الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نيوزلندا ... زيارتي إلى أوكييا أقدم كنيسة في نيوزلندا

تيسير الفارس العفيشات

2017 / 5 / 13
الادب والفن



في مدينة هاملتون أمضيت سحابة اليوم، هي مدينة ملئى بالأحاسيس الناظرة والاماني العامرة ، مدينة تعتمرُ في قلبها قداسة لا تعدلها قداسة السماوات، ترابها زكي وصخرها ندي، عيونها باكية و سهولها ساجية، نشيجها يتهادى مثلما تتهادى الرحمة من قلب نبي، أمواه سيلها العرم تساقط من أعالي شلالاتها كتلا موشاة بالعطر والحنان، هي أغاريد تراقصها ريح الجنوب حينا، والشمال أحيانا ..فتطلق من قلبها زفرات وهمهمات تتردد أصداؤها في السماء الوادعة . مدينة مثل دهشة هاربة من نثار خيال شاسع، تنسلُ من فضائها حكايا التاريخ الغافية في تيه الزمن، دخلتها بين مواكب الأشجان والأحزان في صبيحة هذا اليوم (الأحد) من أواخر يناير هذا العام .. سهوب من الخضرة تمتد ما إمتد البصر، تتخللها أفواف من الصفرة الكابية، في محياها يُسٓبِّحُ الفجر البهي. نفسي تفر مني ودموعي تنعقد مثل حبات الجمان.. وأنا ساهم الفؤاد أرقب مشهدا يهتف في سمعي وعيني لحنه العذب.
ذهبت هناك مع حزني ووجعي وإنكساري، حاملا القليل من الزاد والكثير من الوجع، غبت هناك مثلما غابت أحلامي في خرائط الوهم وعزلة الروح ، أرنو إلى وميض سماء كانت فيما مضى تزفّ لي أنخابها بسخاء وتضمّد جراحي ..
وما هي غير لحظات حتى أخذت أهندس روحي وأفرد أشرعتها عَلى كل الاتجاهات. إنها المدينة المصقولة الخالية تفرش عتباتها لكل الناس، أصعد درجاً طويلاً يشرفُ عَلى منحنى مبسوط على طرف وادي عميق ترقص فيها جنية أخذت ترفع أطراف ثوبها لتغويني. كلما مالت هوادج الشمس الضاحية حملت لي خيوط نورها العبير الزكي ، وتهادى صوتها هماساً :
أيها الذاهب إلى عتباتي كيف لي ان أهب قلبك خيالا شاسعا باذخاً يزهر بالأساطير، ويزدحم بالرؤى ؟
مدينة مفوفة الاردان كأنها أزاهر تبث في الجو سحرا محموما وهمسا مشفوعا بآهات العذارى، وموسيقاها الشجية الألحان تبعثها طبيعتها الساحرة الخلابة، يرددها بفطرة حسه سحر نهرها في صباحاتها الوضيئة، أو صدح بلابلها في مسائاتها الأنيسة مما يبعث أثرا شجيا في النفس يعبق بالسحر والروعة والجلال والجمال كلما .....
ولكم وددت أن أزوّٓر لنفسي السكنى في هذا المكان الذي مزج بين الجمال وبين الألوهية، بين الشهوة والتقوى، بين الآنفلات من العقل الى السباحة في بحور الشهوة الغارقة في حمأ مسنون .
هذا النهر المدنف بدموعه يتلوى مثل الحية الرقطاء يتهادى ثمل بمياهه المتدفقة كأنه شهوة من زفرات الخلق الأول..
وإما بدهتك اشعة الشمس الوضيئة التي تنعكس أطيافها الرائعة على صفحة مائه الوضيء الذي يتصاعد منه الرذاذ اللطيف فتحمله النسائم العليلة في كل اتجاه حتى يلطم المساكن الغافية على حفافي النهر ويستحيل إلى قطرات من الندى الزكية كأنها حبات ماس تعكس ضوء الشمس في كل إتجاه.
