الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوهام النبوة

حسام الدين مصطفى

2017 / 5 / 11
الادب والفن


(كهيعص،ذكر رحمة ربك عبده زكريا)
نداء غامض خفي، يربطني بتلك الأحرف المقطعة، يقشعر جسدي كلما مسحت عيناي كلماتها المقدسة. تلك القدسية التي تروي قصة ذلك النبي ،مع العذراء البتول ،في سورة مريم، زكريا. وأنا أيضا زكريا،وشتان بيني وبين ذاك الرجل المقدس.ذلك النبي الذي لم يحمل في حياته ذنبا كالذي أحمله ، فلم يسبق له أن أزهق روحا، أو دفن جسدا بشريا داخل " صبة " من الأسمنت المسلح. لم يسبق له أن دنس جسدا نقيا، بأصابع سوداء نجسة، وبرود من اعتاد الخطيئة، وألفها، وأصبح في محرابها عابدا، بل وعاشقا أيضا. ولكني أنا فعلت، أنا... زكريا.
زكريا، أبتسم وأنا أردد هذا الاسم، لماذا لا تحمل الأسماء صفات أصحابها، لماذا لا يصبح من يحمل اسم زكريا ويحيى ومحمد وعيسى وموسى، في طهارة الأنبياء، ونقاء القديسين. لماذا لا يعصمون من الخطأ إكراما لهؤلاء؟!
إن أحدا منهم لم يسبق له وعمل سائق أوتوبيس، ولكن هل عملي هو السبب؟ إنني أقود حافلتي ثمان مرات يوميا، ذهابا وإيابا من محطة الرمل حتى شاطئ وادي النخيل بالعجمي، وبعد أن أنتهي،أذهب لشاطئ سيدي بشر لأجلس على حافة"بير مسعود" أنظر إلى الماء الذي يصطخب بعنف داخله،وأفكر، لماذا لم تصعد لحافلة أخرى؟ ترى أكان سيفعل سائقها ما فعلت؟ هل سيقع أسير رموش عينيها الفاتنة؟ أسير بشرتها الرقيقة، التي تحمل ذلك اللون البرونزي ، المميز لكل من يحمل الجنسية السكندرية؟
"مالك يا زكريا مش زى كل يوم؟!"
يقولها مرسي وهو يجلس على مقعد محمول إلى جواري، أتجاهله كالمعتاد، وأسأل نفسي، هل يمكن أن يحبها مرسي مثلما أحببتها؟
لم يكن حبي لها عاديا، كان مجنونا بكل المقاييس، ابتسامة شفتيها سحقتني، وأنا أنظر في المرآة الجانبية اليمنى. رأيتها تصعد سلم الحافلة، لم أستطع رفع عيناي عنها حتى جلست على المقعد الخالي. كانت محاطة بنور غريب استشعرته ولم أره، رأيته بقلبي يشع من وجهها الدائري الرقيق، المحاط "بايشارب" وخمار. عيناها ضيقتان، نعم، ولكن جفناها ورموشها رسمتها ريشة فنان قدير. يومها أحدثت بلبلة كبرى في المرور على طريق الكورنيش، وتسببت في حادث تصادم في "المكس" لأنني كنت أنظر في المرآة الداخلية أثناء القيادة.
" كهيعص"
تقتحمني هذه الكلمة، أشعر بها تقفز من مكانها المطبوع فوق رأسي، وأنا أجلس خلف عجلة القيادة، لتمزقني قطعا، وتحيلني أشلاء متناثرة. كلمة سر مقدسة، سمعتها في شريط بصوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد وهو يقرأ سورة مريم، عندما تنبهت أن فاتنتي المجهولة، تعمل في محل لتصوير الأوراق بالقرب من محطة الرمل.
أدمنت هذا الوجه، أستنشق عبيره بعيني دوما، وهي تصعد من محطة أبو يوسف بالعجمي إلى حافلتي في تمام الثامنة. تصل إلى محل التصوير الذي تعمل به التاسعة إلا ربعا. تعود في الثانية إلى نفس المحطة في حافلتي، ثم تعود إلى الرمل في الخامسة، وتنهي عملها في الحادية عشرة ليلا، لتستقل آخر حافلة يقودها مرسي. هذا ما أوصلني له برنامج مراقبتي لها، ولكنه لم يقدني إلى اسمها.
