الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوم الإضراب العام

هيثم بن محمد شطورو

2017 / 5 / 7
الادب والفن


انه قصير جدا. الاشتهاء ارتهاب. فكرة ارتداءه في هذا الشارع تبدو سابقة لأوانها بسنوات.
تبتسم للبائع المنتصب في بداية السوق الأسبوعي في شارع "الطيب المهيري" بساقية الزيت. الشارع الذي يتحير المرء في وصفه بالجميل أم بعدم الجميل. عمارة "عمار" ذات الطابقين تبرز كمعلم من الثمانينات لنجار ذاك الزمن الذي كان بإمكانه شراء العقارات و إبتـناء العمارات الصغيرة، قبل تغول بعض الشركات في التسعينات و استيراد الجاهز و السير الحثيث نحو القضاء على الإنتاج المحلي.
أمام باب العمارة رصيف عريض. مازال في الثمانينات التـزام غير مركب باحترام المسافات بين الناس بغض النظر عن القوانين التي لا تـفرض تلك المساحة الشاسعة لرصيف عمارة.
"الطيب المهيري" أول وزير داخلية في دولة الاستـقلال و هو عنوان محاربة أنصار "صالح بن يوسف" المنافس لـ"بورقيبة" على الحكم. أسماء الشوارع عندنا عارية من أي تعريف. تجد شارع "أبو القاسم الشابي" لكن دون ذكر كونه شاعر تونس الحرة القائل:" إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر".
الشارع يأخذ معنى آخر و هو المشرع الذي يكون إذن فاتح الشوارع بما هي قوانين تأخذ معنى الربط بين المناطق و تسهيل الحركة و إنشاء المنازل و الحوانيت على جوانبه، و هو معنى مناقض لما تمارس به القوانين من تعسف و فرض. فمن يفتح شارعا لا يفرض على الناس السير فيه.
سألته قائلة و هي تمسك التـنورة السوداء بأصابعها البيضاء الرقيقة:
ـ هل تـتصور أن تباع هذه البضاعة هنا؟
قال و هو منـشغل بترتيب بعض الثياب على الطاولة العريضة أمامه:
ـ أكيد. يستعملونها للنوم أو للسهرات الخاصة..
رغم كون الرجل أربعيني الوجه و شعره جاف غير ملمع و يرتدي جاكتة ذات مربعات رمادية و بيضاء تبدو قديمة جدا، فان عدم اهتمامه بها أحزنها. قلبت التـنورة مرارا و هي تتخيل نفسها مرتدية إياها. أكان من الممكن اختراع وسيلة أكثر شيطانية لإيقاد النار في النفوس؟
" أتراه منشغلا بباب الرزق أم هو عفيف؟"
لم تكن الفكرة تخطر على بالها و لكن هذا التاجر العفيف البائع للملابس في سوق أسبوعي بأسعار منخفضة جدا، جعلها تـشتري الميكروجيب الأسود دون أي فكرة واضحة أيان ترتديها.
***
" كان في مرة طفل صغير.. عم يلعب بالحارة.. عم .. عم يركب طيارة..."..
و أمام تصفيق الأم و تـقبيلها له و هرجها الكبير، انبعث في داخله تيار عذب طار به إلى أعلى العلى، حتى كأن الأرض برمتها تصفـق له..
ربما من أنعام الله عليه انه لم يقرأ لـ"فرويد" القائل أننا نمارس الجنس منذ الرضاعة من ثدي الأم، و أن المراهقة تـشهد رغبة لذوية في الأم. أي آيات شيطانية هذه تمحو كل سحر في عاطفة ينظر إليها أنها جليلة.. عاطفة الإحساس بالسمو اللذيذ..
حين اختار آلة "الكمان"، لم يكن يعلم أنها من أصعب الآلات الموسيقية. عازفة للكمان شاهدها ذات مرة في التلفزيون أذهلته. للكمان خصر و كأنها امرأة بين اليد و الذقـن يمر عليها بإصبعه الطويل جدا لينبعث صوت حنون هو الأقرب إلى العاطفة الإنسانية من جميع الأصوات التي تصدر عن الآلات الموسيقية الأخرى.
كان قـرابة شهرين يكرر عزف " دو، دو ، ري، ري، مي، فا، سول.."، حتى خرج من غرفته ذاك المساء ليهل على أمه الجميلة الأنيقة ذات العطر الذي يدوخه دوما..
كانت النافذة البلورية الكبيرة تعكس أضواء الحديقة المعـشبة، و كانت الأضواء في الداخل خافتة، و الصمت يعم الصالون الشاسع المزدان بالأثاث الفاخر و اللوحات الفنية. كانت تـتمايل راقصة متـتبعة اللحن، أما هو فقد اعتـقد في تلك اللحظات أن الأرض هي التي خلقت سمائها..