اي مورد عذب لروح هذه المدينة الهائمة عند مشارف فجرها أو انثناءات روحها الهائمة التي ترف كما الطير الجريح في هذا الفضاء الشاسع المدى ...
وشوشات أدواح عطرة تبعثها في نفسي ذكرى تمر على عجل، لأروي قصة حياة هذه المدينة ، لكن هيهات .. فكل مدينة هي كائن حي يولد ثم ينمو ويشب ويهرم ويشيخ ثم يموت ويتحول إلى أطلال وبقايا ذكرى، فكيف يتأتى لي أن أروي قصة كأئن على هذا النحو ...
أعز ما في هذه المدينة وأغلاه وأثمنه كنيسة ( أوكييا ) بلغة ( الماوري ) أو (النور) بلغة القوم في هذه الايام ، غادة خليقة بالعبادة هذه الكنيسة التي قامت في قلب دير واسع تربع على كتف هضبة قليلة الارتفاع، هذا إذن معراجي أو رحلتي السماوية مع صبيحة هذا النهار المشمس ، أي نعيم وأية سكينة يستشعرها الزائر في أرجاء كنيسة عامرة بالجلال، وعبق الإيمان يطوف فضاءها، كلما أمعنت النظر فيها زادت روعة وجمالاً، ومن الباب على يسار الداخل وجدتني في الهيكل المقدس، هيكل في تمام كماله كأنه ثريا رائعة من البِلوّر النبيل، بناء غائر قليلا على مستوى الفناء، وله طابقان متمايزان فوقه سقف هرمي تبرز مفاصله في دعائم طولية تضفي عليه ما يشبه حجر المرجان، وكل زوج منهما تعلوه قوس فوقها قوس أخرى ثلاثية والكل يتصاعد في وثبة واحدة ينهض بها سهم من الرخام الأبيض يرتفع حتى ثلاثة وثلاثين مترا فوق سطح الكنيسة وقد زين هذا السهم بالدمى التي تصور طفولة المسيح والملائكة التى ترعاه.
ودخلت الكنيسة فألفيتني في جو رهيب.. ظلمة مثيرة تتخللها الأسرار وترنق في أرجائها الاشباح، وزرقة غارقة يناظرها لون ذهبي براق، وكلاهما يملاء الفراغ بالتهاويل التي تستروحها النفس ، وتخلل المكان صفان من الأعمدة ترتكز عليها عضلات القباب . وعلى الجدران تستقر أقواس ثلاثية الفصوص ، وللاعمدة تيجان تزدان بأوراق شوكة اليهود، وفِي الارضيّة أحجار قبور ترقد تحتها عظام الكهان.
وشي السقف من الداخل بألوان متعددة .وتناثرت في عرضه ثلاثة لوحات أهمها لوحة الألهة الأم التي ادهشتني ووقفت أمامها أكثر من ساعة كاملة متأملاً مأخوذا مذهولاً .. الأم مريم تخرج من قبرها بوجهها الوضيئ وعيناها تبعث ابتسامة الرضى وغطاء الرأس الذي رسم باللونين الأحمر والأخضر راح يعكس حمرة زاهية على خديها وزاده حمرة فضاء اللوحة الموشى بلون أرجواني تتخلله خيوط بيضاء متعرجة .. وضع على رأسها تاج النور الذهبي وهو ذات النور الذي ينبعث من القبر الفارغ في أسفل اللوحة التي قامت منه العذراء، أما غطاء القبر فقد لوّن بلون داكن كي يوحي أن هذا المكان الفارغ الخاوي حزينٌ على مغادرة الجسد الألهي له .. الملائكة الأطفال الذين أحاطوا بمريم كانوا في غاية الجمال والبهاء، وأشد ما يبدهك في هذا اللوحة منظر التلاميذ والنسوة فقد بلغٓ بهم السرورُ مبلغاً لقيام مريم من قبرها وصعودها في الفضاء طائرة الى أعلى .. ماتت البتول ووقف بين يدي جثمانها الْحَوَارِيُّونَ وعلى وجوههم مسحة من الحزن الساجي الرقيق ، وفِي المساحة ذات القوس المنكسرة في الوصيد ترى الابن وهو يتوج الام ، وهي تجلس عن يمينه ناعمة بالحضرة الابدية، على يسار اللوحة في طرفها الأسفل ترى يوحنا الحبيب ، ذو التدين المشبوب يجثو على ركبتيه عند عند قدمي العذراء ومجامر البخور يحملها نفرٌ من الْحَوَارِيُّونَ تنشر عبيرها فوق الجثمان المقدس، وملكان أحاطت بهما هالتان رائعتان يحملان روح العذراء إلى المقام الاسمى ، وهي على هيئة طفل صغير مقمط ..
