الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اِسْتِنْفار في مدينة حلب

علي دريوسي

2017 / 5 / 3
الادب والفن


حصل أحمد على إجازة نهاية الإسبوع، مُطوّلة ليومٍ إضافي، لم يكن في جيبه إلّا ما يكفي لسفرةٍ طويلة نسبياً ذهاباً وإياباً، مثلاً بين مقبرة الشهداء في نجها، التابعة لمحافظة ريف دمشق، ومدينة حلب، كان ما يزال في بدايات خدمته الإلزامية في الثكنة العسكرية التابعة للمقبرة، كان راتبه الشهري كضابطٍ مُجنَّد مُقيم لا يتجاوز خمسة عشر دولاراً أمريكياً، كانت بالكاد تكفي لزيارة الأهل مرة في الشهر وشراء (كروز) دخان وطني، وصل سعر الدولار إلى حوالي سبع وأربعين ليرة في عام 1996.
كان قد حسم أمره في ذاك اليوم على زيارة عائلة صديقه جابر الذي يكبره ببضع سنين، بعد أن دعاه عدة مرات لزيارته والتفرج على المدينة، كان القادم من قرى الساحل المُتعبة من الفقر يعمل هناك كمهندسٍ في إحدى مؤسسات القطاع العام المتواضعة، اِستأجرَ لعائلته الصغيرة شقة لا تزيد مساحتها عن ستين متراً، كانت قوة جابر تكمن في قدرته على الكلام والتَبَجُّح، في صوته الواثق وكذلك في قامته الطويلة، بالإضافة إلى تلك الحقيبة السوداء ودفتر المواعيد والجريدة التي كان يتأبَّطهم في كل مكان.
وصل إلى المدينة الغامضة عند العصر، دخل الحارة حيث يسكنون في الوقت الذي راحت الجوامع تصدح من كل اِتِّجَاه: حَيَّ على الصَّلاة، حَيَّ على الفلاح... استقبله صديقه كما تواعدا أمام التِّمْثَال الحجري، تصافحا ومشيا، في الطريق اشتريا بعض أرغفة الخبز الطرية وأقراص الفلافل وكيساً من المُخَلّلات، في البيت شعر أنَّه بين أهله، لعب مع الصغار، تعشوا سوية، تحدثوا عن أخبار القرية، وقبل أن ينام على الصوفا في غرفة القعدة، تمنوا لبعضهم ليلة هادئة ونوماً هانئاً، فجأة قال لهم: سأدعوكم غداً لطعام الغداء على نفقتي، سنأكل الكُبَّة الصاجية الأصلية والكباب الحلبي، ما رأيكم؟
جَلْجَل صديقه بضحكة آخر الليل قائلاً: ومن أين تعرف مَذاق هذه الممنوعات؟ بالكاد تستطيع شراء سجائرك، أنصحك أن تنام وتحلم.
في صباح اليوم التالي وهم يتناولون فطورهم سألته زوجة الصديق: ما الذي تتمناه اليوم لأطبخه لك؟
أجابها زوجها دون أن يترك له فرصة للكلام: لا تهتمي اليوم بأمر الطبخ، سأحاول تلبية شهوة ضيفنا الغالي بالكباب والكُبَّة مهما كلفني الأمر، سنعود قرابة الساعة الرابعة للغداء سوية .
انطلقا إلى المدينة، أطلعه على مكان عمله، تمشيا قليلاً، ثم أمضيا وقتاً طيباً في إحدى المقاهي الشعبية، أثناء شربهما للشاي الأسود، قال لجابر: بالمناسبة معي في جيبي عنوان مطعمٍ شهير للمشاوي وما شابه، قدٌّمه لي أحد المُجنَّدين ممن يخدمون دورتهم العسكرية لدينا، بعد أن ساعدته قبل حوالي شهر في الحصول على إجازةٍ اِستثنائيّة قصيرة، عندما عاد جلب لي معه بضعة أقراص من الكُبَّة الحلبية، التي رأيتها للمرة الأولى في حياتي، وعندما تَذَوّقتها شاكراً شعرت أني أدخل الجَنَّة! يومئذٍ أعطاني كرت المحل وقال لي بودٍ: هذا المطعم لنا يا سيدي، أمانة أن تأكل فيه عندما تكون في حلب، سيعجبك الطعام وسيكرمك والدي إذا ما عرَّفته بنفسك.
ضحك جابر بخبثٍ: وهل تنوي أن تستدين طعام الغداء اليوم من مطعم العسكري؟ أين هي بطاقة المطعم؟
سحبها من جزدان جيبه وناوله إياها، قائلاً: ها هي، هل تعرف العنوان؟
نظر جابر إليها، قرأ العنوان، ابتسم كثعلبٍ ساحليّ وقال: جاءت على قدميها، قص ولصق، نعم أعرفه، إنه في حي قريب، تفصلنا عنه مسافة ربع ساعة بالسرفيس. ثم أضاف: دعنا نذهب إليهم!
قبل أن يصلا إلى هدفهما، كانت الرائحة الملعونة تعبق في الشارع، دخلا بثقة المسؤولين من رجال الدّولة، صديقه أولاً، بطقمه الرمادي، بذقنه الحليقة، بمنكبيه العريضين وجبهته الشامخة، تتراقص حقيبته السوداء وجريدتي تشرين والبعث تحت إبطه الأيسر، ودخل هو بعده شارداً حانقاً.
اِختارا لنفسيهما طاولة نظيفة قرب نافذة المطعم العريضة، جاء النادل يحمل معه ابتسامته وإِبْرِيق ماءٍ بارد وكأسين زجاجيين نظيقين، قدَّمهم وسأل بتهذيب: أوامركم يا أساتذة؟