وردية عملي تنتهي في السادسة، ولكن في اليوم الموعود ولدت زوجة مرسي، ورجاني أن " أطبق " ورديته أيضا. وافقت بسرعة، كان من المستحيل أن أضحي، وأحرم نفسي من رؤية وجهها الملائكي مرة اضافيه.
حب من طرف واحد هو، أم رغبة ملكت علي مجامع عقلي، وأغرقت جسدي كله بدماء حارة فوارة. أتطلع إليها صاعدة درجات الباص الخالي من الركاب، تجلس وحيدة على مقعد يجاور الباب والنافذة، وتشرد في هواجسها كما اعتادت دوما. لم يحدث مرة أن انتبهت إلي وأنا أتطلع إليها في المرآة الداخلية، ولكني أحسست هذا اليوم أنها استشعرت مني قلقا غريبا بعد أن ضبطت عيناي أكثر من مرة تسترق إليها النظر.
بعد أن عبرنا حي المكس، انطلقت بالباص الخالي إلا منها على طريق المصانع، توقف الباص في تلك المنطقة الخالية. برودة الجو في هذه الليلة من شهر ديسمبر، جعلت الطريق مقفرة بلا حياة. لست أدري لم توقف المحرك ، ولكني رأيت في عينيها نظرات ذعر متسائلة. قمت من مقعدي، وهبطت من الحافلة، درت حولها وكشفت غطاء المحرك لأستطلع ما يحدث.لم يكن هناك شئ يذكر، صعدت إلى الداخل لأحضر أدوات الصيانة، ولكن مرآها صدمني.
كانت تقاوم نعسا يهاجمها بضراوة، تحاول إبقاء رأسها مرفوعة دون جدوى. مظهرها الملائكي، أشعل في جسدي النيران. جلست جوارها على المقعد، اقتربت منها، أحطت جسدها بذراعي محاولا تقبيلها. انتفضت صارخة، حاولت مقاومتي ودفعي بعيدا، ولكني تحولت إلى وحش بارد مجنون. أجلستها على المقعد في بأس، رفعت يدي، وهويت بقبضتي المضمومة على رأسها، بكل ما أملك من قوة. كان هدفي أن تغادر الوعي، ولكنها غادرت الحياة كلها دون أن أدري. دفعني جنون النشوة، لانسكب في بحرها النقي، وألوث جسدها الطاهر بأصابعي.
انطفأت نيراني، وانسحبت الدماء الحارة من جسدي في هدوء. حاولت إفاقتها، اكتشفت وفاتها. أتاني من بعيد صوت ماكينات عملاقة، تركت الباص، تحركت تجاهه،وجدت خلاطات اسمنت عملاقة تصب أساسات مصنع في المنطقة. عدت إليها، حملت جسدها في خفة، وألقيته من ركن خفي في قلب صبة الأسمنت، التي دفنت براءته في لحظات، وتركتني أشاهد جريمتي تكبر وتعلو كل يوم مع جدران هذا المصنع، الذي أمر عليه في ذهابي وعودتي.
أضغط دواسة الوقود، ينهب الباص الطريق بسرعة أكبر، أحاول اللحاق بموعدها المعتاد في تمام الخامسة، على محطة أبو يوسف. أصل إلى المحطة، أتوقف طويلا. أحلم بأن تظهر ثانية، وتصعد درجات الأوتوبيس، ولكن حلمي لا يتحقق، أتحرك بالباص في سرعة تتزايد تدريجيا، يقفز عداد الكيلومترات في جنون، يصرخ الركاب في ذعر وغضب، ولكني لا أسمع صرخاتهم، تدوي في أذني بدلا منها كلمة سري المقدسة. أرفع رأسي لأعلى، أقرأ الآية التي تمزقني كلما قرأتها
" كهيعص، ذكر رحمة ربك عبده زكريا "
أصرخ بكل قوتي في جنون
-لست أنا زكريا النبي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا


.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07




.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب


.. فيلم سينمائي عن قصة القرصان الجزائري حمزة بن دلاج




.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت