما يقدمه . حسناً أيها السادة إن معرفتي ببلادي تحملني على الاعتقاد أنه بعد أقل من 200 سنة وحين تكون أمريكا قد استنفدت ما أمكن من هذا المبدأ سوف تعتمد أيضاً مبدأ التبادل الحر " .
وهذا ما يمكن استنتاجه أيضاً من تاريخ سائر الدول المتطورة. ففي حين أنها حاولت أن تعوض من تأخرها عن الدول المتقدمة عليها، فإنها عملياً لجأت كلها الى الرسوم الجمركية وسياسة الدعم وسائر الوسائل السياسية من أجل تطوير صناعاتها. وإنه لمن المفترض أن الدولتين العظميين الولايات المتحدة وانكلترا أن تكونا حصن التبادل الحر، وليس فرنسا وألمانيا واليابان، أي الدول التي تعتبر متمسكة بسياسة التدخل الحكومية .
وإذا كانت أشكال الحماية الضرائبية قد شكلت مقوماً أساسياً في استراتيجيات تطور العديد من الدول ، إلا أن ذلك لا يجعلها العنصر الوحيد ولا بالضرورة الأهم. فقد استخدمت من أجل ذلك وسائل أخرى عديدة مثل دعم الصادرات وخفض الرسوم الجمركية على الواردات الضرورية للصادرات ومنح حقوق الاحتكار واتحاد الشركات الذي يسمى " كار تل " والاعتمادات المحدودة والتخطيط للاستثمارات وتدفق اليد العاملة ودعم الأبحاث الخاصة بالتنمية وتطوير المؤسسات المشجعة على الشراكة بين القطاعين الرسمي والخاص الخ. وهناك اعتقاد بأن كل هذه الإجراءات هي من اختراع اليابان أو دول شرق آسيا بعد الحرب العالمية الثانية ، في حين أن الكثير منها يعود الى زمن أبعد بكثير. وأخيراً فإن الدول المتطورة، حتى وإن تكن قد اشتركت في المبادئ الأساسية نفسها، فإنها قد نظمت بطرق متنوعة جداً الأدوات الخاصة بالسياسة التجارية والسياسة الصناعية، وهذا يعارض ما يظنه معظم اقتصاديي التبادل الحر بأن هناك نموذج موحد للتنمية الصناعية.
ولو أن سياسة التبادل الحر كانت فعالة لكان على النمو الاقتصادي أن يتسارع خلال السنوات العشرين الأخيرة نظراً لاجراءات تحرير المبادلات التجارية . واليوم فإن الوقائع تتكلم ، فخلال "الأيام الصعبة" في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، أي عندما كان هناك المزيد من أشكال الحماية وسائر القيود، كان الاقتصاد العالمي يتطور بسرعة أكبر من اليوم. ففي تلك الحقبة من الزمن كان دخل الفرد عالمياً ينمو بنسبة 3 في المئة تقريباً مقابل 2.3 في المئة فقط في العقدين الأخيرين. وفي الدول المتطورة تراجع نمو دخل الفرد من 3.2 الى 2.2 في المئة ، بينما تراجع بنسبة النصف في الدول النامية. وربما كان قد انخفض بنسبة أكبر خلال الحقبة الأخيرة هذه لولا التروي الشديد من الصين والهند وهما الدولتان اللتان لم تستجيبا بشكل مطلق للوصفات الليبرالية.
يضاف إلى ذلك أن متوسط معدل النمو لا يمكنه أن يعكس حجم الأزمة التي عصفت بالعديد من الدول النامية في العقدين الأخيرين . أما الدول الشيوعية السابقة فإنها منذ بداية تحولها الى الرأسمالية شهد معظمها أقسى انخفاض في مستوى المعيشة في التاريخ الحديث.
باختصار ، لقد تبين بكل بساطة أن التجربة النيوليبيرالية في العقدين الأخيرين عجزت عن الإيفاء بوعدها الرئيسي أي تسارع النمو الذي باسمه طلب الينا أن نضحي بكل ما تبقى لدينا . وبالرغم من هذا الفشل البائس فان العقيدة النيوليبيرالية حول فضائل التبادل الحر تستمر في فرض نفسها بفضل جهاز اقتصادي - سياسي – إيديولوجي ، ليس هناك ما يضاهيه في حجمه وسلطته .
فالليبراليون الجدد ، بما لهم من سلطان على حكومات الدول الأكثر نفوذاً، وفي درجة أولى الولايات المتحدة وبريطانيا، باتوا قادرين على التأثير على البرامج السياسية للمؤسسات المتعددة الأطراف وفي نوع خاص على ما يسمى ب " الثالوث المقدس " المتمثل في صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية . وهم إذ يبسطون سلطتهم ونفوذهم على وسائل الإعلام المهيمنة على العالم أجمع ، فإن بمقدورهم تحسين وعند الضرورة إخفاء، المعلومات التي تضايقهم، وخصوصاً أرقام النمو المفجعة .