صاح الصديق بوجهه نصف غاضب، نصف ممازح: أنت ورب عملك الأساتذة، اِذهب يا بني وابعث لنا بصاحب المطعم.
غيَّر النادل لهجته: تحت أمرك يا سيدي، الحاج يصلي في الغرفة الخلفية، أنا أخوه، أعمل معه، ألا يكفي؟
وضع جابر ساقه اليمنى على فخذه الأيسر، بانَ حذاؤه الأسود اللامع في قدمه الكبيرة، ضرب سطح الطاولة بجريدة الحزب، مُحاولاً إشعار النادل بغضبه الذي قد ينفجر في أية لحظة، نظر إليه عابساً وقال: قل لأخيك أن يستعجل صلاته، لا وقت لدينا، وخاصة سيادة النقيب، مُشيراً إلى أحمد، سيسافر بعد ساعة إلى قطعته.
بعد أقل من خمس دقائق حضرت كؤوس الشاي ووصل الحاج. رحَّب بالسيدين وجلس إليهما، ثم أشار للنادل أن يأتي لهما بما لذ وطاب.
قاطعه جابر: لا تعذب نفسك يا حاج، لسنا هنا للطعام بل للتعارف وإيصال السلام، أصدقاؤنا ينتظروننا في الفرع.
قال الحاج مدهوشاً: لو تسمحان لي بالسؤال، من حضرتكما؟
قال جابر: سأعرِّفك علينا، أنا العقيد جابر، أظنك سمعت باسمي في المدينة!
قال الحاج: وهل يُخفى القمر، ألست أنت يا سيدي رئيس دائرة التموين؟
أجاب جابر: لا عليك، وهنا سيادة النقيب المهندس أحمد، قائد الثكنة العسكرية حيث يخدمنا ولدك في المقبرة.
عندئذٍ نهض الحاج من كرسيه، مُتخلياً عن وقاره، اِغْرَوْرَقَتْ عيْناهُ بالدُّموعِ تأثُّراً لذكرى ولده البائس وقال: أبوس يدك يا سيدي النقيب، حفظ الله لك شبابك، أرسله لي في إجازةٍ، الحاجة تبكي ليل نهار، اشتاقت لولدها الصغير .لقد حاولت جاهداً نقله إلى حلب، دفعت كثيراً لبعض الأَوَادم، وعدوني بالمساعدة، لكنهم لم يستطيعوا، ثم اختفوا فجأةً كما ظهروا، واختفت معهم المصاري.
اندفع على يد المهندس أحمد ليبوسها فعلاً، أبعده عنه قائلاً: لا يوجد إجازات في هذه الفترة، إننا في حالة اِسْتِنْفار يا حاج، العدو مُتربِّص بنا، علينا اليقظة والحذر، لكنني سأحاول مساعدتك في أقرب فرصة، لا تقلقوا إنّه في أمان.
رمق جابر ساعة يده بِنظرةٍ خاطفة وكأنَّه يُعلن نهاية الزيارة، تَمَلمَلَ في كرسيه، شرب ما تَبَقَّى من ماءٍ في كأسه، أشار إلى ضيفه ثم نهضا.
أُصيب الحاج بالصدمة، فهو لم يتعرَّف إليهما بعد، ولم يحصل على وعدٍ قاطعٍ بالمساعدة ولا حتى على رقم تلفون، حلفَ عليهما أنْ يظلا في ضيافته إلى أنْ يتناولا طعامهما، رجاهما قبول دعوته.
قال أحمد بتواضعٍ مصطنعاً الجديّة: مائدتك عامرة يا حاج، في المرة الثانية إنْ شاء الله، الزملاء ينتظروننا في الفرع، إننا مستعجلون، لا وقت للطعام، الجيش في اِسْتِنْفار.
تدّخل الصديق جابر قائلاً: سيادة النقيب، بعد إذنك، دعنّا لا نحرج الحاج الطيب.
قاطعه الحاج: بارك الله بكم يا سيادة العقيد، أرحت صدري، تفضَّلا بالجلوس، سيصلكما الطعام حالاً، ثم صاح بعماله أن يأتوا لأخذ الطلبات.
قال جابر: طالما أن الأمر قد صار كما صار، لن أخجلك كونها المرة الأولى. نظر إلى ساعته مجدداً ثم أضاف: ما زال معنا حوالي عشر دقائق، إذا كان ولا بد سنقبل منك في المحل كأسين من العصير البارد، على أن تحضروا لنا الطعام لنأخذه معنا إلى الفرع، ما رأيك سيادة النقيب؟
ردَّ أحمد: لا بأس، لا بأس، مناسب لكن بسرعة، بسرعة لا وقت لدينا.
صاح الحاج مُغتَبِطاً: يا ولدددد، حضِّرْ طلبية في علبة نصف كيلو كُبَّة ونصف كيلو كباب للسادة، مع بعض السلطة.
قاطعه العقيد جابر بحزمٍ: الكمية قليلة يا حاج، هناك خمسة زملاء ينتظرون الأكل في الفرع، يا ولدددد، جهّزْ كيلوين من الكُبَّة الصاجية ومثلهما من الكباب ولا تنسى المقبلات والسلطات، لكن بسرعة البرق، مفهوووووم؟ ثم غَمَز ضيفه المهندس أحمد بطرف عينه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنان إيطالي يرسم برج إيفل في حقل زراعي احتفالا بدورة الألعاب


.. الكينج وكاظم الساهر وتامر حسني نجوم حفلات مهرجان العلمين فى




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت يتحدث عن كلمات أغنية ع


.. عوام في بحر الكلام - الشاعرة كوثر مصطفى تتحدث عن أعمالها مع




.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 8 يوليو 2024