الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق: فواتير ديمقراطية ال -بزنس- المضرّجة بالدولار

صبحي حديدي

2006 / 1 / 28
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


طريف، رغم أنها طرافة مريرة سوداء، أن يزور المرء موقع "المفتش الخاصّ لإعادة إعمار العراق" SIGRI على الإنترنيت، فيقرأ ما جاء في تقريره الأخير من فضائح واختلاسات وهدر أموال عراقية، على يد بعض ممثلي سلطة التحالف، وبمشاركة أو بعلم أو بتشجيع أو بإغماض العين من جانب سلطات الإحتلال الأمريكية. الصحافة الأمريكية، ثمّ العديد من وسائل الإعلام الدولية، تناقلت طرائف المسؤول العسكري الأمريكي الذي رافق فريق الملاكمة الأولمبي العراقي إلى الفليبين، فأنفق 40 ألف دولار من مخصصات الفريق على موائد القمار؛ أو الموظف الذي أخفى مليوني دولار، سيولة خالصة، في صندوق أحد المراحيض؛ أو المتعهد الذي قبض 100 ألف دولار لإعادة تجهيز المسبح الأولمبي، فلم ينجز سوى دهان مضخّة المسبح، فقط لا غير؛ أو ذلك المتعهد الذي أعاد تجهيز مستشفى الهلال بمصاعد جديدة، وقبض أكثر من 660 ألف دولار، فهوى أحد المصاعد إلى الطابق السفلي وكاد أن يودي بحياة ثلاثة أشخاص...
المفتش العام هذا يرفع تقريره إلى اثنين من كبار صانعي القرار في الولايات المتحدة، وزير الدفاع دونالد رمسفيلد ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، الأمر الذي يعني أنه يمزج الشأن السياسي بالشأن العسكري من جهة، وينتهي بالتالي إلى خلاصات وتوصيات ذات طابع استراتيجي بعيد الأثر من جهة ثانية. وكانت هذه ستمرّ مالوفة عادية على هدي ما يجري من فساد هنا وهناك في العالم شرقاً وغرباً، لولا أنّ التفاصيل مذهلة في جانبين جوهريين، بين جوانب أخرى أقلّ إثارة للإنتباه: أنّ الفضائح تلك تدخل، أوّلاً، في سياقات منهجية منتظمة تجعلها أقرب إلى النسق الدائم وليس المظاهر العابرة؛ وانها ثانياً تتمّ في شروط احتلال عسكري تمارسه ديمقراطية عريقة يحدث أنها أيضاً القوّة الكونية الأعظم، ودائماً تحت شعار تحرير العراق من دكتاتورية العهد البائد.
هنالك، في ميادين الفساد والهدر والنهب هذه، قطاع محدّد زاخر بالأسئلة وعلامات الإستفهام، هو عائدات النفط العراقي: أين تذهب؟ ما قيمتها؟ مَن يتحكّم بها؟ متي ستوضع في خدمة العراقيين؟ ذلك لأنّ المعلومات الرسمية، التي توفّرت قبل نحو عام من الآن، تقول إنّ كامل عائدات مبيع النفط والغاز العراقيين، بالإضافة إلى مليار دولار اقتُطعت من "برنامج النفط مقابل الغذاء"، ذهبت إلى "صندوق تنمية العراق" الذي تمّ إنشاؤه قبل أكثر من عام بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483. والقرار ذاك نصّ على وضع الصندوق في عهدة الإحتلال، بغرض استخدام الأموال على نحو شفاف لتلبية الحاجات الإنسانية للشعب العراقي. كذلك نصّ على أن يعيّن العراق هيئة محاسبة تتابع أوجه صرف تلك الأموال، بما في ذلك قانونية العقود التي تبرمها سلطات الإحتلال مع مختلف المتعاقدين.
ما لا يعرفه الكثيرون، ولكنّ كان يعرفه حقّ المعرفة أمثال غازي الياور وإياد علاوي، ويعرفه اليوم جلال الطالباني وإبراهيم الجعفري، أنّ هيئة المحاسبة هذه لم تتمكن أبداً من أداء عملها كما ينبغي (وعلى سبيل المثال فقط، لم تفلح في تدقيق عقود الإحتلال مع الشركة العملاقة هاليبرتن، ذات الإرتباطات الوثيقة القديمة والمتجددة مع نائب الرئيس الأمريكي ديك شيني)، وجابهت عشرات العراقيل البيروقراطية. في المقابل، وعلى نقيض ممّا هو شائع، لم تنفق سلطات الإحتلال سوى 500 مليون دولار من مبلغ الـ 18.7 مليار التي وضعها الكونغرس في تصرّف البيت الأبيض بهدف إنفاقها في العراق، حسب معلومات صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية. من جانبها كانت صحيفة "نيويورك تايمز" قد خفّضت المبلغ إلى 400 مليون، وأوضحت أنّ معظم الصرف ذهب لصالح متعاقدين أمريكيين وشركات أمريكية، وهذه لم تشغّل أكثر من 15 ألف عامل عراقي!