وفي الدول النامية يشتد الخناق النيوليبيرالي أكثر فأكثر. فالعديد من الحكومات تجد نفسها مجبرة على تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والدول المانحة الرئيسية التي لا مفر من الحاجة الى دعمها المالي ، وما يجب قوله هو أن هذه السياسات تخدم أيضاً مصالح المتنفذين المحليين أي مصدّري المنتجات الأساسية ومقدّمي الخدمات المهنية .
وضمن هذه الشروط، ما هو مستقبل مبدأ التبادل الحر؟
إن اتفاقيات التبادل الحر التي تلزم دولاً ذات مستويات إنتاجية مختلفة وذات فوارق كبيرة جداً، محكومة بالفشل عند حد معين ، لأن الدول الفقيرة سوف تدرك أن حركة النمو لم تتحقق فيها. أما المعاهدات المعقودة بين دول ذات مستويات نمو متقاربة مثل اتفاقية "المركوسور " في أميركا الجنوبية وهي التي تضم دول جنوب شرق آسيا، وأعضاؤها في معظمهم من الدول النامية، فإن أمامها فرص نجاح اكبر من مشروع منطقة التبادل الحر لدول القارة الأميركية ، التي تصر الإدارة الأمريكية على تنفيذه في مطلق الأحوال .
وحتى الآن لم تتخذ منظمة التجارة العالمية صيغة معاهدة التبادل الحر متكاملة كونها تسمح ببعض أشكال الحماية لصناعات الدول النامية. ومع ذلك فإن الضغط متزايد من أجل خفض الرسوم وخصوصاً مع الاقتراح الأمريكي بإلغائها كلها من الآن وحتى العام 2015 . وعلى أساس هذه الفرضية فإن احتمال الضرر من منظمة التجارة العالمية على نمو الدول الأكثر فقراً سوف يكون أكبر بكثير من ضرر منطقة التبادل الحر لأميركا الشمالية أو منطقة التبادل الحر للقارة الأمريكية ككل، إذ أن حالات التفاوت بين مستويات الإنتاج فيها هي أغنى بكثير من غيرها .
ذلك أن منظمة التجارة العالمية تتمتع بصلاحيات أوسع بكثير من صلاحيات معاهدات التبادل الحر، إذ أنها تهتم بموضوع الملكية الفكرية وبالأسواق العامة وبالاستثمارات. ومن هنا المخاطر التي ترهق كاهل حركة النمو في الدول الفقيرة.
وبالرغم من هذا فإن معظم هذه الدول ترغب في الحفاظ على عضويتها في المنظمة ، لأنها ترى فيها أهون الشرور ، كونها تسمح لها بإسماع صوتها في إطارالنظام التجاري العالمي . وقد تساعدها في تأمين الحد الأدنى من الحماية في مواجهة الضغوط ومن اجل تحرير مبادلاتها التجارية مع الدول المتطورة وبشكل أساسي مع الولايات المتحدة .
وقد لا يدوم هذا الوضع كثيرا نتيجة استياء الدول النامية من آلية العمل في منظمة التجارة العالمية، التي تدعي ظاهرياً الديموقراطية فيما هي عملياً يسيطر عليها مجموعة من المنتفعين من الدول الغنية . ليس فقط لأن هؤلاء يتمتعون بسلطة تسمح لهم بتملق أو بتهديد الأكثر ضعفاً ، بل لأن المشكلة تكمن في أنهم لا يكلفون أنفسهم عناء إنقاذ ماء الوجه كما يتبين من الاجتماعات المسماة اجتماعات " الصالونات الخضراء " التي لا يدعى إليها ممثلو الدول النامية ولا يسمح لهم حتى بالدخول إذا ما حاولوا ذلك ! وهذا ما يسمح باعتماد الأوليات السياسية الموجهة بكل فظاظة لصالح الاقتصاديات الأكثر نفوذاً .
وإذا ما استمرت منظمة التجارة العالمية في حرمان الدول الفقيرة من أدوات تحقيق نموها فمن الأفضل لتلك الدول أن تنفصل عنها بشكل جماعي. و في امكانها أن تحاول استخدام كامل الآليات الديموقراطية في المنظمة ساعية الى إعادة التفاوض على الثوابت الأساسية. وعلى افتراض أن هذا حدث، فان الدول الأكثر نفوذاً، وبصورة خاصة الولايات المتحدة التي تبنت السياسية الأحادية الجانب ، قد تقرر الانفصال عن منظمة التجارة العالمية بدلاً من المخاطرة بالانهزام في أي عملية تصويت قد تحدث. وفي كلتا الحالتين لن يبقى لمبدأ التبادل الحر أي معنى وسينتهي ، وليس بالضرورة أن يؤسف عليه كون نتائجه خلال العقدين الأخيرين تدعو إلى الرثاء في بعض الأحيان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أجواء من البهجة والفرح بين الفلسطينيين بعد موافقة حماس على م


.. ما رد إسرائيل على قبول حماس مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار؟




.. الرئيس الصيني شي جينبينغ يدعم مقترحا فرنسيا بإرساء هدنة أولم


.. واشنطن ستبحث رد حماس حول وقف إطلاق النار مع الحلفاء




.. شاهد| جيش الاحتلال الا?سراي?يلي ينشر مشاهد لاقتحام معبر رفح