وفِي يمين اللوحة من أعلاها المسيح يتجلى في اليوم الثالث يحفُ بموكبه رؤساء الملائكة ، فبعث في إمه الحياة ، وهرع الملائكة حولها منهم من يضع التاج على رأسها، ومنهم من يخلع عنها أكفانها أو يرفعها عن أكتافها، وجوه الملائكة جميلة فيها روعة التعبير وسماحة الحركة ، منهم الحالم المتأمل، ومنهم المشرق بنبل الرسالة التي يؤديها نحو العذراء، ألوان اللوحة زاهية براقة وكأنها خطت بالامس القريب، ويخيل للناظر إليها أنه يشارك في هذه النعمة الكبرى، وكل هذا الرسم البالغ يكشف عن عارمة العواطف التي كانت تجيش في نفس الفنان الذي رسم تلك الوجوه الناظرة، هذا وقد مضت عليها ثلاثة قرون فكيف كانت لما أن كانت هذه اللوحة في شبابها؟!

أما اللوحة الثانية فهي المسيح على الصليب .. لوحة تبعث في النفس الألم والحزن والأسى والرهبة والخوف، تختلط عليك المشاعر حتى تغيب تماما، وكأنك أمام المشهد التاريخي الذي حكاه الكتاب المقدس حاضر هناك بكل تفاصيله ، واغرب ما في هذه اللوحة كيف تلاحقك عينا المسيح .. حتى تخترق مجاهل وعيك ، وكأنه يقول: أنا هنا لأجلك، كان عليّ أن أدفع هذا الثمن كي أخلصك من خطيئة أبيك !! لوحة راح الرسام العبقري يحرك فيها الحدث داخل الزمن ليخترق الذات ويشرخ الروح ويحطم النفس .. حتى لكأن قطرات الدم التي تفر من جبين المسيح وجسده لا تزال حارة تكاد تلمسها بيديك وتكاد تلمس ذؤابة الرمح التي غرست في جسده .. اللوحة الثالثة كانت للمسيح وهو ينزل عن الصليب لوحة تسكب في النفوس مزيدا من الحسرة والألم والبكاء المر ..
يقال أن هذه الكنيسة قامت على موضع مقدس طاهر حيث لا تزال بقايا هذا الموضع ماثلة الى يومنا هذا ، كهف احيط باللأواح الرخامية التي تعددت ألوانها بين الأخضر والأحمر والأسود من جميع جوانبة إلا من فتحت صغيرة تسمح بمرور النظر الى بهو واسع من الداخل، تضيئه أحجار العقيق واللازورد، وثمة مذهبات طليت بها أحجار القبر الكبير الذي يرقد تحت أربعة من الشمعدانات، و ضوء خفيف يسري متدليا من فتحة واسعة في أعلى الجرن المثبتّ فوق السطح .. وهو جرن صغير من الرخام الاسود عليه ثلاثة رسوم نافرة من خارجه، رسم للملاك الطاهر، ورسم للأم البتول وهي تحمل وليدها، والرسم الثالث لا يكاد يظهر منه إلا بقاياه، خيوط نور لكن أنّا لنا بمنبعها... يال الخسارة .. لو أن مصدر الضؤء اتضح بشكل أتم لكنا رحلنا رحلة في التأويل لا تعادلها رحلة .. .. تنفذ الأشعة من فتخة صغيرة في قعر الجرن عندما تتعامد الشمس عليه وقت الظهيرة، وقد حفر على حواف الجرن من داخلة احفورة على شكل قناة تنساب بشكل مائل لتخرج من احدى حوافه، كيما لا تسمح لمياه المطر بالدخول الى البهو الذي يرقد فيه القبر. تتهادى خيوط الشمس بدعة فتنعكس على تلك الحجارة في كل اتجاه داخل القبر بألوان تميل من الأحمر الى الأزرق كأنها تحاكي قصة الخلق الأولى.. ثم تردتد هذه الأشعة على فضاء البهو الذي يحيط بالقبر في اشكال متقاطعة تخلب لب الناظر . اية معجزة تلك...؟! ومن هو هذا الراقد في القبر الساكن في القلوب والنفوس المليئة بالايمان النقي ؟!
أقيمت الكنيسة وفق نمط عمراني يحاكي فلسفة التجرد والمزج بين ما هو روحي وبين ما هو مادي، ويكفي أن تنظر الى طريقة التدوير في المباني وطريقة التدريج من الأسفل الى الأعلى التي تحدد مستوى النظر .
الكنيسة من الداخل اشتملت على صحن مستطيل وثلاثة درجات تصل إلى المذبح الصغير الذي قام خلفه تمثال من البرونز للمسيح .. استند سقفها إلى عشرة أعمدة من الرخام الأبيض المصقول ، وترتبط الأعمدة بأقواس تتقاطع فيما بينها مما يعكس هذه الابهة الفريدة التي يتربع عليها البناء. مع الإبقاء على المساحة الرائعة للسقف بشكل يقترب من الكمال المعماري ، لقد طرأ على هذه الهندسة البسيطة تطور معقد ولكنه فاتن خلاب، فأضحت كنيسة رومنسية ،حيث قطع الصحن والطرقتين المجاورتين له صحنٌ عَرضي يجعل التصميم العام على شكل صليب .
المدخل الرئيسي يتألف من باكية ذات تجويفات متداخلة أي أن أبعد العقود من الداخل يعلوه عقد أكبر منه يمتد إلى الخارج، ومن فوقه عقد يعلوه عقد ثالث أكبر من الثاني، ويتكرر هذا الوضع حتى تبلغ العقود ثلاث طبقات تزيد جمال عقود الصحن وأكتاف الشبابيك. ويتسع كل رباط حجري من العقد المعماري لعدد من التماثيل و غيرها من الزخارف المنحوتة، وبذلك يصبح مدخل الكنيسة وبخاصة في الواجهة الغربية، وكأنه فصل شامل واف في كتاب القصص المسيحي الحجري.
ومما زاد في روعة الواجهة الغربية ومهابتها أن أقيم حولها من الجانبين برجان، ، ولم تكن تستخدم الأبراج في الطرازين الرومنسي والانجليكي مكاناً للأجراس فحسب، بل كانت تستخدم فوق ذلك لتحمل ضغط الواجهة الجنوبي، وضغط حجارة الأجنحة. كان جزؤها الأكبر مفتوحاً عند قاعدته، وكان البرج بمثابة فانوس ينفذ منه الضوء الطبيعي إلى وسط الكنيسة. وقد أراد المهندسون المولعون بالأوضاع الرأسية أن يضيفوا برجاً رفيعاً مستدق الطرف لكل واحد من هذين البرجين، غير أنه لم يسعفهم ربما الوقت أو الحماسة، وسقطت هذه الأبراج المستدقة كما حدث في كنيسة ( دنيدن ) التي إنهارت بفعل زلزال عنيف ضربها وكانت تماثلها روعة وجلالا ... البرجين يشرفان على الوادي وعلى القرية وكأنهما شاهدان مؤذنان بدنو الأجل وخلاص الروح التي تسبح في فضاء هذا الوادي الغارق في سكونه وهدوئه .. علق في أعلى البرجين ناقوسين عظيمين ويقال أنه دخل في مزيج البرونز الذي صنعا منه كمية من الذهب ، وهو الامر جعل صوت الناقوسين بالغ النقاء حال قرعهما. وكان الضرب عليهما يتم بفارق محسوب بدقة، بحيث يقرع الأول وبعده بثواني يقرع الآخر فكان الصوت يتلاحق بطريقة مذهله وكأنه سمفونية مفعمة بنشيد الخلود يتردد في جنبات الوادي صداهمها فلا تحس الاذن بانقطاع الصوت طيلة ساعة كاملة خاصة في مساء السبت وصباح الأحد اما في الأعياد فكانت تلك الترانيم ودقات الأجراس تستمر وقتا أطول بكثير ......