وفي الجزء الثالث من دراسته الممتازة "المخططات الأمريكية لاستنزاف ثروات العراق وسرقة أمواله: ارقام وحقائق"، وهو الجزء الذي يفصّل القول في طرائق النهب المباشر عن طريق الإستيلاء أو وضع اليد، والتي تبلغ شأو السطو الصريح، يسرد محمد القيسي عشرات الأمثلة المذهلة التي لا يمكن أن تندرج في الخانة المألوفة للفساد المألوف، بينها:
ـ وضع اليد، بقرار مباشر صدر عن البيت الأبيض سنة 2003 أثناء العمليات العسكرية لغزو العراق،على الأموال العراقية المودعة على نحو أو آخر، هنا وهناك في العالم، والتي تقدّر بأكثر من 13 مليار دولار. أضيفت إلى هذا أموال العراق داخل الولايات المتحدة، البالغة أكثر من ثلاثة مليارات.
ـ بمصادقة من مجلس الأمن الدولي، استولت سلطات الإحتلال الأمريكية على الرصيد المتراكم من اموال برنامج "النفط مقابل الغذاء"، والتي كانت في حساب العراق حتى آذار (مارس) 2003، بقيمة 21 مليار دولار.
ـ جمعت سلطات الإحتلال سيولات مالية متفرقة، عُثر عليها في القصور الرئاسية والمقرّات الخاصة، لا تقلّ عن ستة مليارات، تُضاف إلى أربعة مليارات من الدولارات كانت في المصرف المركزي العراق.
غنيّ عن القول إنّ هذه الأموال لم تذهب إلى خزينة إنماء الشعب العراقي أو تطوير الديمقراطية أو بناء المشافي والمدارس ورياض الأطفال والجامعات، بل جرى هدرها لصالح الشركات الأمريكية الكبرى، وشراء الذمم السياسية، وتوزيع الهبات والأعطيات على الأزلام والموالين، أفراداً وقوى سياسية ومذهبية على حدّ سواء. وكانت الـ BBC قد أجرت تحقيقاً مثيراً حول اختفاء مبلغ 11.300 مليار دولار قبيل ساعات معدودات من مغادرة الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر العراق نهائياً، وأشارت تقارير صحفية إلى أنّ المبلغ "طار" ـ بالمعنى الحرفي للكلمة، وعلى ظهر حوّامة عسكرية! ـ إلى جهة مجهولة في كردستان العراق، قبل أن يسافر من جديد إلى بنك مغمور في سويسرا، كما رجحت صحيفة الـ "فايننشيال تايمز" آنذاك.
ثمن باهظ يدفعه أبناء العراق من اجل الديمقراطية... باهظ حقاً، بل لعلّه الأبهظ في تاريخ الديمقراطيات جمعاء!
وفي صيف 2002 جرى حوار لافت، عبر الفيديو، بين نائب الرئيس الأمريكي وستة شخصيات عراقية زعمت تمثيل الشعب العراقي آنذاك، شهد جزماً قاطعاً من جانب ديك شيني بأنّ الولايات المتحدة لن تجازف بأرواح جنودها ولن تضحي بشبابها من أجل استبدال دكتاتور بآخر. الوفد العراقي سمع كلاماً مماثلاً من وزير الخارجية في حينه، كولن باول، ومن وزير الدفاع رمسفيلد. الأهمّ من هذا وذاك هو التتمة التالية: أعضاء الوفد العراقي أنفسهم شدّدوا، بدورهم، على أنّ فصائلهم (نعم: فصائلهم!) لن تخوض الحرب مع أمريكا إذا كان الهدف هو استبدال دكتاتور بآخر! تصريحات مثل تلك جرت على لسان أمثال جلال الطالباني والشريف علي بن الحسين وأحمد الجلبي، ممّن كانت الديمقراطية ترشح من أصابعهم كما الزيت المبارك، وتسري في عروقهم مختلطة بالدماء، ولهم في الممارسة الديمقراطية باع طويل طويل! هؤلاء، بقيادة رجال من أمثال شيني ورمسفيلد، كانوا فرسان تحرير العراق من الدكتاتور، ومشاريع بُناة النظام الديمقراطي العراقي الذي ينبغي أن يكون ــ أيضاً وبالضرورة ــ النظام الديمقراطي العربي الأوّل، والأمثل، والأقوى، والأصلب عوداً.
أين نحن، اليوم، من تلك العهود والوعود؟
بل أين نحن من تلك العهود والوعود في بلد آخر شهد حملة صليبية أمريكية أولى من أجل الديمقراطية، هو أفغانستان؟ توماس فريدمان، المعلّق الشهير في صحيفة «نيويورك تايمز»، اعترف ذات يوم أنّ الولايات المتحدة كسبت الحرب في أفغانستان عن طريق الـ «ريموت كونترول»، أي عن طريق التحكّم عن بُعد: سلاح الجوّ الذي لا يُقابَل بأيّ نوع من المقاوِمات الأرضية، طائرات بلا طيّار، صواريخ كروز، ميليشيات قبائلية محلية، وحفنة محدودة من القوّات الخاصة الأمريكية. لكنّ فريدمان اعترف أيضاً أنّه لا يمكن الفوز بالسلام عن طريق الـ «ريموت كونترول»، وهذا صحيح تماماً.
والرجل، الذي قام بجولة ميدانية في شوارع كابول، أبدى الكثير من الدهشة الدراماتيكية إزاء عدد من المشاهد وجدها أدلة قاطعة على الفوضى والخطر الكامن: رجل يقود دراجة بقدم واحدة، أناس يغسلون سيارة بمياه المراحيض، حمار أبيض يخبّ على الإسفلت خلف موكب السيد فريدمان، السادة وزراء الحكومة الجديدة يأتون لمقابلة مندوب الأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي في سيارة أجرة... كان مندهشاٌ، ولكنه كان قلقاً أيضاً. صحيح أنه يتفهم تردّد إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش في التورّط أكثر فأكثر، ويقدّر حجم المخاطر التي يمكن أن تنجم عن الغرق في الرمال الأفغانية المتحركة. ولكن إذا كانت الإدارة لا تنوي «امتلاك» أفغانستان، فإنّ من واجبها أن «تستأجره» لبعض الوقت، وإلا فإنّ «هذا البلد سوف يرتدّ سريعاً إلى ما كان عليه: جيرة السيد بن لادن». ألم يستعطفه آنذاك وزير الداخلية يونس قانوني: «نتأمّل أنّ الولايات المتحدة لن تتخلى عن أفغانستان»؟ ألم يحاول رئيس الحكومة حميد كرزاي استمالة قلبه: «لقد استقبلت أكثر من 2500 مواطن أفغاني، وكلّهم يطالبون بالأمن»؟ ومَن يملك مفاتيح الأمن سوى اليانكي؟
غير أنّ فريدمان تغافل عن حقيقة أخرى مفادها أنّ الولايات المتحدة تملك وتستأجر وتحكم أفغانستان عملياً وفعلياً وقانونياً، ليس عسكرياً فحسب، بل بسبب الحقيقة التي تقول إنّ نصف أعضاء الحكومة الأفغانية... حائزون على الجنسية الأمريكية، وهم مواطنون أمريكيون بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى الولاء! هنالك، أوّلاً، رئيس الحكومة حميد كرزاي الذي شغل منصباً رفيعاً في تمثيل إحدى شركات النفط الأمريكية الكبرى. وهنالك، بعدئذ، وزراء المالية والثقافة والتربية والتعليم العالي والريّ والأشغال العامة...
وفريدمان رأى أنّ تمويل عمليات إعمار أفغانستان هي مهمّة الدول الإسلامية، النقطة التي تمكّن فريدمان من استعراض مهاراته في السخرية والمفارقة: «لعلّ العالم الإسلامي، الذي أبدى الكثير من القلق على المدنيين الأفغان حين كانت أمريكا تقصف هنا، يستطيع الآن إرسال المال بعد أن توقّف القصف وبات الناس في حاجة إلى أن يأكلوا»! تماماً كما فعلت أمريكا، والاطلسي، في سراييفو وكوسوفو: نخرّب، ثم نبني أو نعيد بناء ما خرّبنا، وعليكم أنتم سداد الفاتورة. سلام البلقان بعد حرب البلقان، وسلام أفغانستان بعد حرب أفغانستان، وسلام العراق بعد غزو العراق... والفواتير متعاقبة دسمة!
هي، كذلك، فواتير اختبار كلّ أسلحة التدمير الشامل ما عدا «السلّة» النووية، لاعتبارات لم تعد ذات صلة بالرأفة على بني آدم. فواتير أخلاقيات غوانتانامو، حين لا يكون المعتقل في الحرب أسير حرب، وحين لا تكون له أيّ حقوق كما تفاخر وزير الدفاع الأمريكي دونالد رمسفيلد، في نبرة بذيئة وقحة متغطرسة أين منها أقذر تصريحات عتاة الفاشيّيين في الماضي والحاضر. فواتير العالم الجديد، الذي لا يكفّ عن بعث أشباح العالم القديم. فواتير الماضي بوصفه سيّد الحاضر، والشبح الذي يحوم في المستقبل أيضاً. فواتير البناء بعد التخريب، والتخريب بعد البناء، وفواتير الكثير من الـ «بزنس» والأرباح بين تخريب وبناء وتخريب!
طريف، إذاً، أن يقرأ المرء ما تقوله المؤسسة الحكومية الأمريكية ذاتها، بلسان "المفتش الخاصّ لإعادة إعمار العراق"، عن الفواتير الباهظة التي يتوجّب على العراقيين سدادها ـ قسراً، وليس طواعية! ـ من أجل ديمقراطية "البزنس"، هذه المضرّجة بالدماء والدولار!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا: انقسام الجمهوريون وأمل تبعثه الجبهة الشعبية الجديدة


.. هل تتجه فرنسا نحو المجهول بعد قرار ماكرون حل البرلمان وإجراء




.. حزب الله.. كيف أصبح العدو الأكثر شراسة لإسرائيل منذ عام 1973


.. ترامب ينتقد زيلينسكي ويصفه -بأفضل رجل مبيعات-| #أميركا_اليوم




.. تصادم قطارين في الهند يودي بالعشرات