الإنسان عديم التوقف. اختار أغنية أمريكية. ربما نكاية في أبيه المحامي الذي يعلن كرهه لأمريكا دون أن يكون على علم بقصة "اوديب" قاتل أبيه المتزوج من أمه و فـقـئه لعينيه، و التـفسير الفرويدي الذي وجد في تلك الأسطورة اليونانية تعبيرا واضحا عما وصل إليه من كشف عشق للام و غيرة من الأب، و العكس بالعكس عند "الكترا" أو البنت..
حين تخيل نفسه قد انتهى من حفظ عـزف الأغنية الجديدة، اختار مساءا آخر خافت الضوء، و لكن تصفيق الأم هذه المرة لم يكن قويا كما أنها لم ترقص و لم تهل عليه بعطرها.
ـ ألم تعجبك؟
ـ لا. بالعكس.. لكن المرة السابقة أفضل..
ـ أي مرة سابقة.. إنها أغنية جديدة..
قالت:
ـ لم استمع لجديد..
أحزنه أن تكون أمه سجينة اللحن الأول. الأول البدء و ليس البدء و المنتهى.
" أفسر الأمر انك ترفضين أي عزف آخر مني إلا ذاك. هذا الرفض يجعلك لا تستمعين إلى الجديد و على وقع العزف تـتخيلين انك تستمعين اللحن الأول.. هذا خيال و ربما مرض.. انفصال عن الواقع.. يجب أن تـزوري طبيبا نفـسيا.. أنت ترفضين أن تراني أتـقدم.. ترفضين أن لا أكون دوما إلا طفلا دون أن أتـقدم.. أنت رجعية مثلما يقول أبي و ترفضين فكرة التـقدم أصلا."
قالت و هي تبتسم :
ـ أنت حبيبي. طفلي الرائع دوما.. كان في مرة طفل صغير.. عم يركب طيارة.. سنذهب إلى اسبانيا هذا الصيف و ستركب الطيارة.. وعدني أبوك بذلك.."
أما هو فبكل حزن يردد:
ـ لماذا تريدين سجني أماه في الذي كان انعتاقـا نحو السماء ؟..
***
شوارع مركز المدينة طوفان من البشر. شوارع استحالت شعرا. النظام ينهار و الروح صاخبة. انفـسخ شارع النظام و القانون و هتف الروح الشاعري الصاخب الغاضب قائلا : "إذا الشعب يوما أراد الحياة ، فلابد أن يستجيب القدر"...
" التـشغيل استحقاق يا عصابة السراق".." الشعب يريد إسقاط النظام"..
كان يوم الإضراب العام. دكتور الكيمياء الذي كان يتحرج في المقهى من التحدث عن النظام. القاضي الذي لا يتحدث مع احد. الشباب المائع الذي لا يتحدث في أي مسألة عامة و يشك حتى في قدرته على التـفكير.. انقلاب فجائي. جميع أشكال الوجوه مشاركة في نداء الاتحاد العام التونسي للشغل في الإضراب العام ضد السلطة التي تعـسفت في قمع المحتجين في سيدي بوزيد و الرقاب و المكناسي.. الإضراب العام تحول إلى ثورة ضد النظام و ضد الدكتاتورية..
بعض النيران و شباب زاحف و شرطة عاجزة عن الردع..
كان هو في حديقة الأطفال يعزف مغمض العينين وسط هدير الجماهير القريبة جدا.. كان غائبا تماما إلا عن مخاضاته.. كانت هي تتمايل إلى جانبه كوهج من نار.. كانت تتمايل على هامش الجماهير الصاخبة.. تمكنت أخيرا من ارتداء الميكروجيب الأسود.. تمكنت من التعري وسط العيون و الحشود التي ليس لمثلها حشود.. تمكنت من كسر حاجز المجتمع الذي لديها في الذهن ليتولد مجتمع آخر..
و توقف عن العزف. و جلس على المقعد منهكا. و اندهش لوجود حسناء فائقة الجمال بساقين فاتـنـتين عاريتين إلى جانبه.
قالت:
ـ عزف رائع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ذكريات يسرا في مهرجان كان السينمائي • فرانس 24 / FRANCE 24


.. الفنان السعودي سعد خضر لـ صباح العربية: الصور المنتشرة في ال




.. الفنان السعودي سعد خضر يكشف لـ صباح العربية سبب اختفائه عن ا


.. الفنان السعودي سعد خضر يرد على شائعة وفاته: مزعجة ونسأل الله




.. مهرجان كان السينمائي : فيلم -البحر البعيد- للمخرج المغربي سع