معمار الكنيسة إذن غلب عليه الفن الانجليكي الفريد، وميزة هذا المعمار هي التجرد من الترشيمات وتمكين الهندسة من ملء الفراغ ، والعمل على تزويد المشاهد بانطلاقة نحو الأعلى كيما يتمكن من التقاط كلمات الروح القدس ويصبها في قلبة ، أو كمن يأخذ بيدك الى أن يجعل زاوية النظر تمتد في الأفق بحيث لا يقطع سبيلها مؤثر ما، أو عائق بصري أوفكري .. وكأن الكنيسة كلها تثب الى أعلى وتسبح في ملكوت الفضاء خصوصاً اذا ما حانت منك التفاتة الى عقودها المزدانة بالتماثيل ، ففي كل عقد من عقودها تنتشر أعدادٌ من التماثيل التي لا يعلم من نحتها أو من أين جلبت، تمثال للقديسة مريم، وتمثال للقديسة حنة، وآخر للمسيح، ثم اثني عشر تمثلا مصفوفة بطريقة عجيبة تخلب لب الناضر وهو يتأمل دقة الصنعة فيها ومساحة الخيال الرهيف للناحت الذي أبدعها على هذه الشاكلة الفريدة العجيبة .
غطي السقف بالقرميد الأحمر وحال أن تنعكس عليه أشعة شمس الصباح الوضيئة يغمر النفس بإحساس مشبوب يطلق الروح من عقابيلها الأرضية ومن إسارها الشارد وجروحها النازفة ومن ثقل العقل، حتى يبدو عالم الروح والعقل عالم واحد لا فواصل بينهما ولا حدود ، بل وحدة شاملة يتحول فيها الانسان الى طيف ملائكي يسير عل الأرض .. وما يزيدك بهجة وفرح لا حدود له ، هذا الينبوع الذي يدلف من تلك الصخرة الباكية في الجانب الشرقي للكنيسة بخريرة اللطيف الذي يطرب الحياة في داخلك وهو يتلوى في قناته التي بنيت من أحجار البازلت ، منحدرا حتى يصل الى بطن الوادى الكبير ، ولعل أجمل ما في هذا الينبوع الدافق من روح الحجر، هو طعم المياه الذي تعطره أزهار الياسمين التي تتساقط في قلبة، فتزكوه شذا وعطرا يأخذ بجماع الذات فكأنه رسالة خالدة من رسائل السماء، حملها نبي شع نوره في أفق بعيد وراحت أنفاسه تمرح في أمواه الينبوع الرحبة السعيدة زهواً لحياة مفعمة بالايمان والدعة ، وشرابا خالدا يغذو الأرواح الهائمة زاد خلودها .
وإما بدهك منظر القوس القائم على عمودين من رخام برزت على تاجه رسوم متقاطعة لا تتكاد تتبينها حتى تأنس في نفسك السكينة خصوصا مع انحناءالعمودين قليلا الى الداخل مما يجعلهما يغفوان على الصخرة وكأنهما يحتضناها بدعة أو بشفقة، وكأن الفنان الذي صممهما على هذا النحو أراد أن يطلق خيال الواردين الى هذا الينبوع، بسياق من الترميز الشديد البالغ التأثير فهذه عين الحياة ، والتي جعلها الثالوث الاعظم في قلب هذه البقعة الطاهرة من الأرض...
كل شيء حول الكنيسة موزع بتناغم ، البيوت تتوزع في تؤدة وهدوء منحدرة من أعلى الى أسفل، تتكون في اغلبها من طابقين ، وقد ابتعدت عن الكنيسة في مساحات متساوية لتترك فضاء رحباً وواسعاً حولها ، بحيث تستقل الكنيسة بمكانها وبروحها وبشعائرها وأنغامها وصلواتها، الطابق الأسفل في كل بيت مكون من بهو واسع هو مكان الجلوس ، يحرص اصحابه على أن يفرشوه فرشا بسيطا بعيدا عن الأبهة والفخامة، ودلالة ذلك ترك مساحة تشي بعمق الإيمان والسكينة والابتعاد عن مظاهر الحياة المادية، وفي جوانب البهو تتناثر العديد من التماثيل الدينية وصور المسيح والعذراء وصور القديسين ..
ويحرص كل بيت على وجود مبخر نحاسي له ثلاثة أجرنة متساوية يوضع بها نوع من البخور تنبعث رائحته في فضاء البهو كل حين ، يصعد من البهو درج الى الطابق الثاني الذي ينتهي الى غرف النوم ، أما اسطح المنازل فعادة ما كانت تغطى بالقريمد الأحمر في محاكاة على ما يبدو لسطح الكنيسة ، تحيط بكل بيت منها أسوار من اشجار الصنوبر والسرو، وهي اشجار تكثر في هذه المنطقة ، ميزتها أنها دائمة الخضرة طوال العام ومنظرها يأخذ باللب في جسدها الملفوف بهندسة رائعة ساحرة تبدأ بلإتساع ما أمكنها عند قاعدة الجذع ثم تأخذ بالأنساب الضيق كلما ارتفعت نحو الاعلى ، على نحو بالغ الدقة، واجمل ما في هذا النوع من الأشجار هو عندما تهتز بفعل هبات النسيم تطلق تلك النغمات العذاب وكأنها تسابيح تحوم بالفضاء، خصوصا عندما تخالطها نغمات الارغن المنبعثة من قلب الكنيسة أثناء اداء الصلوات فتختلط تلك بهذه، مشكلة سمفونية الروح والطبيعة .. وآناء الليل عندما يرف القمر بنوره الباسم يهتبل المنظر أمامك وانت تري هذه الأشعة الوردية وقد نفذت من المساحات الضئيلة بين الاشجار لتنعكس على الشوارع او على جوانب الدور التي بنيت أغلبها من الحجر الأحمر القاني وهو ذاته الحجر الذي بنيت منها جدران الكنيسة، تنعكس ضلال الاشجار وضوء القمر ليرسم تلك اللوحات التي تتراقص أمام ناضريك في بداهة ودهشة...
وفي داخل الحديقة المحيطة بالبيت تنتثر اشجار دائمة الخضرة تلتف في عقابيلها وسيقانها عرائش فاكهة الكيوي هذه الفاكهة البديعة التي لا تنمو في بلد آخر غير نيوزلندا، أما اشجار البارميين التي تتسلق حواف الجدران وأسوار الحدائق فما ابدعها وهي تنثر عطرها في كل اتجاه، خصوصا في فصل الربيع وبداية فصل الصيف إذ ترف أزهارها باللون الأبيض واحيان في الاصفر وما أروع أن تشاهد هذه الأزهار تتساقط على الأرض وتنتشر في عرض المكان وطوله، وفي هذه الحدائق الغناء تكثر أنواع الطيور وتتعدد وهي تتقافز من شجرة الى اخرى، وأخص ما يشدك هنا الهداهد الوضاءة الجميلة التي حرم صيدها، أو حتى ازعاجها، وهي ترسل أعذب الألحان عندما تصدح في ساعات الأصيل ، وهناك طأئر النورس بأنواعه والوانه واحجامه التي تنثر ألحانها الشهية في رقة ودعة خاصة اذا ما اختلطت مع هديل الحمائم التي يحرص كل بيت في هذا الحي على اقتناء اسراب منها كثيرة، وما اجمل أن ترى تلك الأسراب وهي تجوب الفضاء في المساء بأعداد كبيرة تتلوي مع الريح يمنة ويسرة هبوطا وصعودا ثم تتساقط فرادى على أسطح المنازل عندما يجن الظلام ، كم تساءلت عن معايير الجمال أين تختفي عندما تتنفس هواء القداسة الإلهية الذي يمرح متراقصا في هذا المكان العابق بالسحر في هذا الحي ، وما يحيط به من هضاب واودية ترف فيها الأمواه الدالفة من الصخور الباكية والبساتين المتانثرة على صفحات الهضاب وفي القيعان وعلى حفافي مجرى السيل العرم وعلى جانبي النهر أو في السهول المترامية على أطراف المدينة.. تلك المدينة لعمري نغمة من نغمات الوجود الخالد ولحن من الحان السماء في لحظة صفو من لحظات ارادة الحياة الكبرى..
ثلاثة أشياء تركت انطباعا جميلا لدي خلال زيارتي كنيسة اويكييا لم أستطع التخلص منها لايام لاحقة ،الأول هو طريقة الصلاة، والثاني هو الفضاء الرحب الجميل داخل الكنيسة ، والثالث هو تلك المويسقي الهادئة الناعمة التي كانت ترافق أداء الصلوات ... العبرة وراءالصلاة الجماعية في الكنيسة لطيفة .. تقول : كما أن المسيح تجسد في أحشاء مريم عندما هبط عليها الروح القدس ، فالمؤمنون جميعا في هذه الحياة هم جسد المسيح الكوني بالروح القدس وبنعمته التي تحل عليهم في الكنيسة التي تمثل مريم العذراء، فالروح القدس يجسد كل الحاضرين ويصبح المسيح هو المصلي فيهم ، فكأنهم في داخل رحم الكنيسة جسدا واحدا كما كان المسيح جسد واحد في رحم مريم.. فالكنيسة هي مريم بالنسبة لهم و عندما يحل الروح القدس يرتفع المصلون الى القدوس العلٌي ، وليس القدوس العلي هو الذي ينزل..الخ ، فيصبح كافة المصلون روحا واحدة وجسدا واحدا، هذا مع ما يخالطه الكاهن من تسابيح وترانيم وأدعية يرددها الحاضرون بسكينة ودعه وحزن وفرح تمتزج المشاعر حتى لا يبقى سوى احساس واحد مفعم بشعور واحد هو الشعور بحضور المسيح الذي يطغى على كل شيء..
أما فضاء الكنيسة فيشعرك بجلال المعنى وراحة النفس وسكينتها.. أما الموسيقى فهي وحي الله الحي الذي يغمر روحك بالفرح والسعادة ..
مضى النهار وإنتشر عبير الليل في أزقة المدينة اللزبة الناعسة، ورفّ الهلال الرقيق فوق أسطح المنازل، وأغلق الحارس باب الكنيسة، لكن البرج السامق ظل ساهراً يرعى بعيونه العديدة المدينة التي لا تأوي للنوم بسرعة كما هي سائر المدن في نيوزلندا.. فودعت الكنيسة متخذا سبيلي في الدرب الضيق الذي يشق المنازل طولا وعرضا، البيوت هنا على جانبي الدرب جللها القدم وعبث الزمن بأعطافها وحلا له أن يبني له فيها أوكاراً وأوجاراً .. ما أتيت كنيسة أوكييا إلا حاجاً لكعبة من كعبات الفن الرفيع في هذا البلد، ناشدا وحي الصمت وسكون الروح، وهدأت النفس، وما أن وصلت الى ميدان فيكتوريا الساحة الرئيسة للمدينة حتى ترأءت لي حياة أخرى وعالم آخر .....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قبل انطلاق نهائيات اليوروفيجن.. الآلاف يتظاهرون ضد المشاركة


.. سكرين شوت | الـAI في الإنتاج الموسيقي والقانون: تنظيم وتوازن




.. سلمى أبو ضيف قلدت نفسها في التمثيل مع منى الشاذلي .. شوفوا ع


.. سكرين شوت | الترند الذي يسبب انقساماً في مصر: استخدام أصوات




.. الشاعر أحمد حسن راؤول:عمرو مصطفى هو سبب شهرتى.. منتظر أتعاو